صحيفة المثقف

الكرد يدفعون ثمن تجاهل الأمانة والحقائق وسندفع أكثر

صائب خليلتحدثت مع صديق كردي مرة عن ظلم تثبيت حصة كردستان بـ 17% بدلا من 11% (وهي سرقة قام بالدور الرئيسي فيها عادل عبد المهدي)، إضافة الى تهريب النفط، فلم ينكر انها سرقة ثم أكمل بلطف: المواطن الكردي يفكر ان اللص الكردي ان سرق شيئا من الثروة فقد يحصل على شيء منها. إن بنى فندقا أو مرفقا سياحيا او معملا، حصل الكردي على شيء منه. أما ان سرق العربي الثروة فلن يحصل على شيء.

اعترضت على هذا المنطق وقلت له أن بناء اللصوص وتقويتهم يعود في النهاية بالضرر وليس الفائدة على الشعب، والمفروض بمن يحرص على شعبه ان يفضل ان تحترق الأموال او تذهب الى أي كان بدلا من ان تستخدم لجعل لصوصه اقوى وبلده أكثر فساداً وفرصه للإفلات أضعف.

المهم، ان المواطن الكردي تصرف بالعكس وسهل للصوصه السرقة، بل كان يهلل لهم كلما سرقوا من بغداد أكثر، بل حتى حين كانوا يسرقون كردستان ذاتها، يحرصون على ان يصوروا الامر على انه مباراة تحد بين الكرد والعرب. فحين كان الشهرستاني يصرخ من بغداد بأن عقود النفط التي توقعها كردستان غير شرعية وسيئة المردود، يرد عليه الوزير اللص اشتي هورامي متحدياً: "كلما قالت بغداد عن عقد "غير شرعي"، وقعنا عقدين آخرين!

كان المواطن الكردي في غاية السعادة بتلك "الانتصارات القومية" على العرب، فلم يعد للعرب سلطة عليه. حصل هورامي على شعبية كبيرة بينما وجه الكرد غضبهم الشديد على من كان يعترض من العرب على السرقة، مثل الشهرستاني والمالكي وحنان الفتلاوي وعالية نصيف وبعض النواب الصدريين. بالمقابل كانوا يهللون لمشجعي أو مشاركي لصوصهم في السرقة مثل عبد المهدي وبقية المجلس الأعلى والشيوعيين.

بسبب هذه الحالة المجنونة، كانت عقود النفط في كردستان توقع بسرعة مذهلة حتى ان الأستاذ فؤاد الأمير يكتب أنها ربما تكون المرة الأولى في التاريخ التي توقع فيها دولة (وليس إقليم) عقودا نفطية بهذه السرعة! وطبيعي ان بغداد لم تكن مطلعة على العقود التي تبرمها كردستان ولا أين تذهب مردوداتها. وكلما حاولت ذلك، تصدت لها وسائل الاعلام الكردية وساستها واتهموا بغداد بأنها مازالت تفكر مثل "صدام" تجاه الكرد.

ويبدو ان المواطن الكردي كان يتخيل ان لصوصه سيسرقون العرب فقط، ويصبحون ملائكة حين يتعاملون معه ومع ثروته. وأكثر من هذا، افترض وتصور أنهم "يسرقون من أجله".

في تلك الأيام حدثني الأستاذ فؤاد الأمير موضحاً انه لو كان هؤلاء اللصوص معنيين بالسرقة من العراق فقط دون سرقة ثروة الكرد، وارادوا اتباع سياسة لتحقيق أكبر المكاسب من العراق، فأن الاستراتيجية المنطقية لهم هي ليس ان يستخرجوا نفطهم بجنون كما يفعلون، بل ان لا يستخرجوا أي نفط من كردستان أو ان يعرقلوه أطول فترة ممكنة! أي ان يعيشوا على نفط العراق، ويحتفظون بنفطهم تحت الأرض حتى يحين موعد استقلالهم! 

كذلك كشف الأستاذ فؤاد وخبراء نفط آخرين أن عقود نفط كردستان تعود الى كردستان بربع عائدات نفس النوع من الحقول، في عقود التراخيص في بغداد! إضافة الى ذلك فأن عقود كردستان جميعها كانت من نوع عقود "مشاركة الإنتاج" التي تضعف سيادة البلد على حقوله، والتي لا تعطيها اية حكومة لشركات النفط إلا في حالات الحقول المشكوك بوجود النفط فيها ولا تملك المال اللازم لتحمل المخاطرة. وكشف الأمير ان الأمر ليس كذلك في حقول كردستان، حيث انها حقول مستكشفة ومؤكدة وليس فيها اية مخاطرة. بل كشف الفضيحة الكبرى بأن بعض الحقول المنتجة، تم نقلها من قائمة الحقول المنتجة إلى قائمة الرقع الاستكشافية، ليتمكن هورامي من إعطائها للشركات بعقود مشاركة انتاج ظالمة!

ما السبب في سكوت الكرد عن هذا؟ هل يجهل "الكرد" مصلحتهم، ولم يعرفوا الفكرة التي خطرت ببال الأمير؟ هل يجهلون المعلومات حول عقود الشراكة ونسبة العائد وتحويل الحقول إلى رقع استكشافية؟ لا.. فلقد كانت كل هذه المعلومات متاحة للجميع من تصريحات الشهرستاني وكتب الأمير وكذلك العدد الكبير الذي كتبته أنا وغيري من المقالات حول القضية.

القضية ان "الكرد" لم يكونوا هم من يتخذ القرار، بل "لصوصهم".

في وقتها أذكر أنى حين راقبت شدة قسوة الحملة الكردية ضد الشهرستاني، كتبت أن الشعب الكردي إن وعى حقيقة ما يحصل، فسيحاكم ساسته وسينصب تمثالا للشهرستاني، فهو الوحيد الذي دافع عن ثروتهم بوجه هؤلاء اللصوص! لكن كما هو متوقع، كان من الصعب عليهم ان يتخيلوا ان عربيا يمكن ان يتكلم عن مصلحتهم أفضل من كردي، حتى لو كان الكردي لصاً! (وفي أعماق الشيعة والسنة هناك شعور مشابه، وإن كان اقل وضوحاً، وأيضا يتم الاستفادة منه من قبل اللصوص بنفس الطريقة).

وهكذا تم تجاهل كل الأدلة المتوفرة على انهيار كردستان القادم، وبقوا يدعمون اللصوص ماداموا يسرقون العرب، وقد تصوروا ان اللص الكردي سيتحول الى "قديس" عندما يصل الى ثروات شعبه!

في هذه الأثناء، اكتسب لصوص كردستان شعبية حتى في الجانب العربي، وسقط الجانب الأخلاقي أمام شعار "اللي يعبي رگي بالسكلة"، ومنظر أربيل في المساء منورة بالكهرباء والمولات، مقارنة بغيرها من مدن العراق. وهذا أيضا ما أخر الكردي عن الانتباه الى الخلل، حيث كان هناك بالفعل بناء وأمان في مدن كردستان لم تشهده بقية مدن العراق، لكنه كان بناء مولات وفنادق بأموالهم ولحساب لصوصهم، وليس أسساً لنهضة بلاد ووطن.

تكاثرت السرقات وتعاظمت باضطراد وكان كل رئيس حكومة يصل الى بغداد يقدم للصوص كردستان خضوعا أكبر من سابقه للابتزاز. وبدا ان كردستان ستصبح جنة البلدان، لكن هذا ليس كل القصة كما تبين لاحقاً، فالطمع في النهب كان يتزايد ولا يقف عند حد. ورغم كثرة ما نهب من نفط كردستان مباشرة، بدأ لصوص كردستان يستولون على رواتب موظفيها، حتى وصل الأمر انهم لم يعودوا يسلمون ما يستلمون من بغداد لهم، رغم انهم يبيعون نفطهم لحسابهم! بل وتسربت اخبار عن عقود بيع نفط كردستان وهو تحت الأرض!

طبيعي ان الشعب العراقي قد خسر كثيرا جدا بسبب تلك السرقات التي طالت نفطه بتآمر المنبطحين من العملاء الذين قبل ان ينصبوا على حكم البلاد في بغداد، لكن الشعب الكردي قد يكون من سيدفع الثمن الأكبر متمثلا بخسارة كل ثروته وخسارة حلمه القومي العتيد بوطن للكرد. وكل ذلك لأنهم تجاهلوا الحقائق التي تصرخ بأن هؤلاء اللصوص لا يعملون لمصلحتهم حين يستخرجون نفطهم هكذا، وان اللصوص سيكونون لصوصا عليهم أيضا. لكن التمتع بإذلال العرب وحرق علم العراق كان أكثر اثارة من ان يستطيع معظمهم التضحية به من أجل الأمانة أو المنطق.

طبيعي ان الشعب الكردي ليس منفرداً في الفشل في مواجهة الحقائق، ولا اظن أننا نحن العرب أكثر وعياً منه للخطر. فمثلا، المنطق يقول ببساطة أن من جاءنا بداعش، قد كشف ما يريده لنا. وحين نقبل بوضع عميل يفرضه هذا، زعيما على بلادنا، فإننا نضع في يد "الدواعش" أمرنا ومفتاح مستقبلنا كله، ونحن نعلم جيدا ما يريد هؤلاء لمستقبلنا! إنها معادلة بسيطة، ولعلها ابسط في منطقها من معادلة فؤاد الأمير التي لم ينتبه الكرد لها. لكننا نركز اليوم اهتمامنا الشديد على ان يكون رئيس الحكومة شيعي، ورئيس مجلس النواب سني، وتفرح كل طائفة بهذا "الانتصار" الكاذب، بينما تنهب ثروتها ويحطم مستقبلها، مثلما فرح الكرد بنشوة "النصر القومي" على العرب بينما كان لصوصهم يشفطون نفطهم ويبيعون ما تحت الأرض ايضاً، معلنين القضاء النهائي على حلم دولتهم القومي الذي قدموا له أكبر التضحيات. وها هو عميل السفارة في بغداد، يرسل ما في الخزانة من أموال، للصوص كردستان ويغرق البلاد في القروض ويعين العملاء وزراءاً وضباطا في كل مكان، وينشر الخصخصة والفساد أكثر من سابقيه ويوصل انابيب نهب النفط لأبعد من سابقيه ويوقع الاتفاقات التي لا يعلم بها أحد، كلها بتوجيه وبأمر السفارة وخطتها لتحطيم البلاد، ... فهل لنا أن ننتظر مصيرا أقل قسوة مما يواجه الكرد من جوع ومستقبل معتم اليوم؟

 

صائب خليل

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم