صحيفة المثقف

وجهة تحليلية في النقد اليوناني حول قصيدة (يأس بينيلوبي) للشاعر يانس ريتسوس

جمعة عبد اللهتعريب: جمعة عبدالله

قصيدة (يأس بينيلوبي) للشاعر يانس ريتسوس كتبها خلال وجوده في المنفى في جزيرة (لرو / Λερο) عام 1968 . تضمنت عدة اتجاهات تعبيرية من خلال السرد الملحمي للقصيدة وبالسرد في الضمير الغائب وهو بمثابة العين البصيرة للاحداث الجارية في السرد الملحمي، في الاستعانة بملاحم الشاعر (هوميروس) في (الالياذة واوديسيا) جعل هذا المورث الحضاري عكازة ينطلق منها في جملة منطلقات وغايات يريد توصيلها الشاعر الى الرأي العام، من حلال استلهام الحكاية الاسطورية (بينيلوبي واوديسيا)، وربطها بالشعر الحديث والواقع الحديث الجاري، في الابعاد الدلالات الرمزية والفكرية في شأن الحالة النفسية والاجتماعية والسياسية، في مسائل مهمة تربط الماضي بالحاضر، او ان الماضي يخلقه جسراً للعبور الى الحاضر الحديث، بما يحمل من اثقال سياسية واجتماعية . مثقلة الصراع السياسي والايديولوجي لاحزاب اليسار،ومسألة الحرب، والحالة النفسية المدمرة التي هي من ثمار الحرب او المنفى، لذلك يصب جام غضبه على الحروب والمنافي، التي تدمر وتشوه الحياة والحب وحتى الجمال، وهو يربط بين (رجوع اوديسيا من حرب الطروادة، وخروج الشاعر يانس ريتسوس من المنفى عام 1968) هذا الموقف الدراماتيكي بين الطرفين (اوديسيا وريتسوس) في مواقف متداخلة تحمل في طياتها، معاناة ومأساة في رجوعهما . بما يحمل العائد من نفسية مرهقة في البعد عن الزوجة والاهل، عشرون عاماً من غياب (اوديسيا) وكذلك عشرون عاماً من السجون والمنافي لشاعر يانس ريتسوس من عام (1948 الى 1968 / مع الانفراجات الموقتة) لذلك تحاول القصيدة تجسيد الحالة النفسية للعائد، بهذا السرد الملحمي وبعدسة التصوير، من خلال الاثر الاسطوري والملحمي، لكي يسلط كامل المأساة في ابعادها واتجاهات المختلفة والمتنوعة . من احداثها الجارية وغاياتها بالصادمة، بالحالات النفسية والرمزية، وفي جملة تداعيات يمكن تلخيصها بالشكل الاتي:

 1 - مسألة الحرب: تحاول القصيدة ان ترسم الابعاد التدميرية للحرب ونتائجها الكارثية المهلكة . اوديسيا كان ملكا على (ايثاكا) شاب مفتول العضلات قوياً وسيم الطلعة عشيق النساء . كان يملك كل شيء في متناول اليد في مباهج الحياة والرفاه . ممتلئ بالجرأة والاقدام، وكان يحب زوجته (بينيلوبي) اشترك في حرب الطروادة، وطال غيابه عشرين عاماً . وبالتالي رجع عجوزاً متسولاً بائسا في لحية بيضاء وملابس ملطخة بالدماء، في حالة يرثى لها . وكان ظهوره بهذه الفاجعة بالصدمة غير المتوقعة . ويبدأ المشهد التصويري . حين وقف امام زوجته، التي تطلعت اليه باستغراب وتعجب صادم بين الانكار والقبول .

ليسي صحيحاً، انها لم تتعرف عليه عند المشعل،

متنكراً بأسمال المتسول

هذا الموقف الصادم في تداعياته . راحت تنبش في عقلها هل هذا الوقف امامها حقاً (اوديسيا) ؟، وراحت تفتش في مخليتها عن ملامح وهيئة زوجها كما تحمله في ذاكرتها . لانها لم تصدق من هول المفاجأة ما تراه، في هذا الرجل العجوز الرث بالملابس الملطخة بالدماء . لكنه يحمل من بقايا آثار (اوديسيا) . الندبة في الركبة من عضة خنزير، العيون التي تتطلع بأنفة وشجاعة، وهي تحمل الذكاء والمكر، .

سيماء جلية

ندبة على الركبة، الشجاعة والمكر في العينين

 مذعورة .

 حقاً اصابها حالة من التخبط والارتباك . وأتكأت على الجدار، لكي تلتقط انفاسها الهاربة واللاهثة، لتعيد توازن تفكيرها، لتكون قادرة على الاجابة، بعيداً عن المواجهة المتخبطة بالانفعال النفسي المرتبك . باحثة عن اعذار تنتشلها من هذا المأزق . لكي لا تفضحها حالة الاضطراب . وراحت تعيد شريط السنوات العشرين الماضية، التي تحولت الى مأساة، الى رجل متنكر بثياب عجوز متسول، الى رجل عجوز مهشم . كأنها في هذا المأزق احرقت كل سنوات العمر الماضية .

ألاجل هذا الرجل العجوز الرث

أضاعت عشرين عاماً منتظرة، حالمة ؟

ألاجل هذا الملطخ دماً

المبيض اللحية .

نظرت اليه بأسى وحزن كأنها تنظر الى داخلها بأسى وحزن، وانهارت على الكرسي بأن احلامها ورغباتها احترقت وتحولت الى رماد، وهي تعيد شريط الغياب، عشرين عاماً . كيف كانوا يتدفقون الخاطبين طالبي الزواج، يتقاطرون على قصرها يودون الظفر بالزواج منها . وكيف كانت المنافسة الشديدة المحتدمة بينهم والتي تؤدي الى الصراع العنيف، والقتال فيما بينهم، كل واحد يريد ان يكون هو ظافر والمنتصر وحده دون الاخر . وكيف كانت تنظر اليهم وهم يتهاوون قتلى، تخيفها صورة جثثههم المتناثرة في باحة القصر، هذا كان الماضي الاسود بكل تداعياته، بما تحمل من ذكريات فاجعة ومأساوية . في جثث طالبي يدها للزواج . كل جريرتهم بأنهم كانوا يطلبون الزواج منها . لذلك لا تتحمل هذه المناظر المأساوية وانهارت .

أنهارت واجمة على الكرسي

ناظرة بأسى الى الخاطبين، المطعونين، يتهاوون قتلى على الارض .

كما لو انها ترى رغباتها ميتة

 وهي تتصور ان رغباتها واحلامها ماتت، واندثرت في هذا القفص المغلق . كل شيء تمزق وتحول الى رماد . كل الالوان التي كانت تغزلها اصبحت سوداء، لتجر انفاسها جراً بعبارة (مرحباً بك) كأن صوتها يأتي من بعيد

’’ مرحباً بك ’’

كانت تسمع صوتها، قادماً من البعيد

كأنه صوت سواها .

منوالها في الزاوية

يعكس ظلالاً على السقف، كالقفص،

لكل الطيور التي نسجتها بخيوط حمر،

بين اوراق خضر:

 وبأنها لا يمكن ان تطير عالياً، سوى الطيران المنخفض في خاتمة المأساة المنتظرة .

 طارت منخفضة في سماء خاتمة الانتظار .

2- مضامين الريبة والظنون: من خلال اشارات مبطنة، تلوح في معانيها بالظنون والشكوك والريبة . في تسعف في مسألة الحفاظ على رابطة الزوجية وعفتها واخلاصها . ان مواقف (بينيلوبي) من خلال مأساتها، تتجه بقوة الى الريبة والشكوك التي تدور حولها . وفي ذهنها وبالها شريط جثث القتلى من الخاطبين، الذين كانوا يتزاحمون على قصرها، بهذا الشكل من الصراع الدامي، مدى قدرتها المحافظة على رباط زواجها . امام هذا الاغراء الكثيف والحرمان الذي تعاني منه، والخاطبون يتساقطون حولها. هل انساقت الى مدارات غرائزهم بالخفية المبطنة، وهي تتذكرهم بالاسى والحزن .

ناظرة بأسى الى الخاطبين المطعونين، يتهاوون قتلى على الارض،

كما لو انها ترى رغباتها ميتة

 لماذا تحمل هذا العطف اليهم بالاسى (ناظرة بأسى) هذا الموقف ربما أنه ضمن غلاف أنساني، ولكن ربما يتجه الى شيء آخر، بأن ترى جثث القتلى مرمية حولها ويصيبها الاسى، ربما تحمل الحنين المبطن اليهم . او قد ربما استجابت لحرمانها الجنسي، لهذا زفرت بقهر ولوعة بأنها تطير منخفضة في في خاتمة الانتظار .

طارت منخفضة في سماء خاتمة الانتظار .

3 - الجوع والفقر السياسي: ينطلق الشاعر من موقفه الرافض للخلافات السياسية والايديولوجية القائمة آنذاك عام 1968، التي ادت الى الانشقاق في احزاب اليسار، وانشغالها بصراعتها الخلافية، في عام خروجه من منفى جزيرة (لرو / Λερο) في نفس العام المذكور . ليجد حالة المزرية والمأساوية لاحزاب اليسار، تشبه حالة رجوع (اوديسيا) بعد غياب عشرين عاما، يجد الشاعر التمزق السياسي المتخبط، اضافة الى استلام العسكرية الدكتاتورية مقاليد الحكم في البلاد . يشبه هذه الصراعات السياسية، مثل الخاطبين الذين يتزاحمون على طلب الزواج من (بينيلوبي) . فأحزاب اليسار تتصارع فيما يبنهم من اجل الفوز بزواج (بينيلوبي) لكنهم يسقطون صرعى بالسجون والمنافي، وتشديد الضغط والخناق السياسي عليهم . يعني بخلافاتهم وانشقاقاتهم يبعثرون الحلم والامل، وتصبح ميتة مثلما ماتت رغبات (بينيلوبي) . هذا الهوان والتخبط يعني تدمير لاحزاب اليسار .

هذا ملخص ما جمعته من جملة قراءات نقدية .

للشاعر اليوناني: يانيس ريتسوس

ترجمها عن المجرية: عامر كامل السامرّائي

 

ليس صحيحاً، إنها لم تتعرَّف عليهِ . واقفاً عند المشعل

متنكراً بأسمال المُتَسوّلِ،

كلّا -

سِيماء جَليّة:

ندبة على الرُكبة، والشكيمة في العينين الماكرتين.

مذعورة

اتكأت على الجدار، باحثة عن عُذرٍ ما،

عن قليل من الوقت تتفادى به الإجابة،

كي لا تُفشي أفكارها.

أ لِأَجْلِ هذا الرجل العجوز الرث

أضاعت عشرين عاماً

منتظرة، حالمة؟

أ لِأَجْلِ هذا الملطخ دماً،

المبيض اللحية؟

انهارت واجمة على كرسي،

ناظرة بأسى إلى الخاطبين، المطعونين، يتهاوون قتلى على الأرض:

كما لو إنها ترى رغباتها تتساقط ميتة، وقالت أخيراً:

"مرحباً بكْ"،

كانت تسمع صوتها، قادماً من البعيد

وكأنه صوت سواها.

مِنْوَالُها في الزاويةِ

يعكس ظلالاً على السقف، كالقفص،

لكل الطيور التي نسجتها بخيوط حمر،

بين أوراق خضر:

والتي استحالت بغتة، ليلة عودته، رمادية، وسوداء

طارت منخفضة في سماء خاتمة الانتظار

***

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم