صحيفة المثقف

من أصدقاء شارع المتنبي

جواد عبد الكاظم محسنفي صباحات يوم الجمعة من كل أسبوع كنا نتزاحم على بسطيات الكتب في شارع المتنبي، وكان يسبقني دائماً بالحضور المبكر، لأن بيته هو الأقرب، فهو يأتي من داخل بغداد، وأنا من المسيب، وتطور التزاحم بيننا بعد مدة وجيزة إلى تحية وسلام وكلام سريع عن الكتب والمكتبات..

كان جدول ذهابي الأسبوعي إلى شارع المتنبي حينذاك (التسعينيات) يتضمن الانطلاق من كراج المسيب بحدود الساعة السابعة صباحاً، وعند وصولي إلى كراج العلاوي، أمضي منه بنشاط مشياً على الأقدام باتجاه الشواكة، ماراً بسوقها الشعبي ومستعرضاً محالها وهي تعرض بضائعها المتنوعة، وقبل وصولي إلى جسر الشهداء في الشارع الرئيس أجد فرناً للصمون أشتري منه صمونة واحدة أو اثنتين، وأتوجه لأعبر جسر الشهداء حتى إذا بلغت منتصفه بدأت بتقطيع الصمونة إلى قطع صغيرة، وقذفها بشكل متتابع في الفضاء باتجاه النوارس المحلقة فتهوى مسرعة لتلتقطها قبل وصولها إلى مياه دجلة، وكان هذا منظراً جميلاً يشاركني فيه عدد غير قليل ممن استهوتهم هذه الفعالية الصباحية.

كانت مكتبة الفلفلي في سوق السراي أولى محطاتي، وقد أجد صاحبي عندها فنتبادل التحية والحديث بمشاركة صاحب المكتبة الطيب صباح أبو أنور، وعند عدم التقائنا يخبرنا صباح من سبق صاحبه في الوصول، وتوجه إلى شارع المتنبي، ولم يكن حديثنا في كل لقاء يعدو الكتاب والمكتبات وكلمات المجاملات المعتادة، وخلال تلك اللقاءات القصيرة كنت أشعر بارتياحه للحديث معي مثلما كنت أنا أشعر بذلك أيضاً، إذ رأيته شخصية متوازنة ومثقفة ومتواضعة جداً، وكان يأتي إلى جمعة المتنبي مرتدياً الدشداشة، ويقتني الكثير من الكتب وبأسعار عالية عند رغبته بها!!

احترمنا خصوصياتنا فلم يسأل أحدنا الآخر سؤالاً خاصاً على الإطلاق، وكل ما عرفته عنه اسمه فقد (نصيف)، وكل ما عرفه عني اسمي فقط (جواد)، حتى جاء يوم أوفدتني فيه دائرتي (شركة الفرات العامة) إلى شركة الأصباغ العراقية في الزعفرانية وهي من شركات القطاع المختلط لجلب كمية من الأصباغ، وكنت قبل ذلك قد أوفدت إليها، ونشأت لي علاقة طيبة مع العاملين في القسم التجاري والمخازن، بل كنت أألقى ترحيباً وتسهيلاً لمهمتي فيها، ووقفت انتظر كالعادة انجاز معاملتي، والذهاب إلى المخازن للاستلام، وسمعتهم يقولون جاء المدير العام !! فالتفت لكي أراه، فصرت وجهاً لوجه مع صاحبي (نصيف) الذي شهق فرحاً لمرآي!! وتصافحنا بحرارة وأمسك بيدي ليصطحبني إلى مكتبه، والتفت إلى موظفيه طالبا منهم إنجاز المعاملة وتكملة كل الاجراءات، وتحميل الأصباغ والاعتناء بالسائق المرافق لي.

قادني صاحبي (نصيف) إلى مكتبه الأنيق في الطابق الثاني من بناية الإدارة في الشركة، وبدأنا حديثاً ثقافيا ماتعاً، وتشعب بنا، وفي وقتها فقط عرفت أنه من أسرة انحدرت من ديالى إلى بغداد، وأن والده رحمه الله وهو من الشيوخ كان محباً للثقافة وشجع أبناءه عليها، وجعل من مضيفه قديماً مدرسة يتعلم فيها أطفال القرية، وقد نشأ على ذلك فأكمل دراسته للهندسة في لندن، وأخرج لي لوحات صغيرة وثمينة جداً يحتفظ بها في مكتبه، وكتبا باللغة الانكليزية تتحدث عن التراث العراقي، وراح يقرأ لي ما مكتوب فيها ويترجمه لي، وحدثني عن إعجابه بعالم الاجتماع العراقي الراحل حاتم الكعبي صاحب كتاب (المودة)، وتشعب الحديث بنا وكأنه لا يريد أن ينهيه مستمتعاً بوجودي معه!! وبمثل الحفاوة التي استقبلني بها ودعني بها، وقبل مغادرتي طلب احضار مجموعة من هدايا الشركة ليقدمها، وبضمنها ساعة جدارية ملونة.

وعند صدور كتابي (من تراث المسيب الشعبي) سنة 2002م أهديته نسخة منه، وأعجبه كثيراً، وصار يردد اسم (المسيب) كلما التقينا، وأخبرني ذات مرة بأنه حدّث أخاه عندما زاره في البيت عن هذا الكتاب، وأطلعه عليه، فأصر أخوه لما رآه على الاحتفاظ به !! وخجل أن يطلب مني نسخة ثانية، ولكني في اللقاء التالي أهديته نسخة ثانية من الكتاب ففرح جداً بها.

بقي التواصل والعلاقة بيننا حتى حصول الغزو الأمريكي واحتلال بغداد في نبسان 2002م، وبعد بضعة أشهر من ذلك ذهبت إلى شارع المتنبي متفقدا الأصدقاء والمكتبات بعد حدوث الفرهود والخراب، فوجدت صاحبي (نصيف) كأنه بانتظاري قرب مكتبة صباح الفلفلي، وغمرتنا فرحة كبيرة بلقائنا مجدداً، وهنأ أحدنا الآخر بالسلامة، وبعد أقل من ثلاثة أشهر من ذلك ذهبت إلى شارع المتنبي مرة أخرى فلم أجده، وكالعادة سألت صديقنا المشترك صاحب مكتبة الفلفلي فقال إن صاحبك نصيف جاسم قد غادر العراق إلى الأردن بعد تردي الأوضاع، فشعرت بحزن شديد لهذا الفراق المؤسف !!

مرّ سبعة عشر عاماً على آخر لقاء بيننا في شارع المتنبي من دون لقاء أو معرفة أخبار أحدنا للآخر، ولم أنس صاحبي ولن أنساه أبداً لطيبته وثقافته ورقيه والصداقة المخلصة والصحبة الجميلة على قصر مدتها، وسيبقى يقيناً في ذاكرتي ما حييت، وعسى الله تعالى أن يكتب لنا لقاءً في يوم ما من قابل الأيام، وتتحقق مقولة الشاعر:

وقد يجمع الله الشتيتين بعدما    يظنان كل الظن أن لا تلاقيا

 

جواد عبد الكاظم محسن

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم