صحيفة المثقف

لغة الحرية ولسان الأدب الذاتي (1-2)

ميثم الجنابيالعقلانية واللاعقلانية في الفكر العربي الحديث (10)

عندما يتحول الأدب والإبداع الأدبي إلى شيء أوسع من البلاغة والاهتمام المفرط بالكلمة والعبارة حينذاك يأخذ البيان بالتحرر من البيان. فهي المقدمة الضرورية الملازمة لبداية امتلاك الأدب لسانه الذاتي. ولا يعني ذلك سوى تحول البيان البلاغي إلى بيان اجتماعي سياسي.

ويعكس هذا التحول صيرورة الكلام لغة تدرك قيمة المعنى بالنسبة للفعل الاجتماعي. وذلك لأنها صيرورة تحول اللغة من وعاء للمفردات والعبارات إلى أسلوب للفكر والتفكير. مما يجعل منها كينونة متراكمة لوعي الذات الثقافي بأشكاله ومستوياته المتنوعة. والمسالة هنا ليست فقط في أن تحول الكلام إلى لغة، والبيان البلاغي إلى بيان فكري يؤدي بالضرورة إلى تحرير العبارة من قيودها الشكلية ويدمجها في كلية الفكرة فحسب، بل وإلى جعلها الفكرة محور وأسلوب الفعل الاجتماعي الهادف.

اتخذت هذه الصيرورة في مرحلة التحول العاصف للعالم العربي على مشارف خروجه من دهليز العثمانية، صيغا ومستويات عديدة بالارتباط مع كيفية انكسار تقاليد المدارس الفكرية والسياسية والأدبية السابقة في ممارسات المدارس الجديدة وانهماكها الفعال في تحرير النفس والتفكير.  فبغض النظر عن اختلافاتها العديدة ساهمت هذه المدارس في رسم معالم الحرية وتحويلها إلى مرجعية في العلم والعمل. من هنا يمكن ملاحظة توافق المجرى العام لاستمرار التقاليد الإصلاحية الإسلامية للأفغاني ومحمد عبده والكواكبي، وتحولها "الليبرالي" (الحر) عند علي عبد الرازق. وكذلك استمرار تقاليد "انعتاق الوجدان" و"تحصين الأركان" السابقة وتحولها "الليبرالي" (الحر) عند الريحاني وغيره لاحقا. وفيما بينهما تراوحت تقاليد المدرستين واستمرارها فيما أسميته بصيرورة لسان الأدب الذاتي، التي مثلها بصورة نموذجية محمد إبراهيم المويلحي(1858-1930). فهو التيار الذي تمثل بصورة واعية تقاليد الإصلاحية الإسلامية وتراث المدرسة اللغوية والأدبية بالشكل الذي جعل منها أسلوبا لتعميق النقد الذاتي وإرساء تقاليد الرؤية الأدبية التاريخية. وهي تقاليد ساهمت بصورة غير مباشرة في إرساء العناصر الأولية لوعي الذات التاريخي العربي المعاصر.

ففي (حديث عيسى بن هشام) نعثر على هذا الجديد (الحديث) في الصورة والمعنى. إذ يمثل بيانه الفكري الجديد نفيا لبيان اللغة التقليدية، مع أن السجع المليء في رواية المويلحي هو أقرب إلى سجع الروح الاجتماعي الجديد في تعامله مع الإشكاليات الاجتماعية الكبرى لعصره. إننا نعثر فيه على أصوات اليقظة الاجتماعية في هجائها للواقع، بغض النظر عن محاصرة السجع للفكرة. بمعنى انه لم يعرقل نطقها الوجداني. وهي الفكرة التي دفعها المويلحي نفسه إلى الأمام عندما أكد على انه "ليس من كتّاب الحساب والديوان بل من كتّاب الإنشاء والبيان". وليست هذه المعارضة المعتزّة بتحزبها الصريح إلى جانب معسكر الإنشاء والبيان بالضد من معسكر الحساب والديوان، سوى النتاج الملازم لإدراك أهمية وقيمة الرؤية النقدية تجاه الواقع، باعتبارها تجليا أدبيا لليقظة الاجتماعية العامة. وتمثلت هذه اليقظة حقائق الإنجازات الفكرية والروحية التي بلورها الفكر العربي في مدارسه السابقة وميادينه على امتداد أكثر من قرن من الزمن. لهذا نرى المويلحي يشير في مقدمة كتابه إلى انه يهديه إلى "أديب يجد فيه طرفا من الأدب، وحكيم يرى فيه لمحة من الحكمة، وعالم يبصر فيه شذرة من العلم، ولغوي يصادف فيه أثرا من الفصاحة، وشاعر يشعر فيه بمثل طيف الخيال من لطف الخيال".

لقد أراد المويلحي أن يجمع في "حديثه" خليطا من الأدب والحكمة والعلم والفصاحة والخيال يقدمه للأدباء والحكماء والعلماء واللغويين والشعراء، أي لكل الطيف الإبداعي الذي اخذ يستعيد مقومات وجوده الثقافي بعد غياب تاريخي طويل تحت غبار العثمانية. لقد أراد المويلحي أن يجدوا ويروا ويبصروا ويصادفوا ويشعروا ما يريد قوله طرفة ولمحة وشذرة وأثر وطيف من الأدب والحكمة والعلم والفصاحة والخيال، باعتبارها المكونات الضرورية لليقظة الاجتماعية. وهي مكونات شكلت في الواقع حافز إبداعه الفكري والأدبي بوصفه لسانا أدبيا ذاتيا للرؤية العربية المتراكمة في نقد الواقع التاريخي وإشكالاته الاجتماعية الكبرى.

ووضع هذه الرؤية النقدية في منهجه الجديد، الذي زاوج بين الخيال والواقع باعتباره السبيكة العقلية  الوجدانية أو الأدبية السياسية في نقد الواقع. حيث أكد على أن "حديث هشام بن عيسى" وإن كان في نفسه موضوعا على نسق التخيل والتصوير فهو حقيقة في ثوب خيال لا انه خيال مسبوك في قالب حقيقة. وحاول أن يشرح فيه ما اسماه بأخلاق أهل العصر في مختلف طبقاتهم من النواقص، أي أن الواقع هو مثار اهتمامه وليس الأحكام عنه، وانه يسعى لإظهار الحقيقة عبر الخيال لا بالعكس. لأن ما يقوله هو حقيقة متبرجة في ثوب خيال لا خيال مسبوك في قالب حقيقة. وليس مصادفة أن يتخذ المويلحي من أبي العلاء المعري نموذجا لمحاكاته الروحية.

فمن المعلوم أن المعري هو النموذج الخالد للروح العربي النقدي والنموذج المتسامي للروح النقدي الإنساني. وكما سبح المعري في خياله ليظهر الحقيقة كما هي، فإن المويلحي سعى أيضا لمحاكاته التاريخية من خلال إبداع وجدان نقدي مواز لما أبدعه المعري قبل قرون. لكن إذا كان نقد المعري يجري ويسري في شرايين الخلافة الثقافية، فإن نقد المويلحي يسير في اتجاه "تنقية" الدماء الملوثة للنهضة العربية الجديدة وتوجيهها صوب ضبط نبضات قلبها الآخذ في الحركة. وجعل من نقد التقليد الأجوف للغرب مقدمة نقده للواقع المصري (والعربي). وتتبع هذا التقليد في مختلف أشكاله بما في ذلك في اللغة. فإذا كان معنى كلمة "السوابق" الجياد، فإنها تعني الآن "ديوان تقييد أوصاف المتهمين". وإذا كان معنى كلمة "الشهادة" هو شهادة الجهاد، فإنها تعني الآن "ورقة يأخذها التلميذ". إضافة إلى هذا التغير يجري استعمال كومة من الكلمات والتطفل بها مثل الاوتيل واللوكانده والبوضة والكلوب والاكسبريس والمانيفيستو وغيرها. ولم يقف التقليد عند هذا الحد، بل تعداه إلى الملبس والمأكل والسلوك والتفكير أيضا. بحيث أدى ذلك إلى صنع سبائك من الشخصيات الاجتماعية العائمة بحد ذاتها وراء فضاء الغرب والشرق. لهذا نرى المويلحي يتكلم عما اسماه بحركة الناس التي لا هي شرقية ولا هي غربية. بمعنى دوران الجميع في حلقة مفرغة. وذلك لدوران الناس في تقليد لا يؤدي في نهاية المطاف إلا إلى تجميع الرذيلة وقولبتها في نمط وسلوك الدولة والمجتمع والأفراد. من هنا استنتاجه القائل، بأن المصري في أخذه بالمدنية الغربية مثله مثل المنخل يحفظ الغث التافه ويفرط  بالثمين النافع. مما أدى إلى فساد وتحلل البنية الاجتماعية والسلوك الاجتماعي عند مختلف الفئات. ولم يكن ذلك نتاج أسباب خاصة بالثقافة الغربية كما هي، بل لأسباب مرتبطة بكيفية دخولها إلى الشرق. وعلى ذلك بنى استنتاجه القائل بأن سبب فساد الأحوال في الأمم الشرقية يعود إلى أن دخول المدنية الغربية إليها كان بغتة، كما أن تقليد الشرقيين للغربيين في جميع أحوال معاشهم كالعميان لا يستنيرون ببحث ولا يأخذون بقياس ولا يتبصرون بحسن نظر ولا يلتفتون إلى ما هنالك من تنافر الطباع وتباين الأذواق واختلاف الأقاليم والعادات. وأدى ذلك بهم إلى أن يتركوا جميع ما كان لديهم من الأصول القويمة والعادات السليمة والآداب الظاهرة ونبذوا ما كان عليه أسلافهم من الحق، فانهدم الأساس.

إن انهدام الأسس المبنية على "أصول الحق" المتراكمة في الثقافة العربية والإسلامية هو الذي استثار الرؤية النقدية السافرة والشديدة في مواقف المويلحي من الحياة الاجتماعية في مصر وتركيز حزمة الضوء النقدية على كوامن الخمول الاجتماعي واستثارة اليقظة الاجتماعية عبر امتلاك لسان أدبها الذاتي. لهذا وجد المويلحي أسباب الاندفاع الأعمى وراء تقليد الغرب نتاج البطر والغفلة عن الماضي وضعف الهّمة وانعدام المعاناة والجهد وكراهة المشقة والتعب. إذ أصبح الرياء في الحياة الاجتماعية سلوكا عاديا وذلك بسبب انسلاخ الفئات الاجتماعية الجديدة عن تقاليدها القومية. فقد أدى تقليدها للغرب الأوربي إلى أن تتزي بزّيه وتسلك سلوكا لا معنى له في مصر. وأصبح الأخذ بالمظاهر الشغل الشاغل لهم. فحتى أفراحهم مجرد ديكور للأبهة الفارغة بسب خضوعها لتقاليد زائفة لا فرح حقيقي فيها.

وأصبح الفن مجرد أداة للابتزاز واللهو. فالغناء هو مجرد تفاهة وأداة للكسب وخال من الجمال والجلال. وتحول الجمهور إلى كتلة متخلفة وبليدة في أحاسيسها وأذواقها. وكل منهم مهتم بنفسه لا بالفن ما هو. كما تحولت الجرائد إلى المصدر الأول والأخير لهؤلاء المتعلمين الجدد. وتحولت عندهم مطالعة الأخبار فيها إلى الشغل الشاغل، كما أصبحت الجرائد مصدر المعرفة والعلم. وتحول "علم" هؤلاء إلى وسيلة للحصول على وظيفة في الدولة. ولعل مفارقة الظاهرة تقوم في تلك النكتة الواقعية التي سجلها المويلحي على لسان أحد أبطاله، الذين سمع بائعا أجش الصوت أنكر من صوت الحمير يصيح في شوارع القاهرة: "المؤيد! والمقطّم! والأهرام! ومصر! الأربعة بقرش!! أي إذا كانت جرائد مصر الكبرى حينذاك كلها بقرش واحد، فان ثمن مصر وأهراماتها وإبداعها الفكري الحديث لا يعادل من حيث نتيجته قرشا في "اكتساب" الحداثة المصرية. وهو حكم قاس إلا أن له ما يبرره من حيث دقته الثقافية وحدسه لرؤية الآفاق الفعلية للاغتراب والاستلاب الثقافي في مصر. وهو حكم يمكن تحسس وتلمس أبعاده في المفارقة غير المباشرة التي يقدمها المويلحي على رسم شخصية محمد علي باشا وواقع مصر في بداية القرن العشرين. فقد كان محمد علي باشا "معجزة دهره وآية عصره في الدهاء وعلوّ الهمّة". حيث كان دقيقا في سياسة تربية الرجال في الإخلاص للوطن مع لطف في السياسة وعطف على الأهالي. وأخيرا كان محمد علي محبا للعلم والعلماء وتعظيمهم وإكرامهم. بينما أصبحت السلطة الحالية مرتعا للفئات "الجديدة" الخالية من علو الهمّة والإخلاص للوطن والعطف على الأهالي وحب العلم والعلماء.(يتبع....).

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم