صحيفة المثقف

ابن باجة.. الفلكي الشاعر الفيلسوف الذي قتلوه بالسم!

يسري عبد الغنيله مكانة كبيرة عند الغرب حيث أُطلق عليه اسم "Avenpace"

ابن باجة هو محمد بن يحيى بن الصَّائغ بن باجَّهْ، أبو بكر التُّجِيْبِيُّ الأندلسي السَّرَقُسْطِيُّ، الفيلسوف الشاعر، وباجَّه تعني الفضة بلغة فرنج المغرب، وقد وُلِدَ في سَرَقُسْطة الأندلسية أواخر القرن الخامس الهجري.

كان يضرب به المثل في الذكاء، وآراء الأوائل، ومعرفة الأنساب، والطب، والموسيقى، ودقائق الفلسفة، يُنَظَّرُ بِـالفَارَابِيِّ، وعنه أخذ: ابن رشد الحفيد، وابن الإمام الكاتب، وبالإضافة إلى ذلك؛ فإن ابن باجة يحظى بمكانة عالية وتقدير علماء الغرب له الذين أطلقوا عليه اسم Avenpace.

عُرِفَ ابن باجة بفصاحته في شعره وكماله في الغناء والموسيقى، بيد أنَّ أسلوبه في كتبه الفلسفية دقيق، وعباراته عويصة غامضة لا تخلو من الإغلاق والصُّعوبة، على أن تلميذه ابن الإمام يرى بغير ذلك، فقد نَطَقَ بفضله وبراعته في الإفهام والتفهيم، وبحُسن فهمه أرسطاطاليس، وقد يشهد في كتابه “في النَّفس” على أنَّه سهلٌ ممتنع في كثير من مواضع هذا الكتاب الشَّهير.

أحمد أمين يتحدث عن ابن باجة في كتابه “ظُهر الإسلام ”قائلا....رأى أنَّ الإنسان إذا ارتقَى بَلَغَ في ارتقائه أن يتصِّلَ بالله، وتنكَشِفُ لهُ الحقائق، ويشعُرُ من ذلك بلذَّةٍ أكبر من كُلِّ لِذَّة، ويحدُثُ ذلكَ للإنسانَ في لحظاتِ تجلٍّ، وهي نظريةٌ صَرَّحَ بها أفلوطين، واعتقنها كثيرٌ من النَّصَارى والمُسْلِمين في القُرونِ الوُسْطَى؛ كابن طُفيل وابن رُشْد والغزالي وابن عربي وأمثالَهُم.. وقَد جَعَلَهَا ابن طُفيل هي غايةُ الغايات في رسالتهِ حيِّ بن يقظان، وقال: إنهُ وصَلَ إلى هذهِ الدَّرَجَة أولاً على فتراتٍ طويلةٍ ثمَّ على فتراتٍ قصيرةٍ.

اشتغل ابن باجه بالسياسة، حيث كان وزيراً لأبي بكر إبراهيم صهر علي بن يوسف المرابطي، الذي كان والياً على غرناطة ثم على سَرَقُسْطة.

ويذكر حافظ قدري طوقان أن ابن باجَّهْ كانت له ملاحظات قيِّمة على النظام الفلكي الذي وضعه بطليموس، فقد انتقد هذا النظام وبيَّن مواضع الضعف فيه، وقد أَيَّدَ سارطون هذه الفكرة، وقال: “إنَّ البِطْرَوْجِيَّ تأثر بآراء ابن باجَّهْ في الفلك”، كما أن ابن البيطار استشهد في كتابه «الأدوية المفردة» بابن باجَّهْ، واعتمد على رسالته في الطب.

كان شاعرا مجيداً، من شعره:

أَسُكَّــانَ نَعمــــانِ الأَراكِ تَيَقَّنـــوا.. بِــأَنَّـــكُــمُ في رَبعِ قَلبِيَ سُكَّانُ

وَدوموا عَلى حِفظِ الــوِدادِ فَطــالَما.. بُلينــا بِأَقوامٍ إِذا حُفِظوا خانوا

سَلــوا اللَّيلَ عَنّي مُذ تَناءَت دِيارُكُــم.. هَــلِ اِكتَحَلَت بالغمضِ لي فيهِ أَجفانُ

وَهَل جَرَّدَت أَسيافَ بَرقٍ دِيارُكُم.. فَكانَتْ لَها إِلَّا جُفونِيَ أَجفانُ

ومن شعره:

ضَرَبوا القِبابَ على أقاحـة روضــةٍ.. خَطَــر النَّسيمُ بها ففاحَ عبيرا

وتركْتُ قلبـي ســارٍ بَيْنَ حمـولِهم.. دامــي الكلومِ يَسوقُ تِلكَ العيرا

هلَّا ســألْتَ أسيــرَهُم هَلْ عندَهم.. عَـــانٍ يُفَكُّ ولو سألْتَ غيورا

لا والَّذي جَعلَ الغُصُــونَ مَعَاطِفــاً.. لَــهُم وصَاغ الأقْحُوَانَ ثغورا

مَــا مرَّ بي رِيحُ الصَّبــا مِنْ بعدِهِـــم.. إلَّا شهقْتُ لَهُ، فعَادَ سَعيرا

أشار النقاد إلى حصول تحوُّل في الفكر الفلسفي لابن باجه، والذي كان ذا نزعة عقلية واقعية واتجاه أرسطي (نسبة إلى أرسطو) في بداية حياته الفكرية، ثم اتجه في آخر مسيرته الفكرية؛ إلى تبني أحد ألوان الأفلاطونية المحدثة مع ميل إلى قدرٍ محدود من التصوف.

يعتبر أول من قدَّم إنتاجاً فلسفياً في بلاد الأندلس، إذ لم يسبقه في ذلك إلا بعض أصحاب بعض الاجتهادات والأعمال الفلسفية التي لم ترّقَ لما بلغه ابن باجه، من قبيل انتاج ابن حزم الفلسفي.

العمل بالفلسفة في عصره، كان يتطلب شجاعة وجرأة، لأن ذلك كان يُجابه بمعاداة الجمهور والفقهاء، وبعض الأمراء المشتغلين بالفلسفة، حيث ذكر ابن الإمام أن ملك بن وهيب الإشبيلي، الذي كان معاصراً لابن باجة؛ قد اضطر إلى الرجوع عن الاشتغال بالفلسفة مؤثِراً سلامة العاقبة.

يؤكد على مكانة ابن باجة الفلسفية؛ شهادة معاصِر كبير له، وهو الفيلسوف ابن طفيل والذي يعتبر تلميذاً غير مباشر للأول، حيث تعرَّض الثاني في قصَّة “حي بن يقظان” لوصف مكانة ابن باجة ومؤلفاته وذلك في سياق حديثه عن الحالة العقلية السائدة في الأندلس.

وقال ابن طفيل: “… ثم خلف من بعدهم خلفاً آخر أحذق منهم نظراً وأقرب إلى الحقيقة، ولم يكن فيهم أثقب ذهناً ولا أصحُ نظراً ولا أصدق رؤية من أبي بكر بن الصائغ (ابن باجة)، غير أن شغلته الدنيا حتى اخترمته المنية قبل ظهور خزائن علمه وبث خفايا حكمته، وأكثر ما يوجد له من التآليف إنما هي كاملة ولكنها مجتزأة في أواخرها، ككتابه في النفس وتدبير المتوحِّد وما كتبه في المنطق وعلم الطبيعة”.

وزاد ابن طفيل في سياق حديثه عن ابن ماجة: “وأما كتبه الكاملة؛ فهي كتب وجيزة ورسائل مختلفة وقد صرَّح هو نفسه بذلك وذكر أن المعنى المقصود ببرهانه في رسالة الاتصال ليس يعطيه ذلك القول إعطاء بيناً إلا بعد عسر واستكراه شديد وأن ترتيب عباراته على غير الطريق الأكمل ولو اتسع له الوقت؛ مال لتبديلها، فهذا حال ما وصل إلينا من علم هذا الرجل ونحنُ لم نلقَ شخصه”.

هذه الشهادة -التي تأتي من مفكر وفيلسوف بحجم ابن طفيل- جاءت لتثني على ابن ماجة، لكنها في الوقت ذاته تشير إلى صعوبة النصوص التي خلَّفها وراءه، خصوصاً وأنه كان من نوعية الشخصيات التي تتحدث عن الفكرة ولا تتمها أو تشير لها في مواضع أخرى من كتاباتها.

ينبغي ألا نغفل موقف ابن باجة من كتابات حُجة الإسلام أبي حامد الغزالي، فصحيح أن ابن رشد ردَّ على “تهافت الفلاسفة” للغزالي بكتابه “تهافت التهافت”، غير أن ابن طفيل ردَّ على مضمون ما أورده الغزالي في “المنقذ من الضلال”.

ويقول ابن باجة في هذا الصدد: إن -ما أسماها- إدعاءات الغزالي مشاهدة أمور إلهية وبلوغ قصة السعادة من خلال اعتزاله، ما هي إلا أوهام باطلة، وأن ما ذكره من مشاهداته للجواهر الروحانية مجرد ظن لا أكثر.

يرى ابن باجة أن يؤلِّف الفلاسفة فيما بينهم مجتمعاً خاصَّاً بهم يسيرون فيه في ضوء ما يُملي عليهم المنطِق والتفكير السَّليم، وبهذا يعيشون في منتهى الخير والسَّعادة، فلا يحتاجون عندئذٍ إلى أطباء أو قُضاة، وما الفائدة من وجود الأطباء والقُضاةِ بين أُناسٍ كُلُّهُم أصحَّاء عدولٌ أخيار؟.

ترك ابن باجَّهْ عدداً من المؤلفات بلغت الثلاثين في المنطق، والفلسفة، والرياضيات، والطب، والطبيعة، والنبات، والأدوية؛ لكن ضاع معظمها، ولم يبق منها إلا رسائل وصفحات في ترجمات لاتينية وعبرية؛ منها:

مجموعة في الفلسفة والطب والطبيعيات.

رسالة الوداع.

رسالة تدبير المتوحد.

اتصال العقل.

النبات.

النفس، له قيمة في تاريخ علم النَّفس عند المسلمين، ذلك لأنَّه يُطلعنا على بعض مآخذ كُتُب ابن رُشد ومراجعها، كما يملأ الفراغ بين الفارابي وابن رشد.

تعليق على كتاب العبارة للفارابي.

تعليق على كتاب الفارابي في القياس.

شرح كتاب «السماع الطبيعي» لأرسطوطاليس.

قول على بعض كتاب «الكون والفساد» لأرسطوطاليس.

كلام على شيء من كتاب «الأدوية المفردة» لجالينوس.

اختصار «الحاوي» للرازي.

كلام على بعض كتاب النبات.

قولٌ ذُكِر فيه الشوق الطبيعي وماهيته وابتداء أن يعطي أسباب البرهان وحقيقته.

كلام في الغاية الإنسانية.

فصول قليلة في السياسة المدينة وكيفية المدن وحال المتوحد منها.

كتاب التجريبيين على أدوية ابن وافد، حيث اشترك في تأليف هذا الكتاب، كل من ابن باجة وأبي الحسن ابن سفيان.

ثقول زيغريد هونكه، في كتابها شمس العرب تسطع على الغرب....انطلاقاً من الفيلسوف ابن باجة السرقسطي؛ توارثَ المُفَكِّرون، مدَّة ثلاثة أجيال، رُوح النَّقد، والرَّغبة في البحث عن تياليل (طبيعية) تشرح ظواهِر السَّمَاء بشكل إقناعي، هذا وإن الصِّراع الفكري القائم بين نظريات أرسطو وبطليموس، والذي حَمَلَ لواءهُ في المغرب العربي، تلامذة ابن باجة، ذهاباً من ابن طفيل إلى أبي بكر الرَّازي وابن رُشْد والبطروجي، وانتقَلَ الصِّراع في القرنين الثالث والرَّابِع عشر إلى فرنسا وإنجلترا وألمانيا وخاضَ فيه رجال مثل ألبرت الكبير، وتوما الأكويني، وروجر باكون، ويوحنا بوريدن، وديترش فون فرايبرغ، صراعُ تَرَكَ في بلادِ الغَرْبِ حركةً في الحياة الفِكرية وثورة.

بعد استيلاء ألفونس الأول على مدينة سَرَقُسْطة، هاجر ابن باجَّهْ إلى إشبيلية سنة 513هـ، ثم إلى غرناطة، وذهب بعد ذلك إلى فاس وقصد بلاط المرابطين، وعمل طبيباً به، وهنا تحامل عليه أعداؤه ورموه بالإلحاد والجهل، وتوفي مسموماً في مدينة فاس المغربية، في شهر رمضان، سنة 533هـ وما زال في ريعان شبابه.

حقا وصدقا فأن المجتمع يطغى على الفرد فيُعطِّل ملكاته العقلية، ويعوقه عن نيل الكَمَال بما يغمره من رذائلهِ الكثيرة وأهوانه الجارفة، فالمُجتَمَعُ مرهقٌ بأدناس العُرْفِ والعادات وأنواع الجَهَالات، ولا يستطيعُ الفيلسوفُ إذاً أن يصِلَ إلى الخيرَ والحقِّ إلَّا إذا توحَّدَ واعتَزَلَ هذا المجتمع المؤلَّف من الجَهَلَةِ والغوغاء.

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

...........................

المصادر:

الأعلام (7/137).

بُناة الفكر العلمي في الحضارة الإسلامية (رقم 27).

سير أعلام النبلاء (20/93/رقم 54).

شذرات الذهب في أخبار من ذهب (6/169).

وفيات الأعيان (4/426/رقم 670).

ابن باجه الأندلسي، الفيلسوف الخلّاق ، الشيخ كامل محمد عويضة.

جوانب من فلسفة ابن باجة وتحقيق بعض رسائله الفلسفية، زهور الطالبي.

منطق ابن خلدون في ضوء حضارته وشخصيته، علي الوردي.

كتاب النفس، تحقيق محمد المعصومي.

شمس العرب تسطع على الغرب، زيغريد هونكه.

ظهر الإسلام، أحمد أمين.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم