صحيفة المثقف

اللغة العربية بين أصالة الماضي وتحديات الحاضر (1)

قبل البدء: أجدُ اليوم العالمي للغة العربية الذي يصادف يوم 18/ ديسمبر من كل عام، مناسبة للبحث في موضوع اللغة العربية وإن كنتُ لستُ من ذوي الاختصاص فيه؛ فهو متشعب واسع، لكني من المهتمين به بحدود ما أستطيع، فبعض منا نحن أبناء العربية الحريصين عليها ما يدلي بدلْوه بين الدّلاء إفراغا أوملئا.

أهمية اللغة

تكمن أهمية اللغة في كونها أداة الكشف عن هوية الفرد الخاصة، وهوية المجتمع العامة.

على الصعيد الفردي الشخصي هي أداة التعبير عن العقل؛ فلكل منا عقلان؛ واحد صامت يفكّر، وآخر ناطق يتكلم وهو اللغة؛ فهي المعبرة عن عقلنا المخبوء فينا. ويمكن القول أن اللغة هي وعاء العقل ولسانه الناطق؛ فالعقل وما اكتنز من تصورات، ومفاهيم، وآراء، وانطباعات، وأفكار يعبّر عنها بلسانه. وهي عقل لسانه المعبر عن المقولات، والأفكار، والآراء شفاهيا أو تدوينيا بوصفها البصمة التي تميز تفكير الفرد وبراعته في صبها – أي اللغة- في قالب التعبير عن الهوية الشخصية أمام الهويات الأخرى.

وهي أيضا رسالة التعبير عن نفس الفرد وما تختزنه من أحاسيس، ومشاعر، وعواطف، ومُثُل، وسلوكيات. ولكل لغة علومها وآدابها وقواعدها، فمن يتقن لغته الأم يستطع صياغة الفكرة بالاستفادة من كل ما تختزنه اللغة من كنوز.  وبذلك تكون اللغة الهوية الفردية له التي تميزه عن الآخرين وأداة التحاور معهم؛ فمن لا يتقن لغته الأم لا هوية له.

أما على الصعيد المجتمعي العام فهي:

أداة التعبير عن شخصية المجتمع، وما اكتنزت من شخوص، وتراث، وتاريخ، وحضارة، وثقافة، وعلوم، وفنون، وآداب، ومنجزات شفاهيا أوتدوينيا. وهي هوية التعريف بالمجتمع عبر التواصل والحوار مع الأمم الأخرى.  ولعل ما يميّز أمة ما عن غيرها هو غنى ومتانة اللغة المعبرة عن هويتها؛ فالأمة التي تمتلك لغة متينة لا تنهار ما دامت فيها عناصر قوية حريصة على حفظ اللغة وحمايتها من الضياع.

وتكمن أهمية اللغة أيضا في كونها الخطاب الإلهي الأول الذي تلقّاه الإنسان (خَلَقَ الْإِنسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)[1]، وعلم الله البيان للإنسان كل بلغته  (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)[2] ، فكل رسول يعبّر عن بيانه بلغة قومه. وبعض قال: إنه البيان عن الله وأسمائه وصفاته وفضله ورحمته لخلقه، وقال بعض: إن معناه التعبير عن كل ما يجول في خاطر الإنسان، يعبر عنها شفاهيا أو كتابيا.

وقوله: "(عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) والبيان هو الكشف عن الشيء، والمراد به الكلام الكاشف عما في الضمير، وهو من أعجب النعم وتعليمه للإنسان من عظيم العناية الإلهية المتعلقة به، ويجعل الإنسان بإلهام باطني من الله سبحانه الواحد من هذه الأصوات المعتمدة على مخرج من مخارج الفم المسمى حرفا أو المركب من عدة من الحروف علامة مشيرة إلى مفهوم من المفاهيم؛ يمثل به ما يغيب عن حس السامع وإدراكه؛ فيقدر به على إحضار أي وضع من أوضاع العالم المشهود، ثم على إحضار أي وضع من أوضاع المعاني غير المحسوسة التي ينالها الإنسان بفكره. قيل: الإنسان هو آدم (عليه السلام) والبيان اللغات التي وضعها الله سبحانه ثم علمها الإنسان بالوحي الى نبي من الأنبياء أو بالإلهام بأن الإنسان بوقوعه في ظرف الاجتماع مندفع بالطبع الى اعتبار التفهيم والتفهم بالإشارات والأصوات وهو التكلم والنطق لا يتم له الاجتماع المدني دون ذلك، وقيل الأسماء التي علمه الله إياها. وقيل الإنسان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والبيان القرآن، وقيل: البيان الخير والشر علمهما الإنسان، وقيل: سبيل الهدى وسبيل الضلال إلى غير ذلك وهي أقوال بعيدة عن الفهم". [3]

وفي مورد قرآني آخر (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ.عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[4] ، وهذا أول خطاب إلهي يتلقاه الإنسان والخطاب كان باللغة العربية، وواضح بيان الآية؛ فالله ألقى البيان على الرسول(ص) بلغته، وهي أن يقرأ ويكتب ما تلقّاه. وحينما يتلقى الإنسان البيان يقرأه ويتمثله عندئذ يعبّر عنه بأسلوبه الخاص، والأسلوب الخاص نسميه(اللغة).

اللغة العربية: سماتُها وميزاتُها

سيدةُ اللغات، ولغةُ الضاد كما أُطلق عليها... اللغة العربية ذات الأوتار ال(28 أو29 بعد إضافة الهمزة اليها)؛ فهي حاملة وتر الضاد كتابة وصوتا ..وترا منفردا من بين أوتارها الصوتية؛ وحرف الضاد لا وجود لما يقابله في اللغات الأخرى، فلفظه دقيق يشترك فيه اللسان واللثة معا، والعرب هم من استطاعوا لفظه بدقة؛ وتعذّر لفظه على غيرهم من الشعوب.

تميّزت العربية بمدرج موسيقي عليه تُلفظ مخارج الحروف التي يشترك فيها اللثة واللسان وأعلى الحلق والشفتين كل بصوته الخاص مما يؤلف ترنيمة صوتية متناسقة. ولصعوبة إخراج الأصوات فيها فقد عجزت اللغات العالمية عن مجاراتها "العربية كالعود إذا نقرت على أحد أوتاره رنت لديك جميع الأوتار وخفقت، ثم تحرك اللغة في أعماق النفس من وراء حدود المعنى المباشر موكبا من العواطف والصور- الكاتب الفرنسي وليم مرسيه".

وامتازت اللغة العربية بالسعة، والرصانة، والأصالة، والفصاحة، والمتانة، والبلاغة، والنحو المتشعب، ووضوح البيان، والاشتقاق، وكل هذه الميزات حملتها على الغنى، والخصب، والثراء بالمفردات المترادفة، والمتطابقة، والمتشابهة، والمتخالفة، والمشتقات اللفظية المرنة مدعومة بالنحو الرصين.

ولمرونتها فإن الحديث بها سهل سلس التدوير فأحيانا مثلا نقدم الخبر على المبتدأ أو المفعول به على الفاعل وغيره الكثير. وبعض الكلمات لها عدة معان بمجرد تغيير حركتها، وبعض منها هي مفهوم لمصاديق متعددة، فاللغة العربية غنية بالألفاظ والمفردات، ولغناها فإنها تهب الاختصار في التعبير بعبارات قصيرة وكلمات تختزل الكثير من التفصيل.

وهي من أهم اللغات من حيث المادة اللغوية إذ تتوفر على (12.3) مليون كلمة، ويتكلم بها أكثر من نصف مليار شخص في العالم. و"للغة العربية  (16.000) جذرلغوي، وقيل إن جذور العربية تجاوزت (19.000) جذر، وأقرب لغة لها في عدد الجذور لا تتجاوز(4000) جذر . [5]

إن العبرية جذورها (2500) جذر، وهي لهجة من العربية القديمة بل حروفها الـ(22) نفس الحروف العربية بل وبترتيبها الأبجدي( أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت)[6].

وكون اللغة العربية متسعة يعني احتضنت تاريخ، وتراث، وحضارة، وثقافة، وعلوم، وفنون، وآداب الأمة العربية، واستوعبت شؤون حياة الناس باختلاف مشاربهم.

سُمات السعة والعمق والغنى فيها حملتها على العطاء لا الأخذ، فنجد جذور العربية منتشرة في أكثر اللغات وخاصة اللغة الإنجليزية، بل إن أحد الدكاترة العراقيين قد صنف معجماً أسماه "معجم الفردوس للجذور العربية الموجودة في الإنجليزية" فذكر اكثر من (1500) جذر عربي في اللغة الإنجليزية وهو رقم مبالغ فيه قليلاً؛ لأنه أدخل فيه أسماء الأعلام العربية (مثل أحمد، علي...وغيرها). وحتى اللغات في جنوب أمريكا (وهي تجاوز الألفين سواءً المستخدمة أو الميتة) نجد فيها جذوراً عربية كثيرة[7].

وتأثرت اللغات الفارسية، والتركية، والكردية، والأمازيغية، والإندونيسية، والألبانية، والمالطية، والإسبانية، والصقلية، والأوردية باللغة العربية. ودخلت الكثير من الأحرف العربية فيها عن طريق الأصوات، والحروف، والمفردات، والمعاني، والتراكيب، وأصبحت تكتب بالحروف العربية. كما كان للعربية الحظ الأوفر في الإنبثاث في اللهجات الصومالية، والزنجبارية لرجوع الصلة بين شرق أفريقيا وجزيرة العرب الى أقدم عصور التاريخ[8].

وُضعت للغة العربية المعاجم والقواميس. ولعل من أقدم معاجم اللغة هو لسان العرب لابن منظور(ت711هـ)، والقاموس المحيط للفيروز آبادي(729-817هـ)، وتاج العروس لمرتضى الزبيدي وهو شرح للقاموس المحيط. كما وضعت لاحقا القواميس والمعاجم اللغوية، ولما تزل اللغة العربية تولّد المصطلحات الجديدة كل يوم.

وامتازت اللغة العربية بأنها لغة الخطاب الرباني التي اختص الله بها العرب دون غيرهم؛ فهم سادة اللغة العربية وأمراؤها، وبها نزلت رسالة الإسلام وحملوها الى العالم ...نزلت بين أياديهم في قرآن كريم ضم مفاهيم وأفكارا ونظما وقواعد وقوانين للحياة وللإنسان في كتاب مكنون لا ريب فيه(قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)[9]، (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ)[10]، ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[11]، ولعل أهم أسباب نزول القرآن بها هي؛ امتدادها التاريخي العميق؛ فهي من اللغات السامية التي يُعتقد أنها كانت متداولة قبل عام 4000 قبل الميلاد[12]، إذ "يعود أصل أقدم نصوص عربية عُثر عليها الى القرن الثالث بعد الميلاد، وهي نصوص شعرية تميزت ببلاغة لغتها، وأسلوبها الراقي، ووزنها الشعري المنتظم"[13] ، وإن" أقدم مخطوط وجد في العالم في مناجم الفيروز في صحراء سيناء مكتوب باللغة العربية وعمره 4000 سنة"[14].

وكون الجزيرة العربية موطن اللغة العربية الأول فقد تداولها العرب قبل الإسلام بقرون عديدة، والعرب حافظوا عليها ويتكلمون بالعربية الفصحى، والدليل هو أن العرب الأوائل كانوا شعراء فصحاء، وبلغاء بارعين باللغة؛ فكانوا يقيمون الأسواق التي هي بمثابة مهرجانات شعر كسوق عكاظ إذ يعلقون أشعارهم على جدران الكعبة المشرفة؛ وهذا ما زاد اللغة تطورا وبريقا وتألقا فقد أثْرت اللغة تلك الأسواق. وبناء على هذا فإنهم أولى الشعوب باستيعاب القرآن بلغتهم العربية. وحتى اللهجات العامية في منطقة الجزيرة العربية هي أقرب الى اللغة العربية الفصحى في الكثير من ألفاظها عن غيرها من اللهجات العربية.

ولعل أهم عامل لنزول القرآن بالعربية هو قابليتها المرنة والحيوية، والخاصية الرياضية الفعالة في تدوير وتدويل المفردات، وخاصية الإيجاز والاختصار بأقصر التعابير، والاستيعاب للنص القرآني، وتفسيره، وتحليل معانيه؛ لذلك صار العرب من أفصح الشعوب فهم فرسان الخطاب والبيان والكلام"اللغة العربية بدأت فجأة على غاية الكمال وهذا أغرب ما وقع في تاريخ البشر فليس لها طفولة ولا شيخوخة - إرنست رينان الفرنسي".

يوم اللغة العربية

لثرائها وكثرة المتكلمين بها فقد اختصت منظمة(اليونسكو) التابعة للأمم المتحدة اللغة العربية بيوم أسمته (اليوم العالمي للغة العربية) وذلك في عام 1948 ؛ حيث قررت منظمة(اليونسكو) اعتماد اللغة العربية كثالث لغة رسمية لها بعد اللغتين الانجليزية والفرنسية.

وفي عام 1960 تم الاعتراف رسميا في دور اللغة العربية بالتأثير على المنشورات العالمية. وفي عام 1974 عقد المؤتمر الأول لليونسكو في اللغة العربية بناء على مجموع من الاقتراحات التي تبنتها العديد من الدول العربية، وأدّى ذلك الى اعتمادها كواحدة من اللغات العالمية التي تستخدم في المؤتمرات الدولية[15] .

واعتُمدت اللغة العربية كإحدى اللغات الرسمية الست المعترف بها من قبل منظمة(اليونسكو) التي تكتب بها الوثائق واعتُمِدت وفقا لما قررته يوم 18 ديسمبر يوما عالميا للغة العربية عام 1973 في دورتها الثامنة والعشرين، وأقرت أن هذه اللغة يتحدث بها أثنان وعشرون عضوا من الدول الأعضاء في (اليونسكو)، وهي لغة رسمية سادسة في المنظمة، ويكون لها نفس وضع اللغات الانجليزية، والفرنسية، والإسبانية، والروسية، والصينية.[16]

ويعزو الأستاذ محفوظ عبد الستار سبب اعتبار اللغة العربية لغة رسمية في مجلس الأمن لسبب هو؛ أهمية اللغة العربية في العالم الافتراضي المتمثل بأجهزة وبرمجيات الحاسوب والانترنت التي طرأ عليها تطور كبير زالت معه العقبات التي تحول دون اعتماد اللغة العربية للاستخدام الرقمي، وقد أصبحت تحتل المرتبة الرابعة بعد الانجليزية والصينية والإسبانية بين اللغات الأكثر استخداما على موقع ال(Facebook) ، وإن إتقان اللغة العربية بات شرطا أساسيا من شروط العمل في الترجمة بالأمم المتحدة؛ فالوثائق الصادرة يجب أن تكون خالية من الأخطاء النحوية والإملائية.[17]

أزماتٌ تواجه اللغة العربية

تعترض اللغة العربية أزمات قديمة وحديثة، ذاتية وعرضية، نختصرها بشكل سريع:

الأزمات الذاتية: وهي كثيرة؛ وأهمها صعوبة وتعقيد ودقة قواعد النحو والإملاء -حسب رأي الأغلبية من المتكلمين بها. وهذه عقبة عامة أمام الطلبة من التعليم الابتدائي حتى الجامعي. والطالب حينما يتخرج من الجامعة فهو لا يكون متقنا للغته تمام الإتقان؛ لأنه يدرس القواعد القديمة دون تجديد وتبسيط على كادر تدريسي كان قد مرّ بنفس أزمة تعليم اللغة التي يمر بها التلميذ؛ فتنشأ عند الكثير منهم عقدٌ كثيرة من تعليم اللغة مما يؤدي الى عزوفهم عن تعلّمها، وتعلّم لغات أخرى؛ لسهولتها وخلوها من التعقيد فضلا عن ضمان مستقبلهم، وهو تحدٍ خطير تواجهه اللغة العربية فهي" لا تُدرَّس في مدارسنا وإنما يُدرّس فيها شيءٌ غريب لا صلة بينه وبين الحياة، ولاصلة بينه وبين التلميذ وشعوره وعاطفته" .[18]

وعبّرت الدكتورة بنت الشاطئ عن أزمة تعليم اللغة العربية قائلة: "الظاهرة الخطيرة لأزمتنا اللغوية هي أن التلميذ كلما سار خطوة في تعلم اللغة العربية ازداد جهلا بها، ونفورا منها، وصدودا عنها. وقد يمضي في الطريق التعليمي الى آخر الشوط؛ فيتخرج من الجامعة حتى ينال أعلى درجاتها، ويعيبه مع ذلك أن يملك هذه اللغة التي هي لسان قوميته ومادة تخصصه. كل درس يتلقاه أبناؤنا في لغتهم العربية ينآى بهم عنها" .[19]

وثاني الأزمات الذاتية هي سطوة اللهجات الدارجة على الفصحى؛ وتعني الانسلاخ عن اللغة الأم. وهيمنت اللهجات على اللغة الفصحى الأم في المدارس، والجامعات، والندوات، والمؤتمرات، والدراسات، ووسائل الإعلام، وهذا ما أدّى الى الفوضى اللغوية، والتفنن في صياغة المصطلحات العامية التي تشوّه الفصحى. فالحديث في هذه الفضاءات المذكورة عادة يكون متموّجا بين العامي والفصيح.

والكتابة أو التخاطب باللغة العامية هي حالة مستساغة للأكثرية، باعتبارها لغة الحوار الدارجة السهلة وليس فيها تكلّف. والمجتمع كما نعلم يستخدم لغة التخاطب العامية، والحديث بها عادة تُتداول في روتين الحياة اليومي باعتبارها عملية ولا ضير في ذلك. وأحيانا تُستخدم مفردات قديمة بالعامية عفى عليها الزمن، والمجتمع لا يزال يتداولها؛ فلا حدود بين اللهجة العامية والناطق بها؛ والحدود بين الفصحى ومن لا يتقنها شاسعة. ففي العراق -مثلا- يتفنّن الناس بصياغة مصطلحات غريبة؛ باسثناء المصطلحات ذات الأصول السومرية المُتداولة في الجنوب العراقي، والأسباب متعددة؛ منها تفشّي الأمية والجهل والفقر في بلادنا، وهبوط وتدنّي مستويات التعليم، فضلا عن الانفتاح على العالم واختزال المسافات بين البلدان وفق النظام العالمي الجديد، فأدى الى دخول مصطلحات جديدة في اللهجات العامة.

وسادت اللهجات الدارجة في مختلف قنوات التواصل الاجتماعي ونلاحظ من يمتلك رصيدا لغويا لا بأس به، أيضا يتحدث ويكتب في هذه المنتديات بأسلوب العامة رغما عنه حتى يستطيع توصيل مرامه، حتى نلاحظ في بعض الأحيان أخطاء نحوية أو إملائية من أساتذة لغات بارعين بسبب الفوضى العامة السائدة. واللهجات العامية مختلفة في المشرق العربي عن المغرب العربي باختلاف الألفاظ واستعمالاتها وكذلك تأثير اللغات اللاتينية في اللهجات؛ فبعض اللهجات العامية تكاد تكون لغة أخرى لا نفهم منها شيئا كاللهجة المغربية والشامية والمصرية، فالعربية فيها مشوبة بلكنة افرنجية، وبعض المصطلحات فيها غير مفهومة. وقد أخلّت اللهجات العامية كثيرا باللغة ومستقبلها البعيد.

وثالث الأزمات التي تواجه اللغة العربية هي عدم وجود حيّز في اللغة العربية للعلوم الحديثة، وشحة المؤلفات العربية المهتمة بها، وقلة المؤلفات المهتمة بالعلوم والمعارف المترجمة الى اللغة العربية.

ورابع الأزمات هي إهمال معظم مجالات البحث العلمي استخدام اللغة العربية كلغة خاصة في الأبحاث الآكاديمية والعلمية، وكذلك الاعتماد على اللغة والأرقام اللاتينية في فضاء الانترنيت؛ بالرغم من أن تعليم العلوم باللغة العربية أسهل وأكثر إمتاعا؛ لأن في اللغة العربية مجالا واسعا للتعبير والإيجاز بشكل كبير في المواضيع المختلفة لمرونتها وحيويتها في ظل وفرة المفردات والأساليب اللغوية [20]. 

الأزمات العرضية: وأهمها الهيمنة الغربية على البلدان العربية في قرون خلت بدأت بالاستعمار وانتهت بالعولمة، وفرض تعليم لغاتهم على العرب؛ فتأثرت اللغة العربية باللغات الأجنبية وصار تداخلا بين المفردات، التي تداخلت أيضا مع اللهجات المختلفة بين البلدان العربية؛ فاستبدلت الكلمات العربية بأخرى غير عربية، ففي كل بلد توجد لهجات متعددة لكل منطقة، وأُغرِقت اللغة العربية بسيل من الألفاظ الأجنبية بحيث أحدثت ازدواجية بين الفصحى والعامية. وشجع الغرب اللهجات العامية في اللغة العربية قاصدا لتهميش اللغة العربية تدريجيا لتحل محلها اللغة الانجليزية، وهي لغة الدولة العالمية الواحدة، فسلطة اللغة هي لغة السلطة...سلطة العالم الأقوى.

ثاني الأزمات هي هيمنة العولمة التي تسعى لأن يكون العالم كله بقبضة نظام عالمي واحد لا يقبل التشظي في كل مجالات الحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والسياسية. والعولمة تبتلع ثقافات الأمم والشعوب بما فيها لغاتها، وتوحيد العالم فيها هو توحيد ظاهري صوري لكن في جوهره هو تمزق، وتشظٍ وتشتت لثقافة، وتاريخ، وحضارة، ولغة، وأحوال كل مجتمع من المجتمعات حينما تُختزل ثقافته، وحضارته، ولغته، في نظام اقتصادي ومالي قوي يتحكم فيها كيفما أراد في ظل سطوة التكنولوجيا على كل الحياة؛ وتبعا لها تتعولم اللغة؛ فلغة العالم القوي هي السائدة، وغيرها مهمشة؛ فلا جغرافية للغة بعد النظام العالمي الجديد.

اللغة العربية في مأزقين هما العولمة أولا، وزحام التنوع اللغوي، وكل لغة تريد الحفاظ على كيانها الأصيل وسط هذا الضجيج. وما دام الغرب يؤمن بالاختلاف والتعددية -فمن المفترض- أن الدولة القوية تحترم الهويات والثقافات المتعددة لدى شعوب العالم.

وللعولمة خياران هما "إما أن تتيح فرصة نوعية لانفتاح الشعوب والثقافات على بعضها لغاية التعريف بالتراث الحضاري والفكري واللغوي والروحي للشعوب، وهذا سيؤدي الى احترام الحق في الاختلاف والتنوع والاعتراف لكل ثقافة باسهاماتها في الحضارة الإنسانية الواحدة، وأما أن تؤدي العولمة الى تدمير الثقافات، وتحويل النتاجات الثقافية الى سلع تتحكم فيها قوانين السوق، وبالنتيجة ستؤدي الى تطويق الإبداع الأدبي والفني لدى الشعوب ذات الهويات الثقافية المتميزة، كما تهمش الثقافة الوطنية واللغة القومية من خلال فرض لغة وثقافة القطب الاقتصادي الذي ينتج وحده ويفرض لغته وثقافته عبر وسائل الاتصال التي يملكها، وأخيرا فإنها تؤدي إلى تقليص العلاقة بين المثقف والخبرة المباشرة بعمله وبالحياة من حوله، من خلال تقديم كل ما كان يختبره العالم والمثقف بنفسه، جاهزا موثقا؛ فتغنيه عن الانتقال والبحث؛ فيصبح إنسان المستقبل نسخا متطابقة"[21].

ثالث الأزمات هي لا وجود للغة العربية في عالم التكنولوجيا في كل مجالاتها وبرامجها فاللغة الانجليزية واللغات الأخرى هي الحاضرة.

يتبع

 

بقلم: إنتزال الجبوري

..................................

[1]  الرحمن- 3-4.

[2] ابراهيم- 4.

[3] السيد محمد حسين. الميزان في تفسير القرآن، ج19(تفسير سورة الرحمن).

[4] العلق-1-5.

[5]  موقع دراسات الصين والعالم.

[6] القحطاني، خالد فهد سعدان. لغة آدم. موقع صحيفة اللغة العربية.

[7] نفس المصدر.

[8] السليم، فرحان. اللغة العربية وموقعها بين اللغات. موقع صيد الفوائد.

[9] الزمر- 28.

[10]  الشعراء- 195.

[11]  يوسف – 2.

[12] موسوعة كله لك الألكترونية.

[13]  موقع بحوث الألكتروني.

[14] القحطاني. مصدر متقدم.

[15] موقع موضوع (يناير 2018)..

[16]  موقع دراسات الصين والعالم.

[17]  نفس المصدر.

[18]  حسين، د. طه. في الأدب الجاهلي. القاهرة: دار المعارف، ط9، ص7.

[19] بنت الشاطئ، عائشة عبد الرحمن. لغتنا والحياة. القاهرة: دار المعارف المصرية، 196.

[20] موقع موضوع الألكتروني.

[21] موقع دراسات  الصين والعالم.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم