صحيفة المثقف

أزمة الانسان المعاصر في: الاغتيال الازرق ولحاء الطباشير

احمد عواد الخزاعييشكل واثق الجلبي ظاهرة ادبية عراقية يجب الالتفات اليها، وتسليط الضوء عليها، فقدرته الاستثنائية على الخوض في جميع مجالات الادب والفنون (شعر، مقالة، قصة قصيرة، رواية) وبقدرة وتميز عاليين، تجعل منه ايقونة ادبية حداثوية، تستحق الاهتمام. اضف الى ذلك التفرد اللغوي الذي يهيمن على عطائه الادبي بشكل عام، هذا التفرد اللغوي الذي يظهر جليا في طبيعة التراكيب اللغوية المبتكرة، والمفردات القاموسية المقعرة، والصياغة البلاغية لجمله، القادرة على اختزال افكار ورؤى كبيرة بمفردات قليلة.. في مجموعتيه (الاغتيال الازرق ولحاء الطباشير) الصادرتين عن دار كلكامش 2020 نجد ان واثق الجلبي، قد تجاهل موضوع التجنيس وترك الامر للقارئ في تحديد هوية ما يقرئ سواء على مستوى التجنيس (قصة قصيرة ام قصة قصيرة جدا) او على مستوى الفن الادبي لهذه النصوص التي اتخذت موقعا محايدا (برزخيا) كما وصفها الدكتور خزعل الماجدي ، بين السرد والشعر، مما شكلت رؤية جديدة يمكن من خلالها ان نشهد ولادة فن سردي جديد، (تستطيل اللغة فيه سردا وترتد شعرا والعكس)، قادراً على  التواصل مع قضايا الانسان المعاصر المعقدة.. ومن طبيعة النصوص التي احتوتها هاتين المجموعتين، فيمكن ادراجها ضمن تصنيف (القصة القصيرة جدا) لسبب رئيسي هو غياب الحدث المحوري وتلاشي عنصري الزمان والمكان، وطبيعة اللغة المكثفة التي استخدمها القاص، الا اننا نلمس بشكل واضح حضور ثوابت القص التقليدية، لكن بخصوصية متفردة وغريبة بعض الشيء. وهنا لابد من الاشارة الى ماهية القصة القصيرة جدا وثوابتها :

 تعد القصة القصيرة جدا من الفنون السرد الحديثة، وهي نتاج للتطور الفكري والحضاري الذي شهده العالم الغربي المتحضر، وتشعب مشاكل الإنسان المعاصر فيه، فبدء السرد يبحث عن مخارج جديدة لهذا التعقيد المادي في الحياة، ويحاول ان يجيب عن كم كبير من الأسئلة الشائكة، فظهرت القصة القصيرة جدا في نهاية القرن التاسع عشر، لتشكل رافدا أدبيا وفكريا، لتلك الحضارة، وأول مجموعة  قصصية صدرت لهذا الفن القصصي الجديد كانت للكاتبة الفرنسية  الروسية الاصل ناتالي ساروت، والتي حملت عنوان (انفعالات)، عام 1931 ميلادي، فكان هذا العنوان هو التمثيل الأكثر نضوجاَ ووضوحاَ لهذا الفن الجديد، كون القصة القصيرة جدا تمثل (انفعال آني، يخضع للمعيار الكمي، مع تكثيف للحدث، ولغة مختزلة معبرة).. كما يجب أن تتوفر فيها بعض التقنيات السردية الآتية (الجرأة، ووحدة الموضوع، والتكثيف ، والمفارقة، والجملة الفعلية، والسخرية، والإدهاش، واستخدام الرمز والإيهام، والاعتماد على الخاتمة الصادمة، واختيار العنوان الذي يحفظ للخاتمة صدمتها).

تميزت المجموعتان (الاغتيال الازرق ولحاء الطباشير) بعدة سمات رئيسية يمكن تبويبها على النحو الاتي:

2085 واثق الجلبي

اولا: الشخصية القصصية: ربما اقترب واثق الجلبي كثيرا من التركيبة الفكرية والنفسية للإنسان المعاصر، بشكله العام، حين طرح قضاياه وفق رؤية سريالية تتماهى مع طبيعة هذه القضايا المعقدة وارهاصاتها، فنجد ابطال نصوصه (لا منتمون، مهزومون، اشكاليون، متمردون، حائرون) يمثلون مجموعة من الهزائم والانتكاسات والخيبات اتجاه قضايا سياسية واجتماعية وعاطفية، يبحثون عن ذواتهم بين ركام الهزائم والفوضى، يمتلكون وعي قائما اتجاه محيطهم والذي يمثل نظرة سلبية لمشاكل تحتاج الى حلول هم عاجزون عن ايجادها، تنتهي قصصهم بنهايات مأساوية عائمة، تمثل حتمية الصراع القائم بين هذا الانسان والعالم المادي. في قصة (عتاقة اصبع) اختار بطله الهروب على مواجهة الواقع المرير (بدء يتمحور حول ذاته الكظيمة متشحا بكل خرق النزاع المبذور في شخصيته، لم تكن الدموع تعرف طريقا للخروج لأنه لا يمتلك عينين ... ولم يعلم بما سيكون.. مشى على سترته العتيقة .. لعن كل حرف كتبه.. وصل الى تلفازه الاسطوري.. ادخل راسه في الشاشة .. واختفى..) .. وتستمر معظم نصوص المجموعتين على هذا النسق الحكائي، والرؤى المأزومة والمكبلة بالواقع المادي الأصم. في قصة (من منهما الاول؟) يتجه البطل الى نهاية مقاربة، فالهروب وسيلة يلجأ اليها الابطال الا منتمون والاشكاليون حين تختل كفتي الصراع القائم وهي حالة انزواء قسرية ربما تمثل الهزيمة بكل عناوينها (رمى على جسده المبستر.. جلس على وسادة منزوعة الاثداء .. احتضنها بقوة فلم يقدر على مقاومة الاسترخاء.. فتبخر..). في (قصة فقاعة نعل) يصل البطل فيها الى ذروة التلاشي والاندحار، بعد ان يخضع لثنائية قاهرة (القتل والاستلاب) في عالم يسوده التوحش الفطري  (حكائية التجسيد متاهة وعظية نبتت على مشافر التوحش الفطري للقتل والاستلاب .. هكذا صارت حياته فقاعة نعلٍ ارتداها بصمت ومضى ..).

ثانياً: ثيمة الموت: الموت كان حاضرا في اغلب نصوص المجموعتين، قد يكون رمزية قدرية لها دلالات قصدية تشير الى الهزيمة بعنوانها العام، او هو اكثر انواع الانزواء تطرفا، وربما استخدمه واثق الجلبي للإشارة الى افول عصر القيم المطلقة .. في قصة (فرصة هرب) يحلم البطل بالموت مرة اخرى، ربما تكون اكثر صدقاً، من موته الافتراضي الحالي (امسك غيمة مرت من هناك .. جلس بعيدا عن الكليات والجزئيات وهو يحلم بأن يموت مرة اخرى) .. في قصة (مخفوق الانامل) .. هنا شبه والقاص الموت باللاجدوى، غرق ثم انتشال اخرس اجوف مهزوم بالرغم من الايحاء الايجابي لمفردة انتشال، بعدها التشظي حين اصبحت افكاره احلامه امنياته هشيما تذروه الاقدار، ليتحول بعدها الى راية موت يقف عندها الزمن ويتلاشى، هذه المراحل الثلاث التي وضع فيها القاص بطله، كانت تمثل انتقالات نفسية حادة ومتطرفة ادت به الى ان يصبح فعلا سلبياً اينما حل (غرق في نفسه فانتشله صوت اخرس.. صار هشيما تذروه المنون ..انتشر راية موت لا تمر بقبضة مكان الا احالته زمنا لا وقت فيه).

ثالثا : اللغة: ربما كانت اللغة هي اكثر ادوات واثق الجلبي فعالية في تقديم نصوصه، استطاع توظيفها بشكل استثنائي ينم عن قدرة كبيرة يمتلكها في صياغة التراكيب اللغوية والجمل الموحية، وانتقاء المفردات ذات الدلالات المؤثرة والتي كان بعضها غريبا قليل التداول، واستخدام بعص التقنيات السردية مثل الانزياحات اللفظية (كالاستعارات القرانية والتراثية).. اضافة الى استخدامه ادوات (الجزم والنفي والاستدراك) بمتوالية لفظية مكثفة، لا يكاد يخلو نص منها، والتي تشير الى طبيعة الشخصية القصصية التي رسمها القاص وقلقها الدائم وتذبذبها، واستلابها القسري وعجزها عن مواجهة اقدارها، لذلك نجد اداة الجزم (لم) تتكرر بطريقة استثنائية، مشيرة الى (العجز) وعدم قدرة الابطال عن الفعل والمبادرة، في قصة (معادلة) استخدم القاص اداة الجزم (لم) اربع مرات اضافة الى اداة النفي (لا) والاستدراك (لكن).. (لم تطب نفسه بالنهايات المفتوحة... لم يدخرها الجوع.. لم يتمناه.. لم يعرف.. لا وجود للكوابيس... لكنه رحل سريعا ..). هذا القلق النفسي والسلوكي الذي رزح تحت وطأته ابطال النصوص،  وطبيعة الافعال التقريرية  التي رافقت حراكهم النفسي والمادي، نتج عنهما نهايات مفتوحة لأغلب نصوص المجموعتين.. فغياب القدرة عن فعل شيء تقود الى اللانهائية.

رابعاً : الدين والاسطورة : استعان القاص في بعض نصوصه بالشواهد والمقاربات الدينية والاسطورية (اسماء انبياء، اسماء شخصيات اسطورية، مقاربات قصصية قرآنية).. في محاولة منه لاستثارة مكامن القارئ ونوازعه الفطرية والمعرفية لغرض التفاعل والتعاطي الايجابي مع هذه النصوص، وهذا ما اطلق عليه عالم الانسانيات الفرنسي بول ريكور (القاع): وهو استخدام المخزون الانثروبولوجي (الدين، رواسب الماضي المجهول ، الاسطورة) التي لاتزال جذورها متقدة في الوعي الجمعي وتؤثر فيه، وزجها في متون النص السردي، لإشباعها بالمؤثرات الميثولوجية والدينية القريبة من بيئة المتلقي.

 

احمد عواد الخزاعي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم