صحيفة المثقف

قراءة في المجموعة الشعرية: بوح في خاصرة الغياب للشاعرة ذكرى لعيبي

حيدر عبدالرضاحلمية أنثى البوح وذاتية علائق الأزمنة الأحوالية

توطئة: أن تماثلات التصور الشعري في منظومة الانتقاء والاستيعاب التداولي في ثيمات مركبات الفكرة والرؤية والموضوعة القصدية، قد تمنحنا ذلك التماهي إزاء تأكيدات الذات الشاعرة في ذاتها، بأن مجرى البوح لديها، ما هو إلا جملة معطيات تتعدى أحيانا مواضع الحالة القولية والأحوال الذاتية في محصلة محورية التلفظ الشعري، فيما يبقى ذلك التكيف السراني في ماهية الغاية القصوى من المحدد أو اللامحدد في وحدات استراتيجية الأداة الشعرية . من هنا وعبر هذه التوطئة لعلنا نكتشف بأن الشاعرة والأديبة ذكرى لعيبي أرادت من وراء علائق دوال مجموعتها الشعرية (بوح في خاصرة الغياب) ذلك التوظيف رمزا،وليس توسلا مقصديا فجا، لأجل تعديل مسار الغياب عن مواطن مندرجاتها الربوعية الأولى، فهي ومنذ عنونة دلالات قصيدة (نايات امرأة جنوبية) تضعنا إزاء هالات خاصة من المفردة الجملية النابعة من تصورات اللغة الدارجة الشعبية لأجل أن يترأى لنا حجم ومستوى تأكيدات الذات المتمثلة في محاور واقعة الاغتراب والغربة، عن واقع مألوفية صوتها في تلك الأحياز من أرض لغة الأوطان والوطن، وصولا إلى بعض مقاطع القصيدة وامتدادا إلى ذلك الهاجس المرمز من على صعيد المعنى والمبنى من وظيفة مواقعة بوح الأشياء والذات معا: 

لو بيدي

لو أقدر أن أُرجعَ عقارب الأعوام

لغيرتُ ملامحَ عمري

لأرسمَ إليك دربَ أحلامي . /ص15 قصيدة: نايات امرأة جنوبية

و بديهي عبر صيغة الأنا، أن نصادف ذلك الحلم في مراوغة الموقع الزمني التابع لخاصية البوح آنيا، خصوصا وأن الضمائر (الأنا ـ هو، الأنت) بمثابة الفاعليةة المستثمرة من قبل آنوية المتكلم في النص، وهذا الأمر ما جعل أداة التمني كوسيلة أخذت تراوغ (أرجع عقارب الأعوام .. لغيرت ملامح عمري) وهكذا نرى معاودة الذات الواصفة في طيات النص، إلى فعل المعاكسة والمضاعفة والتشكيل المشهدي (لأرسم إليك درب أحلامي) عبر منطقة شرعية الحلم بذلك الغائب في واصلة التحول والإبدال والتكاثر المغيب في محددات وتعددية واقع الذات وأنشطارها ما بين (أنا الاغتراب) وهوية ذلك المخصوص في مسار (أنا الشاعرة) غير أن المعنى القصدي في مقاطع النص يلوح مراتا ومرات حول تعالق هوية الوطن مرة وبين ذلك الغائب حسا مذوتا في قابلية مؤشرات الخطاب الإيحالي:

لو ترى كم ليالٍ مظلمةٍ

وحيدة، غريبة، تؤنسني فيها

ذكرى، وسنا شموع

وصدى أيام لن تعود . / ص15

 2078 ذكرى لعيبي

و تتم عملية الاستيعاب إلى تشكلات الدوال، عبر مواقع الحلول في علائق من الجمل البوحية، استدلالا على أن المعنى المراد من جوهر البوح هو دال (الوطن) غير أن المعنى عندما يكون إيصالا منفردا، يبدو وكأن المراد منه وصولا آخر من أنساق دلالة المعنى الضمني، ولكننا عندما واجهتنا دوال (وحيدة .. غريبة .. تؤنسني .. ذكرى) أضحى لنا المعنى بواصلة المرسل إلى هوية دلالة الوطن المضمرة . ويكون الشيء نفسه بالنسبة إلى قصيدة (من يرمي النرد ؟) سوى أن هذه القصيدة ملبدة بضمير الغيابات، وبالعديد من الشيفرات والمداليل الإيحائية:

الثالثة والنصف فجراً،

الشوارع مبللة بالحيرة

و الأزهار في شرفتي

ترتقب يداً تسمدها

منضدتي تَعجُ بأقلام الرصاص

الطرف الآخر من المدينة

يسوده ضباب الحروب

و الرصاص . / ص18 قصيدة: من يرمي النرد

إذا ما تأملنا برهة من الأمعان، إلى محددات الزمن في جملة (الثالثة والنصف فجراً) فلربما وجدنا هذا التحديد الاطاري يقارب دلالات أرق مضجع العشاق، أو أنه من جهة ما ذلك التوقيت النذير بهبوب ضربة جوية على أهداف عسكرية ما، أو لربما من جهة أخرى أيضا هو المسافة والمقايسة المتكونة من البعد والقرب إزاء قيمة دلالية خارج تقاويم المخيلة القرائية، خصوصا بعد ورود جملة (الشوارع مبللة بالحيرة) وجملة (الأزهار في شرفتي) فهذه الجمل المتعالقة في علائق شرنقة الحسية المترقبة، قد يكون لها الشأن في باع انتظار طبول الحرب، أو إلى ذلك العاشق في بلاد الرافدين (ترتقب يدا تمسدها) أو جملة (منضدتي تعج بأقلام الرصاص) العلامة الشعرية في محمول هذه الجمل متفاوتة في اتجاهاتها المضمونية، فهي تتلخص على هذا النحو من الاستدلال (اتجاه الآخر ـ الحرب / علامة الوجه الآخر: كفاءة زمن الانتظار = الأرق = التفكير = لهفة = تعليق آمال مؤجلة) وهكذا تباعا توافينا تماثلات المخالفة في مسوغات الدلالات الشعرية ووظائفها العاملية، فهي حينا نذيرا بالحرب (الطرف الآخر من المدينة .. يسوده ضباب الحرب) وحينا (ذاكرتي متمردة .. من يرمي النرد) فالشاعرة من خلال لغتها أخذت تقلب وقائع تلميحاتها المتعاقبة، وصولا إلى المصاغ الأخير من خلاصة لعبة النرد: (أأتصل لسماع صوتك .. أم انتظر ؟) وقد يتسع التصور فضائيا، ويتجمل دلاليا حين يلتمس دلالات المتن النصي مفتاحا مبئرا:

ضيعّتُ الوجوه بين المنافي

و المطارات

وجهكَ وحده بوصلتي

رفيق الليل والطرقات

صوتك الذي انبلج

من المتاهات . ص19

فالدال (وجهك) محورية خاصة يؤشر بالعودة والتكرار عبر مقترحات (الليل ـ الطرقات ـ المنافي ـ المطارات ـ المتاهات) ليكتنز في ذاكرة الخيال الشعري بحساسية التلخيص الزمني القار بجوهر الانتظار المؤرق:

الخامسة والنصف فجراً،

لا أدري كيف

حين أشتاق إلى مهدك

ألوذ بعينيك

وقهر الخطوات . / ص19

تجتهد الدوال القصدية هنا في تحفيز شعرية التوق والوجد من حمم الانتظار واللهفة الواقعان في مستوى الاشارة الكامنة إلى جملة (وجهك وحده بوصلتي) ويكتسب جموح الحالة الموصوفة إلى حساسية تنطلق من مؤشر الزمن المنصوص عليه ب(الخامسة والنصف فجرا) وحتى أداة السؤال والمساءلة المشاعة (لا أدري كيف؟) ويحرض الاستكمال الزمني علاقة دلالات غياب ذلك المنتظر، إلى خصوصية ما أخذت تتواصل معها الشاعرة سرا أو حلما في محتملات وتوقعات جملة (أدرك أني هانئة .. في جنة المسرات) .

ـ شيفرات النص وتجليات شرنقة الذات الغيابية .

أن فعل التلقي إلى تجربة قصائد مجموعة (بوح في خاصرة الغياب) يمنحنا تلك المحصلة التي تقودنا إلى ماهية الانطباعات والادراكات التوكيدية في مصرف متن قصائد الشاعرة، حتى نجد ذلك المعطى في توافر أمكانات التماثل والتماثلات الخاصة في سياقية الملفوظ والتلفظ، الذي غدا يخبرنا عن حبكة توالد خصوصية الذات وعبر مواضع دلالية نادرة أكثر إيغالا في التمايز والتمييز القولي، حيث نعاين الآن ما جاءت به قصيدة (يا خالقي أنت أعلم بي مني) ففي تجليات دوال هذا النص، سوف نعلم حجم مأساة الشعور بالغربة والاغتراب ولدرجة عسيرة من توقعات القراءة والتلقي:

كم أنا بحاجةٍ إلى موتٍ قريب

أو فقدِ الذاكرة

أنسى وجعي وأغيب . / ص22 قصيدة: (يا خالقي أنت أعلم بي مني)

ولاشك في أن صورة الموت وطلبه في متن النص، ذات رؤية نفسانية مرهقة إلى حد الاخفاق وزوال صورة الحياة المشرقة في مرأى عين الشاعرة، كما أنها تعد بمثابة الصورة المعادلة في جنبات موضوعة المعادل النصي للشاعرة ولفقدانها إلى الأحساس بدفء الأمان وصفاء السريرة (موت قريب .. أو فقد الذاكرة) والعلاقة ما بين صورة طلب الموت وحالات الشاعرة الأحوالية، إذ تحكمها رؤية فردية من وظيفة الغياب والتغيب عن محيطهما الخارجي والداخلي . (أنسى وجعي وأغيب) وصولا إلى الومضة الداخلية في تبئير مكونات الرغبة في جمل المقاطع:

كما أنا بحاجةٍ إلى وطنٍ يضمني

أو أبٍ

فوق أكتافه يحملني يوماً . / ص22

وتتضاعف شيفرات النص الموضوعية بالأمتداد الشعري نحو لواعج الفقد والفقدان (وطن يضمني .. أب فوق أكتافه يحملني) الذات الشاعرة تستحوذ عليها شعرية الفقدان / الغياب، كرحلة في وجهات المتاهة وحكاية ضياع بر الأمان، غير أنها تخبرنا في المقاطع اللاحقة عن كيفية خلاصها من دائرة وزاوية ضيق الزمن ووحشة وحدتها:

لستُ بحاجة إلى هذه الوحدة

ولا آمالٍ معلّقة

على أهدابِ الغربة

أحتاجك لأغيب .. ! . / ص22

قصيدة الشاعرة هنا أخذت تقترب بعلامات استفهامية مضمرة وتعجبية باطنية في فضاء الغياب، ومناخات العزوف عن زوابع الآمال الشاحبة، بل أنها أختارت المضي مع حضور ذلك الآخر ن حتى ولو كانت بعد ذلك تغيب في لجة مصاحبات ذاتيتها الغيابية .

ـ تعليق القراءة:

قد نلاحظ من خلال قراءتنا إلى تجربة مجموعة (بوح في خاصرة الغياب) إلى نوعية تلك العلاقة الحميمة بين أحداثيات الزمن الماضوي والحاضر الزمني في منظومة الغياب، أي أننا وجدنا المحور الزمني ما راح يشكل بذاته، تلك الصفات المتمثلة في ملامح ثنائية (زمن خارج الذات / زمن داخل الذات / زمن ما بين الذات والآخر) ولابد من التأكيد هنا على أن أسئلة الذات الداخلية والخارجية، هي ما غدت تشكل ذلك الجوهر الفاعل في حسية المشترك ما بين فضاء الماقبل والمابعد، وصولا إلى رؤية ضاغطة ومحتشدة من ضفيرة مكونات أفق الذاكرة أو اللاذاكرة أو الغياب أو اللاغياب أو الواقع أو اللاواقع الوطن أو اللاوطن:

معذرةً يا قلبي

لم تبق على أرصفة الكلمات

سوى أحرفٍ دامعة

الحلم ينقر انكسارَ النوافذ

الماء هجر الغيم

فلم يأت المطر

و الرحيل إليه

بقاءٌ في سراب . / ص29 قصيدة: (المدى شاسع بيننا)

و تضيف مقاطع هذه القصيدة وقصائد أكثر تألقا في مجموعة الشاعرة، المزيد من تلك الاستعارات المعمقة في أصداء وأبعاد حسية غيابات الآمال الكاذبة والمزيفة بالوعود اللامجدية، بل أنها أضحت لنا (الحلم ينقر أنكسار النوافذ .. الماء هجر الغيم .. فلم يأت المطر) في هذه النقطة المصيرية من كثافة الرؤية الشعرية تحديدا، تتبين لنا مخطوطة الفراغ والغياب في عوالم أوطان وذوات (ذكرى لعيبي) لتشيع في زمن قصائد مجموعتها مساحة مؤثرة من أفق رحلة شرنقة الغياب وعلائق شعرية الذاكرة المشحونة بغياب الحبيب والأوطان والعصافير في حروب الأزمنة الغابرة .

 

حيدر عبد الرضا

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم