صحيفة المثقف

في مخاطر التمييز والعنف ضد المرأة

قاسم المحبشي- نسبة العنف الموجه ضد النساء تتناسب طردا مع نسبة الشرور التي تفتك بالمجتمع.

- إن أردت أن تعرف حال مجتمع من المجتمعات فانظر إلى حال نساءه. 

- المجتمعات التي تُحتقر فيها المرأة تظل مجتمعات حقيرة وعنيفة


حتى لا يظن الأصدقاء الأعزاء والصديقات العزيزات في هذا الفضاء التفاعلي بأننا ذهبنا إلى شرم الشيخ لكي نتفسخ تجدر أشارة إلى أن المؤتمر الدولي الأول لمناهضة التمييز والعنف ضد المرأة؛ تمكين، مساواة، تنمية مستدامة قد جرى الإعداد له منذ قرابة سنة من قبل ادارة المنتدى العربي الأفريقي للتدريب والتنمية وقد بذلت جهود مضنية من الباحثين والباحثات المشاركين في أعماله لتقديم أوراقهم العلمية بحسب الشروط الأكاديمية المتعارف عليها عالميا بحسب معايير  الجودة والاعتماد الأكاديمي، وتعد قضية مناهضة العنف ضد المرأة من القضايا التحديات الحيوية التي تستدعي الاستجابة العلمية الفعالة في المجتمعات العربية الإسلامية اليوم إذا ارادت الشروع في إعادة تأهيل وتنمية الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية العربية على أسس عقلانية سليمة فالمرأة هي مصدر ومحور كل تنمية ممكنة ولا تنمية مستدامة بدون تمكين المرأة وإشراكها الفاعل في مختلف فعاليات الحياة الاجتماعية فالتنمية شراكة مجتمعية والمرأة هي وطن الأوطان

كلها. أول منازل الكينونة المشمول بالأمن والأمان والرعاية والرضاعة والحب والحنان  والحبيبة الحضن الدافئ والسكن الحميم ثاني منازل الحب والإشباع والاستقرار والإنجاب هذا فضلًا عن مكانتها المحورية في تشكيل العائلة والبيت والمنزل وما لكل ذلك من دلالات اجتماعية وسيكولوجية. أن التفكير بالمرأة هو التفكير بالكائن الإنساني الحقيقي جدا، الأم والزوجة والأخت والبنت والعائلة والمجتمع والمؤسسة والوطن والدولة والرعاية والتربية والحب والحنان والسعادة والتسامح والأمل والحاضر والمستقبل. مضى زمن طويل منذ أن بدأت حياة الكائن الإنساني على كوكب الأرض, لم تكن فيه المرأة "حواء" شيئاً مذكوراً أو جدير بالاعتبار بذاته ولذاته ومن أجل ذاته, بل كان الرجل الذكر هو سيد الموقف, وصانع التاريخ وخليفة الله سبحانه وتعالى في الأرض, ومبدع الثقافة وباني الحضارة وحامل الأمانة المقدسة, وحافظ الأسرار والمعارف والعلوم والفنون ومروض الوحوش, وصاحب الحكمة والعقل والخلق والدين والملاحم والبطولات إذ كانت كل الصفات الايجابية التي تدل على الفعالية والقوة والنشاط والإنتاجية والانجاز والانتصار والعنف والحرب تلصق بالرجل الذي ظل يتربع على مسرح التاريخ الإنساني حتى وقت قريبا وظل مفهوم الإنسان يطلق على الرجل فقط, وكانت كل الكائنات والأشياء والطيبات بما في ذلك الكائن الإنساني الأخر الشبيه به تماماً- أي المرأة الأنثى- تدور حول فلكه الذكوري وتسخر لخدمته وتخضع لمشيئته البطريركية, وعلى مدى الآفالسنين من تجربة العلاقة الاجتماعية والممارسة التاريخية لحياة الرجل والمرأة ترسخت الهيمنة الذكورية والقيم البطريركية عند مختلف الشعوب والمجتمعات حتى اكتسبت صورة الضرورة الطبيعية البيولوجية والمسلمة البديهية التي لم تعد تثير الشك والتساؤل عن حقيقة مشروعيتها. رغم أننا نعلم أن قصة استبعاد المرأة وتهميشها وقمعها وإقصائها وتحقيرها وسحقها وقهرها وإخفائها من عالم الإنسان "الرجل" يعود إلى جملة من الأسباب والشروط التاريخية والاجتماعية في الأزمنة البدائية جداً, إلا أن استمرار هذه الحالة المؤسفة حتى العصر الحديث يثير الحيرة والعجب. وهذا يعود في نظرنا إلى خطورة الاعتقادات والتصورات والآراء والأوهام والعادات التي تترسخ في حياة الناس ويتوارثوها جيل بعد جيل كأنماط ونماذج للسلوك, أو " الهابيتوسات" حسب عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو, يقول عالم النفس التربوي الأمريكي " آرثر كوفر" في كتابه " خرافات في التربية" "يسلك الناس وفقاً لما يعتقدون. فإذا اعتقدت أن شخصاً أمينا فسوف أثق به, وإذا اعتقدت أنه غير أمينا فلن أثق به. إننا نسلك وفقاً لما نعتقد .وحينما تكون معتقداتنا صحيحة وصادقة, نستطيع أن نحدث قدراً كبيراً من التقدم. أما إذا  كانت معتقداتنا خاطئة فإنها تعوق هذا التقدم وتحبط آمالنا, وتعرض الحياة الإنسانية ذاتها إلى الخطر"(ارثركومز, خرافات في التربية, ترجمة عبد المجيد شيحة عالم الكتب ـ القاهرة ـ ط1 1990م ص1) ولقد ذهب كل جيل ضحية لمعتقداته ولخرافاته وأوهامه وأساطيره,  فحينما اعتقد الصينيون أن الكون ينقسم إلى الين واليانج, أي الأنوثة والذكورة الـyang يرمز إلى مبدأ الذكورة والعنصر الايجابي الفعال المنتج السماوي وعنصر الضوء والحرارة والحياة, والـ yin ويرمز إلى الأنوثة العنصر السلبي المنفعل, الأرضي عنصر الظلمة والبرودة والموت. والحقائق كلها يمكن ردها إلى تعارض واتحاد العاملين الأساسيين في الكون, الذكورة الأنوثة أي اليانج والين(وال ديورانت قصة الحضارة: الشرق الأقصى, الصين ج4.م1 ص17) كان من شأن هذا الاعتقاد الأسطوري, أن يعمق الهوة بين الرجل والمرأة ويمنح الرجل الذكر مكانة أرفع من مكانة المرأة الأنثى. وحينما اعتقد أهل اليونان أن العقل يحكم الكون, وأن الرجل هو الكائن العاقل الوحيد, وان المرأة كائن حسي غير عاقل, برروا النظرة الدونية للمرأة. وحينما اعتقد العرب قبل الإسلام بان الأنثى كائن يجلب العار ويضعف الرجال, شرعوا عادة وأد البنات... وحينما يعتقد بان جسد المرأة وصوتها ووجهها من العورات فلابد أن نختفي عن الأنظار وتحتجب عن الغرباء من الرجال. هذا معناه أن سلوك الناس وتفاعلاتهم وعاداتهم وتفضيلاتهم وأفعالهم وردود أفعالهم ومؤسساتهم ونظمهم وتقاليدهم لا يمكن تفسيرها وفهمها من خلال تمظهراتها المباشرة, بل لابد من الذهاب إلى ما ورائها, من المنطلقات والأسس العقيدية واللاهوتية أو الفلسفية, كما أن اعتقادات الناس في أي زمان ومكان ليس مجرد أفكار أو تصورات معنوية وكلمات ومفاهيم معرفية مجردة, بل هي نتاج قوى اجتماعية وسياسية وثقافية نشأة وترسخت عبر مسار طويل من الخبرات والتجارب والممارسات في أنماط سلوك وعادات وخبرات أو هابتوس((Habitus)) عادة أو طبع أو نسق الاستعدادات والتصورات اللاشعورية. وفي سبيل التعرف وفهم أسباب التمييز والعنف ضد المرأة

يلزمنا البحث في الشروط السوسيوثقافية للظاهرة

وهذا هو موضوع ورقتي المقدمة إلى المؤتمر* واليكم بعض ما جاء فيه:

يرتبط العنف ضد المرأة في مجتمعاتنا العربية التقليدية بالتمييز الجندري، الذي يضع هوة سحيقة بين ذكور وإناث النوع الإنساني ضدا على الفطرة الطبيعية التي وهبها الله للكائن البشري بالتساوي؛ إذ يبدأ التمييز العنيف ضد المرأة منذ لحظة الإخصاب الأولى في رحم الأم، حيث ترفع الأيدي بالدعاء لله بان يكون الجنين ذكراً لا أنثى، وتظل الأم الحامل في حالة قلق وتوتر طوال مدة حملها بشأن هذا الكائن الذي بدأ يتحرك في رحمها! خشية من غضب الزوج وذويه، ولا يزول القلق إلا في لحظة الولادة، حيث يبلغ التمييز أوجه، بانشراح الأسارير وإطلاق الزغاريد بالقادم الجديد إذا كان ذكرا، بينما تعبس الوجوه وتذرف الدموع ويعم الحزن والغضب والتجهم إذا كان المولد الجديد أنثى، وبهذا تواجه الأنثى منذ لحظة ميلادها أول صدمة عنيفة في حياتها، صدمة تتمثل برفض المجتمع لوجودها بوصفها كائنا غير مرحبا به ولابد من وأدها بالمهد، كما كان يفعل العرب قبل الإسلام، غير أن العقلية الذكورية المهيمنة ابتكرت طرق شتى لممارسة وأد البنات بعد الإسلام الذي حرمه؛ الوأد الرمزي، إذ يتم وأد الجنين الأنثى بعدم الترحيب بميلادها وبإخفاء خبر مجيئها، بعكس المولد الذكر الذي يعد ميلاده في العائلة العربية موسم احتفال مستمر منذ الصرخة الأول والختان والتهاني والهدايا والزيارات التي تستمر مدة أربعين يوما وأكثر! منذ ذلك الحين يتم وأد أنثى الإنسان بالمزيد من الإخفاء عبر التمييز الجنوسي باختيار الملابس والألعاب والإهمال، والقسوة في التربية والتحقير والتخجيل من جميع أفراد العائلة، ومن ثم الحرمان من اللعب الحر في الشارع والفضاء العام كما هو حاصل في بعض الدول العربية الأشد تخلفا التي تحرم على البنات الخروج للعب في الشارع والكلام مع الغرباء، والحرمان من التعليم وإجبار الفتيات على البقاء في البيت حتى يأتي العريس الذي يتم تدبير أمره برغبة أهلها دون علمها وبغير إرادتها، قبل بلوغها سن النضج، وقد شهدت اليمن ودول الخليج حالات لا تحصى من زواج الصغيرات وبعضهن يتم ربطهن منذ الولادة فيما يعرف بزواج المبادلة. هذا التمييز يصاحبه دائما حالة من العنف والقسوة في التعامل مع الإناث بالضرب والتوبيخ والتحقير والاستعباد من قبل الأمهات والإباء والإخوان الذكور، ومن قبل الأزواج والمجتمع كله.وتتعدد أنماط العنف والتمييز ضد المرأة في مجتمعاتنا العربية، في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والحقوقية والأخلاقية .. الخ بحرمانهن من حرية اختيار ابسط خصوصيات حياتهن، الكلام والزى واللعب والألعاب والدراسة والزواج والعمل والمشاركة في الشأن العام والسفر والسياحة، وما يصاحب ذلك من أنماط العنف المادي والرمزي، عنف جنسي الخطف والاتجار والاغتصاب والقتل خارج القانون، والعنف الاقتصادي بحرمانهن من العمل وجعلهن جواري يخضعن لشهوات الذكور وخدمتهم في المنزل وخارجه، والعنف السياسي، بحرمانهن من حقوق المواطنة والانتخاب وتقلد المسؤوليات القيادية، والعنف القانوني والأخلاقي، بوجود تشريعات تنقص من حقوقهن وكرامتهن.والعنف الأخلاقي والجمالي، في النظرة إلى المرأة بوصفها موضوعا للرغبة والمتعة فقط في البيت أو الشارع أو المدرسة أو الجامعة ، أو العمل، أو السوبر ماركة، إذ يتم التحرش بهن ومطاراتهن بالعيون والأيدي والأرقام والسيارات وعبر وسائط التواصل الاجتماعية..الخ دون أن يجدن من يحميهن. وفي ضوء ما تقدم يمكن الاستخلاص أنماط العنف والتمييز ضد المرأة في المجتمعات العربية الإسلامية.

والخلاصة هي ؛  حينما يتكرر السلوك يصير عادة وحينما تترسخ العادة  تصير ثقافة لا تكمن مشكلة العنف في اضرار الواقعية المباشرة التي يحدثها في الاجساد والنفوس بمستويات مختلفة بما يتركه وينمّيه من أثار غائرة  في القلوب والأذهان وخطر موجة العنف الذي تعيشها المجتمعات العربية الإسلامية اليوم بمختلف أنماطها واشدها قسوة وهمجية ووحشية التي تفتك بحياتنا أمتنا العربية العظيمة المستمرة منذ عقود بما لم يشهد له تاريخ مثيل تعد بكل المقاييس أسوأ كارثة في تاريخ الإنسانية على الإطلاق.

 

ا. د. قاسم المحبشي

....................

* ملخص ورقتي المقدمة للمؤتمر

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم