صحيفة المثقف

أنت.. اطرق بابي

منى زيتونلا زال العالم يعيش أصداء رفض دونالد ترامب الإقرار بخسارته في الانتخابات الرئاسية الأمريكية أمام جو بايدن، في سابقة تاريخية؛ فلعلها أول مرة في التاريخ يدِّعي فيها رئيس في السلطة حدوث تزوير في الانتخابات لصالح منافسه!

ولكن الأغرب كان تصريح مايك بومبيو وزير خارجية أمريكا بأنهم يعملون على نقل سلطة سلس لولاية ثانية لترامب، ثم قيام بومبيو برحلة عجيبة مُريبة إلى عدد من دول العالم وفقًا لطلبه، بدأت بفرنسا، وحطّت في إسرائيل وأماكن أخرى، ليقابل بعدها نيتنياهو ولي العهد السعودي، ويُغتال أحد أهم علماء الذرة الإيرانيين، وتشير أصابع الاتهام إلى إسرائيل مثلما أشارت لها في انفجارات طهران ومرفأ بيروت الصيف الماضي، ويزور السيسي فرنسا في محاولة لتبييض وجه ماكرون بعد أزمة إعادة نشر الرسوم الكارتونية المسيئة للرسول، ولا أدري لماذا يراودني شعور أن هذه الزيارة هي حلقة ضمن سلسلة الحلقات التي بدأت بزيارة بومبيو لفرنسا، وأن لها مآرب أخرى.

وأخبار عن تحقيقات فيدرالية في أمريكا مع نجل بايدن وكذا مع صهر ترامب حول مخالفات مالية وضريبية، وترقب للتصويت الرسمي بعد أيام على النتيجة النهائية للانتخابات الأمريكية مع تجديد ترامب للمحاولات القضائية التي تهدف لتبديل نتيجة الانتخابات لصالحه، واحتمال كبير لدفع أنصاره للتظاهر في العطلة الأسبوعية قُبيل إعلان النتيجة الاثنين المقبل، وربما حاولوا الاعتصام في ساحة "الحرية" قرب البيت الأبيض.

وتخبط كبير في تعامل السلطات المصرية مع ملف حقوق الإنسان وسجناء الرأي ما بين إفراج عن محتجزين طال احتجازهم تزامنًا مع إعلان النتائج الأولية للانتخابات الأمريكية التي أشارت لفوز بايدن، ثم احتجاز آخرين مع إصرار ترامب على أنه الفائز، ثم الإفراج عن هؤلاء المحتجزين حديثًا بعد دفاع سكارليت جوهانسن عنهم، وإعادة محاكمة لرئيس وزراء مصر الأسبق والمرشح الرئاسي السابق أحمد شفيق في قضية تافهة لا وزن لها سبق وأن تمت تبرئته منها، وتصاعد حدة النقد والاتهامات الموجهة من الإعلام المصري ضد المنظمات الدولية لحقوق الإنسان وبالأخص "منظمة العفو الدولية"، وفق منطق الأب الظالم الذي يضرب أطفاله ويرفض أن يمنعه أحد من عدوانه عليهم؛ يعني "عيالنا وبنربيهم، ما دخلكم؟!". وبعد أن بدا أمل أن السلطات السعودية سيلين جانبها مع النشطاء الحقوقيين فوجئ العالم بتوجيه اتهام بالضلوع في الإرهاب إلى لُجين الهذلول أشهر ناشطة حقوقية سعودية، وأخيرًا فقد بدأ إعطاء لقاح كورونا سيء السمعة للراغبين في بعض الدول. وهي حوادث متزاحمة تناسب كثيرًا ختام سنة كبيسة لن تُمحى من الذاكرة كـ 2020!

ووسط هذا الزخم من المساخر والمكائد التي نعيشها على كوكبنا البائس وفي عالمنا المجنون، حيث يبدو أن كثيرًا من المؤامرات تُحاك في الخفاء بحيث نشعر بوجودها ونرى بعض خيوطها ولا نفهم حقيقة كُنهها -وإن كنت أشعر أنها فاشلة على المدى القريب! وأن المتآمرين سيضطرون إلى وضع سيناريو بديل يتناسب مع التغير الذي حدث رغمًا عنهم وأخفقوا في منعه-، فقد قررت أن أريح رأسي من متابعة ما يجري في العالم الحقيقي وأتابع مسلسلًا تليفزيونيًا! فاخترت تحميل حلقات مسلسل تركي نال شهرة واسعة في الشهور الأخيرة واسمه "أنت، اطرق بابي". وبعد أن شاهدت عددًا من حلقات المسلسل أشعر أنه كان خيارًا موفقًا لم أندم عليه. ولم أكتب اليوم قطعًا لأحكي قصة المسلسل، بل لأعلق من منظور علم النفس الاجتماعي على بعض مما لفتني فيه، والذي لا ينتبه له المشاهد غير المتخصص عادةً.

الشخصيات الرئيسية في المسلسل كثيرة ومتنوعة ومساحات أدوارها متقاربة، باستثناء البطل والبطلة الرئيسيين، لكن الآخرين يبقون مع ذلك أبطالًا وليسوا ممثلين ثانويين، وهذا التنوع في حد ذاته جميل، ورغم أن أغلب حوادث المسلسل تدور في بيئة عمل إلا أنه يركز على العلاقات الشخصية بين أبطاله، والحبكة النفسية الرئيسية للمسلسل تقوم على الضبط الانفعالي الزائد الذي يتم تربية أغلب الأطفال الذكور عليه في الشرق بحيث يعجزون بدرجة كبيرة عن التعبير عن مشاعرهم الإيجابية عندما يكبرون. كان هذا واضحًا في شخصية "ساركان" بطل العمل الرئيسي، وشخصية "إنجين"، مع الاختلاف الظاهري الكبير بينهما؛ فأحدهما يبدو كإنسان آلي لا يهتم سوى بالعمل، والآخر يعرف كيف يستمتع بحياته، ولكنه مع ذلك لا يختلف كثيرًا عن صديقه في كبت مشاعره وعدم قدرته على التصريح بها.

ومن أبرز المشاهد التي لفتتني ولم أر مثيلًا له في أي عمل درامي؛ مشهد إنجين وهو يصطحب حبيبته "بيريل" إلى صالة لعب البولينج -وذلك بعد أن ساعدت صديقته في التقريب بينه وبين "بيريل"، حتى أنها أخبرتها صراحة أنه يحبها- وعندما انزعجت "بيريل" من خياره لقضاء الوقت معها في صالة رياضية في أول مرة يخرجان فيها معًا، صارحها بأنه كان يتكلم منذ سنوات عن علاقته بها أمام أصدقائه الذين يشاركونه لعب البولينج، ويريدهم أن يروها معه ليتباهى بها أمامهم! علمًا بأن هذه العلاقة -وحتى قبل أيام- لم يكن لها وجود سوى في خياله! وقد سبق وأشرت في عدد من المقالات إلى مسألة اختلاق العلاقات الوهمية مع النساء وإيهام الأصدقاء بكونها حقيقية، والتي أصبحت وسيلة كثير من الشباب للشعور بالمرغوبية والقبول والتغطية على إخفاقهم في التعبير عن مشاعرهم وتكوين علاقات حقيقية ناضجة.

في المقابل كانت هناك شخصية "فريد" الذي يعبر عن مشاعره بيسر نحو من أحبها، ولكن لم يجد تقديرًا منها، حتى أجبرته كرامته على هجرانها. وكانت شخصيات الفتيات في المسلسل أيضًا متنوعة وتمثل حالات لمشكلات التواصل الاجتماعي في العلاقات الشخصية، ومن أهمها شخصية "سيلين" التي أحبت "ساركان" ولم تحب طريقة تعامله معها، فلجأت للأحلام وتمنت أن يعاملها بلطف ويعطيها الاهتمام الذي تريده منه، ولم تجبره على تغيير طريقة تعامله معها على أرض الواقع، ولما يأست –لأن سلبيتها لم تحدث فرقًا- قررت الانفصال عنه بإرادتها، وصُدمت بعد انفصالهما لمّا رأته يعامل فتاة أخرى "إيدا" بالطريقة التي طالما تمنتها منه، لأن الأخرى لم ترضخ لطريقته اللامبالية في التعامل معها والتي حاول فرضها عليها. والعجيب أن "سيلين" وجدت الاهتمام من شخص آخر "فريد" قدّرها وأحبها وطلب الزواج منها، ولكنها بقيت مصرة في أعماقها على أنها تريد الاهتمام من ساركان وليس من غيره، حتى خسرت خطيبها.

أعجبني أيضًا لدى صنّاع العمل أنه لا يوجد حرص على خلق شخصية الشرير، ما جعل القصة أكثر اقترابًا من الأرض على عكس قصص الصراع الحدي المعهودة بين الخير والشر. كان هناك شرير واحد في الحكاية "كاهان" أخرجوه سريعًا من بينهم، أما الباقون فهم بشر طبيعيون تتقاطع مصالحهم وتصدر عنهم سلوكيات قد تضر بالآخرين دون قصد، ولكل منهم وجهة نظره في الأسباب التي جعلته يسلك على هذا النحو، يجعلنا عرضها نرى كيف تبدو القصة من وجهة نظر الآخر وكيف يرى نفسه مصيبًا رغم ما جرّه من مشكلات على غيره.

لم أكمل مشاهدة حلقات المسلسل التي عُرضت بعد، كما لا زالت هناك حلقات أخرى يجري تصويرها وعرضها أسبوعيًا تباعًا، ولكن يبدو لي أن شخصية بطل العمل الرئيسي ستبقى كما هي، فالبطل "ساركان" يبدو ظاهريًا جاف المشاعر بينما هو شديد الرومانسية، وشديد الغيرة على حبيبته، وشديد الاهتمام بها وبكل من حوله، وشديد الحرص على ألا يشعرهم بذلك، وأن يبدو في نظرهم ذلك الإنسان الذي لا يهتم سوى بالعمل، وستستمر هذه الملامح في شخصيته سببًا رئيسيًا في صراع القط والفأر مع حبيبته، والذي تتولد منه حوادث المسلسل.

 

د. منى زيتون

الجمعة 11 ديسمبر 2020

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم