صحيفة المثقف

نقشٌ على شاهدة (السّياب يموت غداً)

انعام كمونةلعبد الجبار الفياض

الأدب الإنساني وحداثوية السيرة الذاتية

بدلالة الرموز والتّناص في أسلوب الفياض

مقدمة

- يبدع الفياض برحلاته التاريخية عبر أشرعة التأمل، يرتاد الازمنة على صهوة المعرفة بقراطيس الحروف خير سندباد، متخذا ستراتيجية فنية وأدبية بأروع ما تعتصره النبضات، يلامس شغاف الوجدان للمستقرئ الفطن والقارئ المثقف برصيد الأدب ينزف الوجع بيراع راصد ومؤرخ للحدث بلغة معاصرة، فيلجأ للرموز والتناص من فلذات الفكرة باحثا عن عمق التراث بأنواعه من الأدب والتاريخ وأسطورة وحضارة ميتافيزيقية، ليثري نسق النص بالشكل والمضمون ويتيح للباحث فضاء التأويل بما يملك من واحات معرفية، يبعثنا للاستزادة من آفاق معرفته واستقراء دهاليز الغموض من دلالات متعددة تنضوي ما بين البنى ايحاءً وغموضا ملاذا لآلامه وخلجاته، يتنفس رؤياه بتضمين يتحفه استعارة أو يضيئه اقتباسا بتشبيه فيزينه تقديسا بشهقة حياة اكلمت تأمله برحيق الإنسانية والعرفان، بناظرينا نصا لأيقونة تراثية برائحة المطرالشاعر العراقي بدر شاكر السياب، فلنعانق رؤى الفياض بترحاله الدؤوب بين معالم نص معاصر برؤيا مدهشة وخيال معبر لنص حديث .

العنوان:

- العنوان هوية النص، وشرارة الولادة للنص الحديث، واضاءة تلوح لجودة انبثاق العمل الأدبي عامة وتضمين النص الشعري خاصة، منه ترتسم العتبة الأساسية للدراسات السيمائية وما يمثل من وظائف الإيحائية والتأثيرية والتأويلية والدلالية وغيرها، انه اللقاء الأول للباحث والمتقصي ليرتع من جنباته بما يمتلكه من آليات وتقنيات للولوج بما يظهر جهده وجديته في مجمل ما يبحث عنه شكلا ومضمونا في أسلوب النص وانساقه بتماس مباشر واستيعاب صادق للنص برؤيا فنية دقيقة تحث الهامه، يقتضي دراسة جدلية اسلوبه شكلا بصبغة فنية تحدد جمالية الغموض التي ترسمها انساقا بإطارها الخارجي تارة وخبايا دلائلها مضمونا داخليا آخر، لنستهل تلابيب النص ..

- نقشٌ على شاهدة

(السّيابُ يموتُ غداً)..

- من تلافيف التخيل تطل ومضة مكثفة الصياغة بشحنة رمزية ايحائية الصورة الشعرية، فاتحة نصية بالتقاطة رائعة التأمل تكاد تكون نصا آخر بشكلها السياقي، يضفي طابعا شعوريا مركزا لتحديد نفسية الشاعر وتأمله وما يود قوله للقارئ، وما يطالعنا من تشكيل المعنى اللغوي للعنوان هو بساطة اللفظ إلا أن تكوين نسجة اللغة وعلائقها توحي بالمدلول وجمالية التركيب الفني تعني القصيد وما ابتغاه الفياض إيديولوجية الروح الاجتماعية، وفلسفة معرفية بكيان لغوي واستجلاء تراثي وحضاري، يتمرأى بفحوى النص غموضا دلاليا بزمكانية متضادة تتقابل بالافتراض الإنساني الواهم لوجود جوهره التنافر بين عناصر الطبيعة وإتلاف الصورة الذهنية لحقيقة متيقنة المنطق ...

 - (نقش على شاهدة) نكرة اللفظ مُعرَفة الخيال والتصور مفارقة تداخلية عميقة الإيحاء، نقشٌ بعسجد الحروف على جفن قبر جدلية الهام ذهنية الحركة تثير القارئ، فيستشف الرؤى وما خبأ المكنون بما ضمر الخيال ببوصلة الحس الوجداني للشاعر ليكتمل التصور لديه بإبداع آخر يسري لثنايا تأويله ايضاحا، وقد تجسد النقش كائنا على جبين الحياة، فالشاهدة مزقت حضارة الفناء وألبستها اردية الوجود واستفاقت الروح ممعنة الحضور بعروش الرؤيا ليقظة شاعر أرقت مآقيه فيض الم لنكران عطاء فأرخ معاناة حياته بإنشودة السياب وأشاع روح السياب من ضمير الزمن فلاذ بأزمته الذاتية باستدعاء رمز تراثي ادبي لنقل التجربة الشعرية لمعاناة سيرة ذاتية بخصوصية ابداعية ...

- تتجلى بنية المفارقة من لبنة العنوان الذي يخلق التشويق ويلوح بالإبداع، فكيف ان تكون صخرة شاهدة على عصر بإزميل النقش..! وكيف ان يكون الموت ضيفا على السياب غدا..!، فالتناقض محورالحقيقة والخيال، اذن الفياض يخبرنا بحدث آتي ممطوط الوقت متفرع الزمن، يدهشنا من الوهلة الاولى، قد يكون مستوحى من حدث ذي بعد تاريخي و إرث ثقافي بتوظيف رمزية السياب، فكم رمزا ثقافيا سيموت غدا ؟، الفياض يشحذ نبضاته بقمة شعورية في خطابه الشعري، وشعورية ذات جذوة قوية الثبات لاستراق دهشة المتلقي، بتشكيل دلالي مركز التعبير، بل ابداع بادراك لصميم المعاناة وترسيخ البقاء في ذهنية المتلقي، واشارة واضحة الرمزية غائرة الدلائل بكنه النص، تتماوج اشاراته التقريرية بين المعنى الظاهر والبعد الباطن، تغوينا بالغوص في ثناياه، والشاهدة احتكرت بناء نبض الحياة واعتصمت بهيمنة وجود أزلي لا تمحوه عجرفة الأنا ولا ترسبات النسيان أو انجرافات الجهل، فنرى اختياره لجيولوجيا صلدة التكوين، ورمزية الخلود شاهدة شامخة الدلالة ليقين الحرف...

- سيمائية العنوان ذات نتاج انفعالي عميق قد وثقت بايقاع الخشوع واتقاد الذكرى على هامة قبر لم يسكنه السياب بعد، الا ان تاريخه منقوش بذاكرة التراث فالنقش تاريخ رصين الأثر منغرز الوشم، وحلم مستحدث اليقظة عبر مناهل الذاكرة، فهو مرتكز دلالي ومختزن لمرجعية النص وها هي تقنية الشاعر أن يتشح العنوان بجسد النص، ويطوع اللغة بمرونة تقنياته، فالشاهدة لوحة الهيمنة البصرية المانحة للتخيل الذهني، لذا فهي ا*لمعرفة الدلالية متعددة الأبعاد والقصدية الموغلة بتكثيف فائق الرؤية، وتشكيل حيوي بتركيبة بنائية وغاية جمالية أثرَت الصورة الشعرية باستعارة بليغة وتشبيه متضاد ...

- والتضاد بين الخيال والحقيقة فنية تأمل تقتنصها صنعة المبدع وخبرته الادبية عبر ضمير الذات الموجعة التي يمتد مداها لمتن النص والمتواصلة مع الآخر لتقنع المخاطب بوهج الاحساس الذي يوقظ شخصية السياب بسيمائية حداثوية ويرسم معاناته من خلال رموز عدة باعتبارات تأويلية، فرمزية النقش على الشاهدة توحي لجوهر تراث وأصالة حروف بحضورها الدلالي من خلال نقض موت السياب وتأكيد حياته بنفي اليوم لموعد غدا !، فالفناء حتمي لكن أي غد يقصد وبعد اي يوم سيموت ومتى يأتي هذا الغد ؟والفعل يموت دلالة الحاضر وتأويل المستقبل، بذلك حَدَث الفناء لا وجود له بما اوحى برمزية النقش على الشاهدة، اذن هو نقش على حجر الخلود و استلاب زمن من دهاليز الماضي واستحضاره باستشفاف رؤى إنسانية، والغاية بذاتها احالة تشي لوجوده الواقعي !، فالشاهدة ما زالت سيرورة العمر ورافدة حروفه ...

- والنقش بدلائله الاخرى حلم وطموحات بذاكرة لا تنطفئ وجوهر حروف يستمده الفياض عمرا آخر، بذلك اصبح المستحيل ممكنا، ويتسع الدليل بحرف الفياض وهو الذي له معاناة سابقة ايضا بمرارة التناسي فأوحى بحرفه مأساة الكثير من الادباء، وهذا نزوع فكري علمي بأسلوب ادبي قد أرسى التواصل الحضاري بتاريخ زمني مفتوح، التفاف ذكي على الزمن فالمعجم جسده المعنى الظاهر وروحه دلالة المغزى .. فأي سياب سيموت غدا ؟، هكذا يحتفي الفياض بتراث السياب يلملم آثاره من عوالم الفقد كما يبني ذكراه من غيبيات القدر برمزية الذات ..

- يقول صلاح فضل: "وليس من حق الأدب ألا ان يكون تاريخيا بمعنى - وهذه هي النقطة الجوهرية التي نود الاشارة إليها - أن التاريخ لم يعد مجرد احتمال من احتمالات متعددة في الإبداع الأدبي والفني أو طريقة من الطرائق المختلفة في تناول هذا الابداع بالبحث والدراسة والنقد وانما أصبح قدرا لابد للمبدعين أن يلتزموا به ولا بد لمن يعالج أعمالهم بالنقد والدراسة أن يتمثله ويستقرئ قوانينه، ويطبقها على الإنتاج " (عن مناهج النقد المعاصر)، وقد عَرَفنا الفياض برحلاته الأدبية والتي تتأرجح بين تاريخ الماضي للذاكرة وبين ترسيخه مفخرة أثر للمستقبل بسيمائية النص الحديث، وممارسة بمرجعية ثقافية تتوافق مع تاريخ العصر الآني والتغيير ومرجعا لأجيال لاحقة لحفظ وصيانة مكانة الأدب والأديب، بترك بصمة تراثية ادبية لا بد منها بنظرته التمهيدية كمؤرخ ادبي ونضج فكري بأمانة انسانية...

- وظف الشاعر عنوانا خصبا لمتعة وغواية المتلقي بفتح متاهات دلالية لا متناهية لقراءة نص حديث، نرى سمة التناص باستحضار شخصية السياب ملمحا لرمز الوعي الانساني المعذب واسطورة العاطفة المرهفة مكسورة القلب، رمز الصراع والسكينة، تضاد لكل أوجه ديمومة حياة قد اطلقها الفياض بلسان حرفه وقلب محبرته لمحور نقاش التساؤل من نسق ظاهري لمضمون عميق فخلف توازيا شكلا ومضمونا، وأن هذا الفيض الذي أرقه سنين كتمان وحرمان، جَسَدَ ثنائية اجرائية لحدث تاريخي تراثي عن ايقونة ادبية خطها المكان والزمان بأصابع المداد المعتق بالنحيب المتأسي، فالسياب يتجسد به روح المواطن الموجوع بالفقر والفاقة والمرض والعوز والمتشرد داخل وطنه والمنفي بإقصائه عن وظيفته، فالقرينة ليست فردية فقط بل خاصة بنفسية الشاعر وعامة عن معاناة اجتماعية وسياسية لكل من تعلقت باذياله خيبة امل ونُقض وجوده كمواطن لأنه اعتنق مبدأ ما، فالسياب رمز لأدباء العراق خاصة والمجتمع العراقي عامة...

النص -----:

- يحدو بنا الفياض بترحاله الفكري المتقد بإحساس حضاري وتراث اسطوري يسجل تاريخا لذات مأزومة، يغوص باعماقه المتفاعلة بمراحل حياة السياب ومعاناته، فينبثق أمامه غمار مستقبله مما يجعله متوجسا من خوف مشابه أن تكنهُ احجيات الزمن بعرفان منسي، لذا يلملم ذخيرة للبقاء بتوقع حذر، يبث حروفه فيرسم لنا سبلاً بخبرته التكنيكية لنتواصل معه بأمانة ذكرى معتقة بالوفاء ...

- ان من شروط إنتاج العمل الادبي هو التناص والذي يُعَرِفَهُ د.عبد الملك مرتاض بأنها ("تبادل التأثر والعلاقات بين نص أدبي ما ونصوص أدبية أخرى"، ويؤكد بأن هذه الفكرة كان النقد العربي قد عرفها بصورة تفصيلية تحت باب السرقة وأبواب مختلفة، فالتناص عنده عبارة عن "حدوث علاقة تفاعلية بين نص سابق ونص حاضر لإنتاج نص لاحق " عن التناص والأجناسية) وقد تناوله الكثير من الأدباء مذ باختين سنة 1928وللآن حتى اعتبر أحد ركائز النص الحديث .. إذن التناص كمصطلح نقدي هو عبارة عن آليات إنتاج النصوص وعلاقتها ببعضها بطبيعتها الأجرائية الكتابية تندرج ضمن مجال التناص، وبما ان التناص هو جزء من المنظومة الدلالية التي تعطي معنى التأثير والتأثر يفتح آفاقا لمرجعيات معرفية متنوعة فيكون النص غير مغلق، وكثيرا ما تعتمده الدراسات السيميولوجية، وقد اعتمد الفياض بتفاعل رؤياه مع الواقع باختراق أجرائية التناص كرموز تثري سياق النص بجمال التنوع المعرفي، فلنقطف من عتبات النص ونبحر بخليج الآمه ....

ألقى ما أثقلَهُ سَفَطاً في جوفِ الخليج

آلامَه

جيوبَهُ الخاوية

ألقابَاً لم تأْتهِ بشروى نقير

عملةً مُلغاة

رُدّتْ بوجهِه

شربَها كأساً فارغة ...

عادَ عارياً

ليتوسّدَ ذراعَ الحسنِ البصريّ

يقبّلهُ الخليلُ معاتباً ..

.....

شناشيلُه

الموشّاة بخيوطِ شمسٍ سومريّةٍ

تنقشُ السّمرةَ على جلودِ الحُفاة

مشقتْها من قبلُ على جبهةِ ديموزي

أثداءِ عشتار ...

أنَ تُعادَ لها الألوان

والدُهان ...

ما زالتْ ابنةُ الشّلبي

تشربُ الزّمنَ بزجاجةِ كولا والمطر

تضعُ كرّاسَها على شرفةِ انتظار

غادرَهُ الرّصيفُ

الظّلُ

يذوبُ بظلامِ يأسٍ شعراً

يحفرُ أسماءً على جذعِ شجرةٍ ميّتة !

- يعرف بارت النص بأنه "نسيج من الاقتباسات والإحالات والأصداء من اللغات الثقافية السابقة أو المعاصرة التي تخترقه بكامله" عن بارت، (من الأثر الأدبي إلى النص، ت.عبد السلام بنعبد العالي، مقال من مجلة الفكر العربي المعاصر) سنرى التنوع بلغة الفياض والأنتقالات الدلالية بين التناص والرموز لتكثيف الفكرة وإدغام المعنى وايقاد بذرة المتابعة بالمتعة والتشويق .....

- شرع الفياض ببناء عتبة استغرابية الاستهلال تقلق تساؤل القارئ منذ اللحظة الاولى، تشد انتباهه فتحفزه للأستكشاف حين يقول: ألقى ما أثقلَهُ سَفَطاً في جوفِ الخليج، ابتدأ الشاعر بالفعل القى فعل: رباعي متعد متعدد المعاني قوي التأثير على السمع دلالته وما يحمله مخفي بجوانح المعنى قد تكون رمى او طرحه او سلمه او القاه شعرا من القاء القصيدة وغيرها من دلالات ومعاني لو نقتصر تفسير ما يتبعه، فالسفط جوهر الحياة بما يحمله من متاع وارزاق وديمومة العيش البسيط فهل السفط مكمن الهموم وقد اثقل كاهل السياب ام بما غلى امتلائه وثمن فراغه ؟ قصم ظهر السياب فالقاه قعر الخليج فائض عنه !، و ليستقر عيشه رمى بما توهم من رغيد فلا وجود لما نفذ منه ! ؟ من استغنائه عن رمق السفط تفتح نوافذ الحدس المضني بالتأويل لنهتدي اي الدلائل تكون؟، قد تكون جميعها !، ومتى ما نُفض السفط وألقي جانبا فلا لقمة عيش فيه، فقد صفق كفيه وتنحى بدمع النسيان ..

- والسفط وعاء الفقير المنسوج من نسيج القصب او الخوص او السعف والتي يستخدمها الفقراء بالذات، مما يدل على معاناة الجدب الذي يعاني منه الانسان العراقي بشكل خاص اهالي الفيحاء نتيجة الحروب وتكاثر الويلات رغم انها مدينة الثروات، سفط أثقله حرمانا وجوعا فامتلأ غصة، وغرق في تيه الخليج، والخليج هو قاع الخيرات وقرار الغرق، وفي تناص مع قصيدة للسياب عنوانها (غريب على الخليج) اشارة تتجلى فيها معرفة الشاعر وما أدركه من معاني لآلامه القريبة لحرف السياب فلا عجب وهو ابن جلدته ومدينته ...

- وكثير ما ذكر السياب بنصوصه مفردة الخليج ولنستذكر بعض أبياتها (جلس الغريب يسرّح البصر المحيّر في الخليج..و يهدّ أعمدة الضياء بما يصعّد من نشيج)، القصيدة رائعة وطويلة بمعاناة الاحتياج، فالجيوب خاوية الروح مملؤة الوجع وكأسهم فارغة من قطرة رواء، في نفس القصيدة هذه الابيات له يشكو شدة عوزه وهو مريض وبعيد عن العراق ومدى اشتياقه للرجوع لوطنه (واحسرتاه .. فلن أعود إلى العراق …وهل يعود…من كان تعوزه النقود ؟ لتبكينّ على العراق.. فما لديك سوى الدموع) نقرأ لوعة وجعه في كل حرف منها فتأويل السفط جوع مفرط ومرض مزمن بخليج الحرمان القاسي ...

- استثمر الفياض مثلا شعبيا معروفا هو (لا يملك شروى نقير) لما يحمله من اختزال وتكثيف، يقول إميل ناصف عن تعريف المثل في قوله: (المثل عبارة موجزة يستحسنها الناس شكلا ومضمونا فتنتشر فيما بينهم، ويتناقلها الخلف عن السلف دون تغيير، متمثلين بها، غالبا في حالات مشابهة لما ضرب لها المثل أصلا، وإن جهل هذا الأصل) عن الأمثال العربية ... النقير هو الندبة التي في ظهر النواة،، وقد ذكر تناص تراثي ألهمه التشبيه وبيان المقاربة فتيمن به لما ازدان السياب بالقاب منها اليوت العرب .. ناسك المطر .. أسير بويب وغيرها، لم تغنه عن جوع بل صفعت وجهه بالفاقة والحرمان، قد مات غريبا ودفن في مقبرة الزبير في محافظة البصرة جنوب العراق والمسماة مقبرة الحسن البصري وهو من الفقهاء وفيها قبر الخليل الفراهيدي صاحب العروض ...

- يستمد الفياض من فحوى اسطورة ويلبسها حداثوية النص مما يزيد حرفه جمالا وتقنية وعمق تجربة شعرية باذخة، يحكي لنا الفياض سيرة حياة السياب ويسرد تفاصيل من نصوصه ومن ثم يؤكد توسده أقرانه الادباء فيلحقنا بعبق عصور أدبية حاضرة الحرف دوما، ثم يحيه بشاهدة استرجاع عبر نقوش الزمن، وبما غمر مناخ النص بدلالات تثير توقع القارئ المحصن بمعلومات عن السياب وإلا فليضاعف بحثه ويطرق نصوص السياب وبهذا قد اومأ الفياض بما قصد، مات السياب وهو لا يملك غير الجسد المنهك اشارة الى ألفقر المدقع .

- ثم ينعطف بنا الفياض ويسرد علينا حكايته مع شناشيله، بما ان الهاء ضمير الغائب فهو متصل بزمن السياب وبتوظيف لرمز آخر من قصائد السياب يقحمها ببراعة وسيميائية جمالية، فيدرج بوحه بتناص مع عنوان لقصيدة هي شناشيل ابنة الجلبي آخر نصوصه على الارجح والتي كتبها وهو على فراش الموت في لندن سنة 1964،، والشناشيل سمة الثراء والترف للبيوت القديمة وما زالت هويتها باقية كتراث حضاري ورمز تاريخي واجتماعي، الفياض يحث الزمن ويستحدث الماضي،، فيبحر في نفسية السياب وعوالم امانيه عبر سواحل تخيله، يرى السياب حبيبته من خلال شبابيكها التي تخترقها خيوط الشمس ناثرة همس الضوء وبرودة الظل يتغزل بسمرة الملامح، فالعشق ممتد مذ لمح ديموزي عشتار التعبد تشبيه رائع لانغماس الأسطورة في ربوع النسق ازهرت حداثة فنية، فالسمرة ميزة الجمال السومري الجنوبي، اذ كان يتمنى ان يحفل بحب هذه المرأة المترفة والراقية الا انه لم يوفق بحب اي امرأة له فكان حبه من طرف واحد كما ذكر معظم معاصريه ومتابعي تاريخه، فحياته حافية الجوف متعبة الجباه رغم غيث منابعها الثمينة، يتساءل الفياض بتأثره والحنين يعود لتراثه روح التجدد بطلاء التزويق، أيكون للزيف مرتع حياة ؟ وبشفرة التأويل بهتان ما حوله أرَقَ صميم حلمه وضاع الماضي والحاضر بلمحة كذب ...

- ونعاود على ذكر المطر وهي السمة المميزة للسياب ما ان يُذكَر السياب حتى نشم رائحة التراب المبلل بالمطر فتنتشي الذكرى باريج المطر، فالتناص أنعش المطر بحد ذاته، وما زالت حروفه تسكن أمانيه بشرفات الانتظار المضني يأسا دون كلل !، فالمحب ينسج عشقه على جذوع الشجر، لكن السياب نقشها بأشجار خياله على غربة المطر لذكرى تتجدد، إشارة بليغة المعنى لقلب جريح بحب لا وجود له بل صدى تخيل، وبهذا توظيف الاحالات دلائل غائرة وصفة علاماتية واشارة توصلنا لغرض الشاعر بامتهان لغوي ...

- نرى تجانس الاختلاف في الفروقات ما بين المترفين في شناشيل السياب والحفاة تلفعهم مشقة التعب على طرقات الشمس، وقد تآلف التضاد في كتم الرغبات في الواقع مع استباحتها في مطلق الخيال فأرسى التماسك بأقطاب مجازات النص وبما يحمله من دلالات ضدية يقرضها القلق النفسي من رؤى مستقبلية بفراسة فياضية الحدس وبصيرة موقن .

- اعتمد اسلوب الفياض على مستوى الشكل النسقي الخارجي بما يشمل المعجمي و الرمز والدلائل وتلك مزية النص الحديث، وبذلك خلق سبيلا جدليا لاثارة القارئ ليبحث عما يراوده من تساؤلات الاستقراء ترتسم أمامه حشد الاحتمالات لتفتح آفاقا ثرية للتنوع الدلالي مرتبطا برمزية العنونة وكينونة التضمين من نسق النص المتشابك بانثيالاته والمترابط بصوره الشعرية والمتعدد الرموز من أحجيات الواقع بغور صفاته وبعد أحداثها وتناص تراثي تاريخي ادبي كما في السفط، الشناشيل، الخليج، المطر، السندباد، جيكور وغيرها .

نتابع معاناة السياب بقطوف أخرى وما حمله من هموم مجتمعه في نصه:

نم نم جيكور

لفجرٍ قد لا يُريكَني

غفوتُ عنكَ بعيداً

لم أتعبْكَ بعدُ لغسلِ عيوني كُلَّ صباح

فقد غسلتُها للمرّةِ الأخيرةِ من ماءِ طفولتِنا معاً دونَ أنْ تدري

لم أردْ أنْ أيقظَك من اغفاءةٍ تحتَ ظلال باسقاتٍ

هُنَّ الأطولُ من كُلِّ عهودِ الظّلام

بسطْنَ أمامَنا النظرَ إلى السّماء

ما دونَهُ تسوّل في دروبِ الإنحناء !

.....

آلامُ بروموثيوس

أيوبِ النّبيّ

فارتر

مثلثٌ

صارَ معي مُربّعاً مُغلقَ الجّهات

حدَّ الاختناق

تابوتاً

أودعتْهُ أنا

وآخرَ القصائد ...

لستُ محسنَ السعدون

همنغواي

رصاصتي

لم أزلْ أحشو بها ثُقباً في رئتي ...

.....

- فعل الأمر (نم) بتكراره تأكيد غفوة منسية، وشخصنة الجماد بإيحاء النوم لجيكور، ودلالة النوم هو الخمول والنسيان للقرية وألم الفراق فالفجر في غياهب الظلام لعدم اللقاء

جيكور قريته ومسقط رأسه في البصرة جنوب العراق، رمز تراثي، ولد فيها السياب وترعرع بين ظلال بساتينها واستنشق نسمات انهارها فامتزجت روحه بترابها، له الكثير من القصائد التي يذكرها بحنينه لها ووفاء لانتمائه حتى أصبحت رمزا مميزا باشعاره تراثا أدبيا وتاريخيا للشاعر، وكأني استقرأ الفياض يواسيها بالوجع ويناجيها بلسان السياب وفي قلبه لوعة جيكور يحن لأحضانها ويحنو عليها كأم تواسي ولدها بألم الفراق، يعاهدها بمناسك الأعتذار، يُذَكرها بالوداع الأخير منذ الطفولة والظلم ساد واستطالت رقابه عهودا لحين الممات غريبا واستباق الروح للسماء، (وما دونه تسول في دروب الانحناء !).. قد اغدق الفياض بصورته الجميلة والمعنى العميق الذي اتحف لسان السياب به بانزياح رائع تكور افتخارا، وبعث الاحاسيس في جيكور فالذكرى سفر المحبين الى الاماكن، وإيقاظ الزمن من حلم اختمر بأحداق الظلام، ولتشرق طمأنينة قريته تلتحم جيكور بحلمها المستحيل ...

 - قال لويس هورتك (لا شعر دون مقدار من الرمز)، كما يعرف الرمز في المفهوم الحديث بما يعني (الدلالة على ما وراء المعنى الظاهر مع اعتبار المعنى الظاهري ايضا) وينساب الرمز وما مرموز اليه في تشكيل بنية النص ونسقه بما يحمل من صفات خفية يكتشفه الباحث لتكون اشارة او دليل او احالة لصفة معينة أو خاصية دلالية لمعنى اجمالي يلتصق بفحوى النص ...

- والرمز أسلوب تناص يحمل الكثير من السحر كما في تناوله الأسطورة والتي تتجانس مع التراث، و تختلط مع الفلكلور، وتتداخل مع التاريخ والميثولوجيا، كما لها اعتقادات شعبية وروحانية شتى يفرزها الخيال ويعتمدها الحلم والخرافة، يغلفها الغموض فتبعث للتأمل الإبداعي والفني، بما تمتلك من معنى خارجي وداخلي، ففي معظم نصوص الفياض يسعى لتوظيف الرمز برؤية معاصرة تؤطرها سيميائية مركبة ...

- استدعى الشاعر رموزا ميثولوجية بغض النظر عن الطريقة الفكرية المتعددة عنها او الاعتقادات السائدة الا أنها رؤية فكرية بوجهات نظر متعددة وهي أيضا طريقة أخرى للتخيل لمواءمة أعمق لطقوس النص الحديث للتواصل بفكرة ما دون تعريته المباشرة، وكما في أسطورة بروموثيوس رمز المحب للإنسانية والمتألم لاجلها والمدافع عنها، متمثلة بآلام السياب والفياض معا، طوعها الفياض بتامله فتعانق الرمز والأسطورة وتعالق الذات بالآخر، ثم يستدرجنا لرمز آخرهو النبي ايوب رمزا للصبر وما حل به من امراض ومصائب، ويعقبها بآلام فارتر هي رواية كلاسيكية شاعرية حزينة من تاليف الكاتب الألماني (يوهان فون غوته)تحكي قصة الشاب فارتر ومعاناته في الحب، كما مر به السياب وقصة حبه من طرف واحد لممرضته في لبنان ...

- واضاف ان شعوره بحالة الاختناق هي مربع القبر الذي سكنه مبكرا من ازمة مرض قتله، اشارة تشبيه بالانتحار وباستحضار دلالات سيميائية تتجلى لرمزين معروفين هما محسن السعدون وهي شخصية عراقية سياسية بارزة معروف عنه بمعارضته للانكليز ابان حكمهم للعراق وقد مات منتحرا وترك وصيته المشهورة (الأمة تطلب الخدمة والأنكليز لا يوافقون)، ورمزية الكاتب الامريكي همنغواي والذي انهى حياته بانتحاره، فكلا الرمزين ماتا بطلق رصاص اما السياب فالطلقة ساكنة رئتيه تحيلنا لمرضه في داء السل اضافة الى أنتشار مرض التصلب في النخاع الشوكي وما سبب له الشلل في أطرافه فأصبح مقعدا .

- يقول أدونيس عن النص الحديث: " التكثيف في التعبير الشعري يعتمد الرمز في اشاراته للمعاني كما يقول لغة الشعر هي لغة ايحاءات " (عن كتاب اتجاهات النقاد العرب / سامي عبابنة) نطالع بانساق السياب ترابط فحوى الشخوص وما ترمزه إليه من التفاف تضمنته دلالاتها بتكثيف عمق المعنى الغائر وما تميز به كل صفات رموزه، قد وظفها بتناسق أدبي اثرى النص بتكثيف، ليكتمل اسلوب النص الحداثوي برموز استعارة وتشبيه للمعاناة البشرية التي ألمت به من فراق وحرمان وفقدان الحبيبة حصارا لا ملاذ له الا القبر.

- وتتوالد روائع الرموز المغمورة بالكثير من المعرفة في ثنايا النسق، غموضا يمكن تأويله بما نتزود من تقنية ومعلومات نستقرؤها من أحضان النص الباطنية وما تعكف عليها من مقاصد الشاعر الفياض، اضافة بما يشدنا من صور شعرية انزياحات تجسد المعنوي والمحسوس بما ارتأى تأمل الفياض، وذلك تمازج يدعو لخرق فضاء التأويل بالمقاربة وتعدد القراءات وفق القارئ ومستواه الفكري ..وكلما تدرجنا بدهاليز النص نفتح بابا آخر للاستقراء المعرفي والمقصد الشعوري .

عُذراً شريانَ قصائدي

عشّاري الجّميل

أرسمُكَ على مساحةِ سريري

أمشيكَ كُلَّ يومٍ بلفافةِ تبغٍ من وريد ...

رجلاي متعبتان

تحملاني من فراشٍ مُتذمرٍ لطولِ رقاد

تطوفانِ بي

أقفُ متوسّلاً بأنفاس

تختفي بدهاليزَ مظلمةٍ تحتَ ساعةِ السّورين ومضاتٍ بعدَ وهج ...

تقذفاني في بطنِ سوقِ الهنود

ما ازدحمتْ به النهودُ

ممالك البهار،،،،،

البخور،،،،

القهوة،،،،

السندُباد يُبحرُ على الأرض ...

- وما زال الفياض يخترق زمن السياب باعذار ممجدة لرحيله منسجمة بمخيلته لحضوره، يحتسي كأس حروفه بقارورة عشق مقدسة الازمان، فيخترق الماضي بمرونة الابداع التخيلي، اراه قد صافح السياب في سريره وقد همس له بآلامه، وتوسد واقع قريحته وجرعات وهنه واحتضن مدى تأمله، فلسف احلامه بدراية المتوجع وفيض المعاناة بحيثية زمن غابر حاضر يلوك قلوب الفقراء بتجاعيد الوقت، فما زال الاعتذار للأماكن حضور ثري، فجيكور شريان قصائده والعشار ساحل تأمله، وشذرات الذكرى سارية الانهمار بلوعة الاحباط وأنفاسه ومضات توقف، يستنشق امنياته احتضارا كتوقف دقات ساعة سورين(سورين ساعة قديمة من معالم البصرة التراثية اهدتها شركة سورين الانكليزية وقد اختفت الآن)، يسرد لنا بانزياحات بسيطة متتالية تغمرنا بالتساؤل وتحثنا للبحث عن تراث البصرة منها سوق الهنود المعروف عنه سوق كبير للتجارة رمزا لزمن التناقض، الثراء والفقر، الحزن والفرح، وقسوة الأيام بخضاب خيراتها، فيأخذنا برحلته مسيرات تأويلية عديدة ببناء دلالي للعلامة، متنوع النمط متوحد القصد من عمق واقع تاريخي وقد اينعها الفياض بتواجد عطر ومبخرة المرأة ومكحلة حواء في شوق عيدها، ودلالاتها تتفاقم رغم معاجمها الواضحة ولكن فيض اللغة يغوينا بما ستر والبخور حياة وممات، اعراس ومصائب، والقهوة دليل الكهولة وتجمع الأحبة في المآتم ومنتدى العشاق حين يزدلف الليل، خصوبة استمتاع باماكن تراث وما ابحر تاجر الا وسندباد رفقته ماض ملون، و بوعي الألم والحسرة يومئ لنا ان البصرة هي مدينة السندباد المبحر بخيرات لا حصر لها وايضا باشارة تناص لعنوان قصيدة للسياب هي (مدينة السندباد) مطلعها: (جوعان في القبر بلا غذاء، عريان في الثلج بلا رداء، صرخت في الشتاء، أقضّ يا مطر)، فهل توقف زمن المعاناة؟، نرى الفياض عاش زمن السياب بتفاصيله الوجدانية، استطاع ان يصور لحظات مرضه وجسد الكثير مما حزَ بأعماقه الشعورية المتوجعة بدلالات اجتماعية ونفسية تتلفع بغزارة الرموز، نرى الإنتماء الإنساني للشاعر الفياض في محور الموت المعنوي بأقصى شعور موحش يتفاقم الألم يمطره تناص حروف، فالدلائل كثيرة منها اهمال رواد الثقافة بشكل او بآخر نسيان حروف المبدعين وتهميش المثقفين ...

- وكما يقول ايكو: (اذا كانت السيميائية هي العلم الذي يدرس كل ما يمكن استخدامه من أجل الكذب) وما يقصد به ممكن تفسير العلامة المكونة من الدال ببديل آخر بتأويل المستقرئ يثرينا بكفاءة الترميز والتكثيف، وقد أشار الفياض بمجازات شعرية بسيطة المعنى عميقة الدلالة جميلة الاختيار مكتظة الترابط، مما يختزل المعنى بتأويل بواطنها، فنرى تعدد الفواعل في انساق الفياض رموزا موشية ببواطن الألغاز توصلنا لحل نراه لا نقرأه إلا أن نزرعه بذهنية المتابع، و باستعارة بلاغية استثمرها بفنية رائعة، بايحاءات ودلالات بما تضمنته من صفات لتوصيل الفكرة بشكل فني مشوق للفهم ومثير للاستطلاع متوسلا بأنفاسه بشخصنة معنوية، فرسم سينمائية حديثة بذوق ادبي وشعرية تتجلى بخلق خصب للإبداع وتوظيف حيوي للمعاني ومجازات تعبيرية تستفز فضول المستقرئ آفاق معرفية أخرى عبر تقنية لغته، ولنقتطف نسق آخر ...

أنبأني راءٍ

أنَّ اخوةً يأكلونَ على بساطي

ما حرّمهُ اسرائيلُ على نفسه ...

يزورونَ بيتي

كُوّتي الصغيرة

ألبسوها مِعطفَ ماكبث

أفرغوا عُلبَ المكياجِ على عذراواتِ الطّين

ينبشون الذّكرياتِ بسكينٍ صدئِة !

.....

ما فتئتُ بينهم أحتضر

وهم يلّفون سكراتِ الموتِ بورقِ الزّينة

كي لا أموتَ ثانيةً

ثالثة ...

توقّفوا

قفوا أمامَ المرايا قليلاً

لو ...

ما كانَ ما كان ...

بينكم مَنْ يتكأُ على منسأةِ سليمانَ النّبيّ

مَنْ يعاشرهُ الدودُ

من غيرِ نداءِ نُدبة

لم يمرْ ببابهِ عروةُ بن الوردِ أيّاماً

فاحتسى الماءَ بارداً...

 - استلهم الفياض اشارة (أنبأني راءٍ) من تراث ديني ليثري بناء النص المعاصر بميزة التناص كما جاء في القرآن الكريم في سورة النبأ ﴿ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ (2)﴾ فالنبأ مصدر للفعل انبأني، وبإضافة يصبح الإيحاء لمتكلم ثانِ، فهو سارد وناقل للحدث وان رد الفعل للمستقرئ والقارئ لن يكون عرضيا بقدر ما ينشده الفياض من استرسال التواصل دون ملل وهو حبكة ايحاء محددة، ونوايا باستعادة التأثير وتجسيد المتخيل بالسمعي انتقالة جمالية، تحرر القارئ من روتين الخطاب، وتسترقنا لذكريات مَن كانوا تحت وطأة نفس المعاناة الأجتماعية والنفسية بتعدد الأصوات قفزة بوليفونية لنسق النص تعتمد تعدد المواقف الفكرية...

- وقد ورد ذكر مفردة النبأ في كثير من السور، واختيارها في نص الفياض ليس عشوائيا وانما من خزين خبرته الشعرية، مزج السمع والنظر بعبارة مكثفة...

- يقول اهل اللغة ان النبأ أهم من الخبر وأعظم منه لأن النبأ في القران الكريم يحتمل الحقيقة والوهم والنبأ حدث وقع في الماضي ومثاله القصص القرآني عن نوح وهود وإبراهيم وغيرهم، لأنه غيب مستقبلي ويبقى النبا سواء أكان بالماضي أم الحاضر يبقى غيبيا بالضرورة، والإنباء به هو من مقام النبوة والنبأ اجمالي مختصر غيران الخبر تفصيلي باسهاب، وبمكر التجربة الشعرية للفياض لم يقل أخبرني لان اختلاف المعنى يجعلنا في شك عن معنى الخبر لانه يحتمل الصدق والكذب و(راءٍ) هو الشاهد والعين لا تقبل الشك، فمن يكون الراءِ ؟ ...

- نخمن الدلائل وما تحتمل الكثير فلنتركها للقارئ المتسلح بأطر تأويله ونستنبط مما تخيل الفياض، واقع او وهم راءٍ للغيب أو عيان مشارك او متوجع او حريص لما حدث فترك اثر التوقع، وبما أن النبأ الخبر العظيم لموضوع مهم او خطر والحدث المصيري فالرؤية معتمدة البصيرة بتوجس ممعن النظر من قلب الحدث المتآكل من وجع زمن ماض وحاضر والقلق المستقبلي، وبلوعة الناصت والمتابع لتغيرات مؤلمة لمجتمعه والسامع بعين البصيرة اصبحت ياء المتكلم دائمة القرب والاستشعار بتواصل المتلقي ...

- فيطوف الشاعر بنا بعيون الغائب ليخبرنا عن مأساة حاصلة متحصنة بين أتراب ضلوع المجتمع، فالراءِ متعدد الازمان وهو الشاهد على مأساة الجروح بتاريخ خجل يتوارى بلا ستر، والقدر مكبل الخضوع بلا عفة ولا وجل، أترى نبوءة عراف فضحت بُكم الوساوس ؟ ام حديث الوجدان وفراسة الحدس ؟، وعندما يكون الراءِ زمن سيغدو نقش لا يزول، مؤرخ طاعن خاصرة الانسانية بالقهر والعذاب فأيهما تكون جَسدها الشاعر برؤياه الفكرية وفلسفته المعرفية، وألبسه حلة الجمال تتسق بأسلوبه البنيوي للنص، ونقرأ معاناته الذاتية عن وطن مشتت تقاسمته ايادي الغدر من أبناء جلدته فتشظى أنهار دم...

- وبتوظيف رمزية ماكبث لإنتاج الدلالة قد أدى القصد واحيى ذكريات عصور صدئة بالخيانة بأيدي ملوثة بالعبودية، واعتبرها من الاشارات التأويلية التي تحدد توجه النص، والتي يستشف منها المستقرئ بتأويل ما أحاط بالوطن من استغلال وإنعاش مصالح، وما حدث بالماضي من استعمار البلد يعود بوجوه أخرى، مزوقة ملفقة الالسن لتزيين اكاذيبهم، فقد تفشى التشظي بحياتنا الاجتماعية والسياسية واخذ الموت يوصد ابوابه علينا بألوان شتى ويسكن حياتنا احتضار مستمر، كل هذه ويلات الشعوب المنكسرة الرقاب والمسلوبة الحقوق والمسروقة الخيرات فيذكرني ببيت شعر للشاعر عمر ابن نباتة السعدي حين أنشد يقول: ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الاسباب والموت واحد) وقد تعدد القتلة بألوان الموت، والفياض قد عدد القتلة، وما جدوى حياة نموت فيها عدة مرات ؟ او تعيشها وانت ميت !، باحتجاج مصيري يرفض الإستسلام ويلفظ حياة خائبة متعسرة الوجوه...

- بصيغة الأمر يستدرجنا الى الفعل (توقفوا، وقفوا) ايحاء عاصف الأنفعال صادح كدمدمة البرق في سماء صافية السدم، زاجرة لأيادي الفساد المستشري عسى ان يلمسوا حقيقة نواياهم، وقد لمح الضمير واو الجماعة لهول الكثرة، فالفساد استفحل واليأس طغى، فمتى تكون هذه الوقفة ؟ للأستنفار ضد الظلم ...

- ثم يتبعها باستجابة الخيال ب (لو) حرفين بتركيبة سهلة خفيفة النطق الا انها تحتمل الكثير من التريث بالاحتمالات وعناية التمني بمعنى الندم الآسف، وتأويله ندم عما مضى ب (لوكان ماكان) تتضمن الكثير من الدلالات ويتسع التأويل، عن اي شئ كان فالعصور شاهد حتمي لا يتوانى عن المضي وما كان قد كان وبنى جذور واهية العطاء مزيفة الإنتماء فلا بقاء عتيد لهم، وما كان لو لم يكن، بهذه القصدية دلائل عديدة تؤول الفرقة والخيانة والتشتت تختزن هذه العبارة الصغيرة قصصا شتى لعمر مديد وزمن عتيد ينام ملأ الجفون على غصص الرضا المكبل بالخفوت وعدم تحقيق الذات ...

- نجد الناقدة جوليا كريستيفا من اوائل من وضع مقولات نظرية التناص ومن قولها: "ان كل نص ينبني مثل فسيفساء من الاستشهادات وكل نص هو امتصاص لنص وتحويل لنص آخر" (عن كتاب علم النص لجوليا كريستيفيا)، وهكذا نتابع فسيفساء العناصر بتشكيل بنية النص كشبكة متعشقة الدلائل، متعانقة الإشارة، نبحر مع الفياض باسطورة أخرى(كمنسأة سليمان) مرجعية تناص ما ورد في القرآن الكريم، فيوحي الى النبي سليمان وقد تلقفه الفناء وهو متكئ على عصا نخرتها الأرضة دون علم من يمتلكهم ومن يخافونه ومن يستندون معه، رمزية مكتظة بالدلائل والعبر، نستقرئها انذارا ولوما تحيلنا بتأويلها لمن ملك من سلطان وما يهبه الله من ملك غير انه يموت بلا مُلك، فالعروش خاوية بملوكها متآكلة بديمومتها، إشارة مترفة لحكام التسلط، لمن اجترحوا جراحنا العربية، لمن لهم نبوءة بالتسلط من النيل للفرات بتلمودهم العنصري والاستعماري ...

- نتابع احالات الفياض برموزه المتعددة لتراث حضاري حديث العصر فالسياب فم كل الفقراء والفياض صراخه الأنساني الهاتف بعنفوان الشرفاء بعد ان بلغ صدى البرق فزبد دما، فيستضيفنا في مضارب فارس وصعلوك أمير وشاعر من شعراء الجاهلية هو عروة بن الورد العبسي من أهل نجد، عرف بالنبل والأنسانية وحبه للعدل والمساواة وتحلى بمكارم الاخلاق اذ كان يقوم بالأغارات على اموال الأغنياء ليوزعها على الفقراء، استشهد به الفياض لبعدها الدلالي بصور الكرم والمواساة للذات الاجتماعية الذائبة بروح الانسانية، وهو القائل (أقسِّمُ جِسمي في جُسومٍ كَثيرةٍ..وأحسُو قَراحَ الماءِ، والماء باردُ)، وبذات تأويلها الاصرار لبث روح التضحية والأيثار لإسعاد الفقراء والمظلومين، فأين نجد عروة او مثله، وبإشارة دلالية مقارنة بما يعصف بأوطاننا من ظروف مجدبة بمقاربة تستدعي رموز تاريخية وعصور ميتافيزيقية تتطلب تاملا عميقا يبحث بطيات الزمن للوصول للغرض بقصدية تكشف ما خفي من دلائل بمعجميات بسيطة وانزياحات شعرية موجزة محملة بالكثير من الفن والشكل الجمالي والابداع البنيوي ...

كلٌ في بيته

ما عدا المطر

يتجوّلُ في الشوارعِ منفرداً...

قفوا قبلَ أنْ تحملَهم سيارةٌ مُستأجرة

سائقٌ وصديقان

حفّارُ القبورِ

يتثاءب ...

جنازةٌ بائسة

ألم يكنْ لهُ ...

.....

سيزارُ بعدَ سنين،،،،، ؟؟؟

***

قراءة وبحث: إنعام كمونة

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم