صحيفة المثقف

طلاقة اللسان ونهضة الروح العربي (2)

ميثم الجنابيالعقلانية واللاعقلانية في الفكر العربي الحديث (4)

لقد توصلت في المقال السابق، إلى أن تنشيط المخزون اللغوي للعربية قد أدى بالضرورة إلى استرجاع التاريخ الأدبي ومن خلاله رؤية النفس بضوء أفعال الماضي وحركات الحاضر وتأملات المستقبل. مما أجبر الأفعال والحركات والتأملات المعاصرة على أن تلبس أحيانا لباس الماضي والتحرك والفعل فيه. وهو لباس يضّيق على الفكر أحيانا إمكانية الحركة الحرة ويهوّرها أحيانا، كما يبكيها ويضحكها في نفس الوقت. انه يساهم في إنهاض الحركة والفعل والتأمل على التفكير بما يجري، ويوقظ في الوعي الاجتماعي قيمة الحكم على ما هو موجود بمعايير وأذواق تجارب الأسلاف. وفي هذه العملية يبدأ تحسس وإدراك الفجوة الهائلة بين الماضي التليد والحاضر الزهيد. آنذاك تصبح طلاقة اللسان إفشاء اخرسا عما في خلد الفعل الناطق من قيم ومفاهيم وأحكام وتصورات. وليس تحرك العقل الناطق من خلال اللغة والتباهي بمفرداتها سوى أسلوب نقد الفجوة الهائلة بين الحاضر والماضي. وهو أسلوب ساهم في تعميق عناصر النظرة النقدية ولضمها مع مرور الزمن في نظام للرؤية الأدبية والاجتماعية والسياسية والقومية

ففي الوقت الذي انتقد به الشدياق كتب التعليم لما فيها من ركاكة اللغة، واستهزأ بكل "المقدسات" التي كانت تتطايح لها رؤوس "العلماء" الفارغة وأجسادهم المليئة، فانه انتقد أيضا التكلف اللغوي والتقعر. واعتبر السجع بالنسبة للكاتب كالرجل من خشب للماشي. ووجد في كلفة السجع اشق من كلفة النظم. وانتقد الاعتقادات الجازمة لأهل الصرف والنحو بان القواعد الصارمة هي أساس الحقائق، وان النحو هو أساس كل العلوم، ومن عرفه تمكن من معرفة خصائص الموجودات كلها. وجعله ذلك يتوصل إلى استنتاج فلسفي لاذع وضعه في عبارة تقول "كنت أميل إلى ما قالته الفلاسفة من كان له ابتداء فهو متناه. فلما رأيت النحو له ابتداء وليس له انتهاء، قست النفس وخلودها عليه". وشكلت هذه الفكرة مقدمة انتقاده اللاذع لتقاليد النحو الفارغة، وبالأخص الاهتمام الشكلي باللغة من مجاز وكناية واستعارة وتورية. واعتبر التمسك الفارغ في رفع الخلافات الصغيرة إلى مصاف المبادئ الكبرى هوس وتفاهة. وشدد على أن كل النحويين الكبار ماتوا وفي قلب كل منهم علة لحرف أو همزة أو كسرة. فقد مات سيبويه وفي قلبه من فتح همزة، ومات الكسائي وفي صدره من فاء العاطفة، ومات الزمخشري وفي كبده من لام الاستحقاق قرح، ومات الأصمعي وفي عنقه من رسم كتابة الهمزة غدة. لقد أراد الشدياق القول، بان الأمراض الصغيرة حالما تغلغلت في قلوب وصدور وأكباد النحاة العظام عرضتهم للعلة والموت، فما بالك من أثرها على هؤلاء المقلدين الفارغين الذين يقضي أحدهم ساعة تامة من اجل إعراب جملة غير تامة!

أدى انتقاد الشدياق لأهل النحو إلى استجماع عناصر النقد المعنوي تجاه اللغة وآدابها، وذلك من خلال نقد ظاهرة ابتعاد اللغة عن تصوير الحياة كما هي. وكتب بهذا الصدد قائلا، بأننا نرى أحيانا المؤلف يذكر مصيبة أحد فتراه يتكلف إيراد الفقرات المسجوعة والعبارات المرصعة ويحشي قصته بجميع ضروب الاستعارات والكنايات. فنرى المصاب ينتحب ويولول ويشكو ويتظلم والمؤلف يسجع ويجّنس ويرّصع ويوّري ويستطرد ويتناول المعاني البعيدة. لهذا رد على أولئك الذين وجدوا في كتاباته ضعفا في البلاغة قائلا، بأنه لم يسع إلى أن تكون كتابته متبّلة بتوابل التجنيس والاستعارات والكنايات. فحالما يكتب لا يخطر بباله التفتازاني والسكاكي والآمدي والتوحيدي والزمخشري وابن المعتز وأمثالهم، وإنما كانت خواطره كلها منشغلة بوصف الجمال، ولسانه مقيدا بالإطراء على الجميل. وذلك لاعتقاده الجازم بان الحسنات البديعة التي يولع بها الكتاب كثيرا ما تشغلهم بظاهر اللفظ عن النظر في باطن المعنى. بل كان يصاب بالحزن في حالة عصيان معنى من المعاني عليه، كما اعترف مرة. فالحزن على عصيان المعنى والبحث عن الجميل هما طرفا المعادلة الحية لاستنطاق العقل الناطق بعد خرس اللغة في قواميسها وقواعدها المكتبية. فعندما أسس أديب اسحق جريدة (الإسكندرية)، فانه كتب في أولى مقالاتها قائلا، بان غايتها واجتهادها يرميان إلى تهذيب العبارة وتقريب الإشارة لتقرير المعنى في الإفهام من اقرب وأعذب وجوه الكلام، وانتقاء اللفظ الأنيق للمعنى الدقيق، متجنبا من الكلام ما كان وحشيا أو مبتذلا سوقيا. فان التهافت على الغريب عجز، وفساد التركيب بالخروج من دائرة الإنشاء داء، إذا سرى في القراء والمطالعين أدى إلى إفساد عام وأغلق على الطلبة معاني العلم. والتنازل إلى ألفاظ العامة يقضي بإماتة اللغة وإضاعة محاسنها. وان لفي لغة القوم دليلا على حالهم.

ذلك يعني أن الهدف من وراء تهذيب العبارة وتقريب الإشارة وجعل الكلام عذبا وشيقا هو تقرير المعنى. وبالتالي، فان حقيقة اللغة في المعنى. والمعنى هو تعبير عن حال، كما أن الكلام الوحشي المبتذل والسوقي هو دليل على وحشية وابتذال وسوقية حالها المعنوي. لهذا أصبح انتقاد حال الأمة في اللغة وانتقاد لغة الأمة في حالها وجهان للروح النقدي الأدبي.

إن سيادة الروح التنويري يعكس من الناحية التاريخية نهضة الروح العربي. فالأدب هو التعبير المتسامي عن الروح والجسد. والروح الأدبي هو تعبير عن اللسان والوجدان والعرفان، والروح النقدي الأدبي هو الحركة المثلى للجوارح (الجسد)، والمنطق الأصدق للسان، والتعبير الأجمل للوجدان والأدق للعرفان. لهذا تبعثرت فيه تجليات الوجود الاجتماعي والتاريخي للكيان العربي آنذاك ومواقف الأدباء منه. فقد أشار بطرس البستاني إلى انه يشعر بالخجل حالما يتذكر ما كان عليه حالة آداب العرب في عام 1859، باعتبارها حالة مزرية على خلفية تاريخ العرب وآدابهم وعلومهم. من هنا انتقاده لحالة العرب الأدبية وحالة الآداب والوسائط (السبل) والأخلاق. فالحالة المعاصرة له مزرية ومتخلفة، والناس تفزع للشعر وشعوره على انه عظيم ولا شيء في الأدب غير حفظ القرآن والزبور ومعرفة أصول العرض والنحو، وعارفه علامّة. وإذا نطق أحدهم بالشعر فلا وصف يوصفه! لذا وجد في العرب المعاصرين له نقيضا لحقيقة العرب الذين تميزوا بالجد والمثابرة والجهاد والصبر. ووجد في هذه الحالة سبب فساد العلم وبالأخص عند من اسماهم بالأكابر. كل ذلك قّيد حالة الأدب، ودحرجه صوب انحطاطه الكلي ولغته الرديئة، بحيث أصبح من الصعب العثور على من يشار له بطرف البنان. في حين يكتفي أحدهم في اللغة بالكلمات الغريبة، ويصعب فهم ما يقولونه في المعاني والبيان. أما المنطق فانه ما زال محظورا بقاعدة "من تمنطق تزندق"! والخطابة عندهم هي مجرد قصص ألف ليلة وليلة، والخطيب هو الخشن الصوت، الحسن الذاكرة، ومقره الشوارع والمقاهي.

في حين جعل الشدياق من النقد الأدبي الساخر أسلوبا لتعرية مثالب الحياة الاجتماعية، وإخضاعها لمبضع العقل الجارح. فهو يستفز الرؤية النقدية تجاه قبح الواقع ومظاهره الرثة عبر جمال اللغة ورفعتها. لذا نراه يورد في كتاباته كل ما يثير في القلب الانتشاء والسخرية المتعالية، وكل ما يجعل من "الصورة الفاحشة" صورة مقبولة ومعقولة لا تصدم العين ولا تخدش السمع ولا تستفز الأخلاق ولا تنفّر النفس الاجتماعية. ففي انتقاده لغة رجال الدين التقليديين يشير إلى أن رأس مالهم اللغوي لا يتعدى أقوال مثل "يحتمل أن يكون هذا الشيء من باب المجاز الاسنادي أو اللغوي أو من مجاز المجاز أو الكتابة، أو من حمل النظير على النظير، أو من حمل النقيض على النقيض، أو من باب الذكر اللازم وإرادة الملزوم، أو بالعكس، أو من باب التهكم، أو من طاقة التلميح، أو من خصائص الاكتفاء أو فتحات التجريد أو من فرجة الاستطراد أو من ثقوب التورية…".

وأصبح انتقاد الشعر مقدمة انتقاد الحس الأدبي والذوق المعنوي، والزيف والبلادة المتحجرين في أصداف اللغة ومفرداتها. وتحول إدراك قيمة الشعر المتحرر من تقاليده المبتذلة ومحاكاة موضوعاته القديمة حجر الزاوية في بناء صرح الرؤية المعنوية للواقع. فالشدياق لا يطالب الشاعر أن يكون فيلسوف، لان كثير من المجانين كانوا شعراء. وبهذا الصدد قال الفلاسفة أنفسهم أن أول الهوى الشعر، وأحسن الشعر ما كان عن هوى وغرام. ولم يقصد الشدياق بذلك سوى ضرورة تحرر الشاعر من قواعد التقليد السائدة في عصره، التي حنّطت الشاعر وهو على قيد الحياة، أي أن الشاعر الحقيقي من يولع بالحرية وهوس الغرام. لهذا وجد في شعر شعراء عصره ملهاة صغيرة. فأحدهم يقسم بالإيمان المغلظة عن عوفه الطعام والشراب شوقا وغراما، وسهر الليالي الطويلة وجدا وهياما، في حين نراه يتلهى بأي ملهاة كانت. ذلك يعني أن فقدان الغايات الكبرى في شعر الشاعر ملهاة تافهة. بينما الشعر الحقيقي هو الروح الفاعل للأمة ومصدر ثقتها بنفسها وصدق عواطفها. لهذا السبب تفخر اليونان بهوميروس والرومان بفرجيل والطليان بطاسو والإنجليز بشكسبير وهاملتون وبايرون، في حين لم يظهر في أمة من الأمم شعراء مجيدون كشعراء العرب على اختلاف الأمكنة والأزمنة ابتداء بالجاهلية ومرورا بالإسلام والدولة العربية، كما يقول الشدياق.

أما فرانسيس مراش فقد كتب في مقدمة (مرآة الحسناء) قائلا "الحمد لله الذي البس الشعر جمالا وجلالا، وجعل فيه البيان سحرا حلالا، فطابت النفوس في جنات أزهاره ورقصت القلوب بكؤوس عقاره"، مؤكدا على أن الشعر العظيم هو لفظ جميل فيه معنى الطرب، أي الشعر الذي يجمع بذاته جمال اللغة والمعنى المتين. مما حدد موقفه النقدي من تجارب الشعر، ودعوته الشعراء لتجديد الرؤية الشعرية بما يتناسب مع الوقت. إذ لكل عصر رجال، والرجل العبسي ليس الآن بالرجل، وان لكل زمان ألسن نطقت بكل معنى جديد غير مبتذل. وهي فكرة سبق لبطرس البستاني وان عبّر عنها في موقفه النقدي من أحوال جيله، بحيث جعله ذلك يؤكد على ضرورة الاستفادة من قول المتنبي (المجد للسيف ليس المجد للقلم) ولكن من خلال حث الجيل المعاصر على إدراك حاجته للتعلم أكثر من احتياجه للسيف.

كل ذلك جعل من انتقاد الشعر والشعراء مقدمة لانتقاد الواقع. فالشدياق يسخر ممن يسعى للتصدر بالترجمة السخيفة أو باستعمال الكلمات الأجنبية أو بتكبير العمامة أو بالفخامة المفتعلة. وهو سبب انتقاده لنمط حياة الكتاب والأدباء والشعراء وأسلوبهم في التعامل مع اللغة وذخيرتها. لهذا نراه مرة يحمد الله على قلة الكتّاب واهتمام الشعراء بالمدح والغرام مثل قول أحدهم (خصرها نحيل وردفها ثقيل). وعندما تناول كتاب (موازنة الحالتين وموازنة الآلتين) "لأحد البلغاء وعلماء اللغة والأدب"، الذي حاول أن يوازي فيه بين متضادات الوجود الإنساني من بؤس ونعمة، ومنافع ومضار على امتداد وجود الإنسان من الطفولة إلى الشيخوخة، حيث رجح منه طرف اللذات على غيرها زاعما أن اللذة تكون من العقل والشعور معا على عكس الألم. وسخر الشدياق من هذه الفكرة المغرية لما فيها من مثالب واقعية. وكتب بهذا الصدد قائلا، بأنه عندما استفسر الناس عنها فانه توصل إلى أن كل منهم يحكم على متضادات الوجود بحكم تجربته. فالمطران، على سبيل المثال، هو من نقص عقله وفهمه وزاد في لحيته وكمّه، ومعلم الصبيان هو من أسخف خلق الله عقلا وأكثرهم جهلا، وان الفقيه كما عند صاحبه السفيه واللوم على مستفتيه، والشاعر لاحق بصاحبه الفقيه والمعلم، وكاتب الأمير هو رابع الثلاثة لأنه ينظر إلى ما فيه نفع الأمير لا يبغضه. ووضع هذه الآراء في نقده اللاذع للزيف الأخلاقي والخمول الاجتماعي. وتوصل بعدد استعراضه للرأي العام عن أن "اسعد الناس" هو رجل الدين الذي يلزم صومعته، فهو آكل شارب ثم ما عليه بعد ذلك أن خرب الكون أو مات الخلق أو نشر. وقد يكون "أسعدهم" التاجر الذي يجلس في حانوته ساعات يكسب بإيمانه المغلظة في ساعة واحدة ما ينفقه في شهره مع أنه قد يكون في أعماله نظر وتجرع غصص وكدر. وقد يكون "أسعدهم" الفلاح لأنه مبارك في وقته ومهنته، مع انه قد يكون بلده مهده وقبره وسجنه وحجره مع نغص الحياة والطبيعة والأعيان، فهو رهن الخضوع وأسير القنوع. وقد يكون "أسعدهم" البغي، فأنها تعيش بلذة وترف مضمونة الشيخوخة يبرئوها رجال الدين من الخطايا مقابل مكافآت.

وصب الشدياق جام غضبه الأدبي على الزيف الديني والطائفية وصراع الأديان والانغلاق الاجتماعي والقومي والثقافي. واعتبر تدريس الثور على العمل (الحراثة) انفع من تدريس حبرين ("علماء الدين"). واستغرب من مواقف رجال الدين الذين ينفقون أموالا طائلة على المآدب دون أن يطبعوا كتابا في اللغة والآداب. ووجد في سلوكهم هذا نتاجا وإنتاجا للجهل. واعتبر من مثالب رجال الدين النصارى جهلهم شبه التام بالعربية وتشبع أدمغتهم بالركاكة، بحيث جعلوا من الركاكة جزء من شعائر الدين وفرائضه، والبلاغة كفرا وإلحادا. ووجد في هذا الواقع سبب تحول الركاكة إلى عنصر لغوي في عقول النصارى، بحيث اعتقدوا أن من خواص النصرانية أن تكون كتبها ركيكة فاسدة ما أمكن. لان قوة الدين تقتضيه لتحصيل المطابقة كما أفاده "المطران اثناسيوس النتونجي الحلبي الشبكاني" في بعض مؤلفاته المسمى بالحكاكة في الركاكة! وقدم صورا ساخرة وهزلية عن حياة الرهبان ومعاناته الشخصية بينهم مثل أكلهم الخبز اليابس والعدس، وجهلهم بالكلمات، بحيث لا يفرقون بين كلمة القاموس والجاموس. وإذا كانت حقيقة الرهبنة تقوم في رهبة الله وليس في أكل الخبز اليابس والعدس، فإنها تفترض المثابرة في العمل والإخلاص فيه. بينما حياة الرهبان هي حقد وغل وحسد ونفاق وصراع اشد مما بين الدول المعاصرة. لذا لا نعثر بينهم على عالم أو أديب. على العكس أنها تفسد عقل الإنسان وعرضه كما يقول الشدياق. وتوصل في مجرى استعراضه حياة الرهبان والقسس إلى انه لم ير فيهم إلا خبيثا منافقا أو جاهلا، وندر وجود الصالح بينهم. أما العلم فهو محرم عليهم كلهم. وتوصل إلى نفس الاستنتاج في موقفه من الأديرة، التي لم يجد فيها غير السخافة والزيف والجهل. واستغرب الخواء الروحي والفكري للأديرة، انطلاقا من أن الحزن والعزلة اقرب إلى الإبداع من المزاح الذي يولد الطيش والسفاهة. ومع ذلك لا نعثر بين رهبان الأديرة على مفكر وكاتب كبير. وعلق على ذلك ساخرا "لو كنت راهبا لملأت الدير نظما ونثرا، وألفت على العدس وحده خمسين مقامة"! ووضع حصيلة تجاربه الشخصية الواقعية في انتقاده للدين أيضا، وبالأخص لمحاولات تقديس كل ما فيه وتقديمه على انه نموذج أمثل. ووضع هذه الأفكار في مقدمة انتقاده لسلوك المبشرين (البروتستانتيين بالأخص)، الذين وجد في تبشيرهم مجرد تجارة، إضافة إلى ما فيها من نصوص جافة وجاهزة يطبقوها حسب قناعتهم الشخصية فقط. واعتبر هذا السلوك أمرا لا علاقة له بالحق، لان من الممكن استخراج أي حكم من كتب مقدسة وغير مقدسة بما يوافق الغرض وفساد العقيدة. لهذا عارض تحويل التوراة إلى مثال، وابرز قبائح الأنبياء فيها من التدفئة بالبنات العذارى بعد الشيخوخة كما فعل داود، أو قتل النساء المتزوجات والأطفال واستحلال الأبكار كما فعل سليمان، أو استساغة قتل كل رجل وكل امرأة وكل طفل رضيع، بل كل حيوان جيد عند "الأعداء" كما فعل شاؤل. في حين أن دين النصارى يدعو إلى السلم ومكارم الأخلاق والحث على الصلاح.

احتوى نقد الدين ورجال الدين في أعماقه على محاولة تحرير العقل والوجدان من قيود "المقدسات" المزيفة. فقد كان نقد رجال الدين عند أدباء النهضة العربية يحوي في أعماقه على نقد المزيفات من الرواسخ والثوابت و"المقدسات" في الواقع الاجتماعي. لذا لم يقع هذا النقد في تطرف الجفاء الروحي تجاه تجارب الأسلاف. على العكس، لقد وجدوا في الحقائق الثقافية للدين (الإسلامي والنصراني) أحد المصادر الكبرى لبعث الوعي القومي. وشكل نقدهم للزيف الديني أحد الروافد الوجدانية والعقلية لنقد الذات المتزن. إذ لم ينتقد رجال النهضة الدين كما هو، بل انتقدوا سلوك رجال الدين والانحراف عن القيم الروحية التي أبدعها الإسلام في عصور الازدهار الثقافي للخلافة. أننا لا نعثر في انتقاداتهم على توجه إلحادي أو على إثارة ثنائيات الكفر والإيمان وما شابه ذلك، بل على نقد لاذع لظواهر توظيف الدين لخدمة المصالح الضيقة والأنانية من جانب السلطات والكنيسة ورجال الدين والطوائف. فقد وجد الشدياق، على سبيل المثال، في الرهبنة الطوعية طريقة محمودة ولكن بشرط مجاوزة المرء للدخول فيها عمر الخمسين، وعلى أن يكون الداخل فيها من أهل الفضائل والمعارف، انطلاقا من أن دين الجاهل عند الله ليس بشيء. وانطلق في حكمه هذا من الفكرة القائلة، بان كل إنسان يعلم بالعقل والتجربة أن السجن والتجويع والإذلال والتوعد والتشنيع ليس من الخير في شيء. وبالتالي فان جوهر الدين هو الحث على مكارم الأخلاق لا التحكم بالناس وتقييد سلوكهم من قبل جهلة بالدين والدنيا.

وطبقوا هذه الرؤية العقلانية على مختلف جوانب الحياة، بما في ذلك نقد الغرب من خلال نقد التقليد الأجوف لمظاهر التمدن الأوربي. فقد كشف الشدياق عن رذائل المبشرين الأوربيين سواء في ركاكة اللفظ والمعنى المميز للغتهم أو في دعوتهم النصارى إلى الزهد والتقشف بينما لا همّ لهم غير السرقة والاستحواذ على ثروات البلاد، إضافة إلى نشرهم صفات البخل والحرص والطيش والسفاهة. وفي معرض انتقاده لأبناء جنسه الذين عاشروا الإفرنج ولم تسترق طباعهم منهم إلا الرذائل دون الفضائل. واعتبر اغلب ما يشاع عن الغرب تعظيما أو تسفيها مجرد أوهام. ووجد في أكثر من يحب بلدان الغرب من العرب لا لأكلها ومائها وهوائها وأخلاقها وسلوكها، بل لفجورها!(يتبع...).

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم