صحيفة المثقف

نقد في ميزان النقد

مامون احمد مصطفى"اجل إن مهمة الناقد الغربلة. لكنها ليست غربلة الناس. بل غربلة ما يدونه قسم من الناس من أفكار وشعور وميول. وما يدونه الناس من الأفكار والشعور والميول هو ما تعودنا ان ندعوه أدبا. فمهمة الناقد، إذن، هي غربلة الآثار الأدبية، لا غربلة أصحابها. وإذا كان من الكتاب أو الشعراء من لا يفصل بين أثاره الأدبية التي يجعلها تراثا للجميع وبين فرديته التي لا تتعداه ودائرة محصورة من أقربائه وأصحابه فذاك الكاتب أو ذاك الشاعر لم ينضج بعد. وليس أهلا لان يسمى كاتبا أو شاعرا. كذلك الناقد الذي لا يميز بين شخصية المنقود وبين أثاره الكتابية ليس أهلا لان يكون من حاملي الغربال أو الدائنين بدينه.

ان شخصية الكاتب أو الشاعر هي قدسه الأقدس. فله ان يأكل ويشرب ويلبس ما شاء ومتى شاء. له ان يعيش ملاكا، وله ان يعيش شيطانا. فهو أولى بنفسه من سواه. غير انه ساعة يأخذ القلم ويكتب، أو يعلو المنبر ويخطب، وساعة يودع ما كتبه وما فاه به كتابا أو صحيفة ليقرأه كل من شاء، ساعتئذ يكون كمن سلخ جانبا من شخصيته وعرضه على الناس قائلا: " هو ذا يا ناس، فكر تفحصوه. ففيه لكم نور وهداية، وهاكم عاطفة احتضنوها فهي جميلة وثمينة". وإذ ذاك يسوغ لي ان احك فكره بمحك فكري، وان أستجهر عاطفته بمجهر عاطفتي، وبعبارة أخرى، ان أضع ما قاله لي في غربالي لأفصل قمحه عن زؤانه واحساكه، فذاك حق لي كما ان من حقه ان يكتب ويخطب".

بهذه الكلمات يبدأ ميخائيل نعيمه كتابه الغربال، محاولا ان يضع مفهوما جديدا للنقد وعلاقته بالأدب والأديب، مفهوم يقضي بفصل الشخصية الأدبية عن مادة الأدب حين يكون الأدب محلا للنقد، لان الكاتب شيء، والكتابة شيء اخر، لا تجمعهما رابطة غير رابطة القلم والورقة، فما ينتجه الشاعر ليس بالضرورة انه جزء من الأجزاء المتممة لشخصيته وتكوينه الخلقي والنفسي والفكري، وانما هو جزء يتم انفصاله عن الشخصية في حال إتمامه وإخراجه للناس.

وهذه الحقيقة ليست جديدة، وليس ميخائيل الوحيد الذي نادى بها كما حاول ان يوضح لنا حين قال: (ما كنت لاهتم بتبيان هذه الحقيقة البسيطة لولا ان الكثيرين من كتاب العربية وقرائها لا يزالون يرون في النقد ضربا من الحرب بين الناقد والمنقود. فإذا قال الناقد في قصيدة ما لشاعر ما إنها قصيدة تافهة فكأنه قال للشاعر نفسه " أنت رجل تافه". وإذا فحص كتابا لكاتب فوجده ناقصا من وجوه كثيرة فكأنه صاح من أعالي السطوح ان ذاك الكاتب " رجل ناقص").

قلنا ان هذه الفكرة ليست جديدة، وليس هو أول من نادى بها. وانما هي مط وإرخاء لحزام قاعدة من قواعد الأدب في أوروبا تقول بضرورة وجوب كون الفن للفن ذاته، وهو إذ ينقل هذه الجملة بأسلوبه الخاص يذكر من حيث لا يدري انه نقلها عن أوروبا حيث يقول: " لولا ان الكثيرين من كتاب العربية". فقط، وليس غير العربية، ولم يقل ذلك إلا لعلمه بانتشار هذه القاعدة انتشارا تاما في أوروبا.

فما الذي يريد ميخائيل من كتاب العربية؟ تقليد الغرب!! نعم، وهذا ما يقرره في موضع اخر بعد ان يبين اختلاف العرب بعملية التأثر بالغرب فيقول: " أما نحن فنرى الأفضل أن نقف على الحياد - من عملية التأثر بالغرب – بين أولئك وهؤلاء، تاركين لهم حق تسوية خلافهم بالمدى والفؤوس إذا أرادوا، بشرط ان لا يعارضونا إذا تجاسرنا ان نعترف ولو بفضل واحد للغرب – وهو فضل آدابه على آدابنا".

وهذه النظرة تدل على ضيق الأفق ومحدودية النظرة عند الكاتب، لأنه لم يدرك ان المجتمعات ليست بشرا مجردين، وليس الأدب مجردا من الشعور والفكر العقلي الإنساني. أنا المجتمع تركيبة كبيرة ومعقدة، متشابكة تشابك الاختلاف، ومتعارفة تعارف التخالف، ومجتمعة تجمع التفرق، ومتناقضة فيما بينها تناقض القوة في الاميبا والأسد. وليس هذا واقعا غريبا أو جديدا، وانما هو قديم، قدم قصة الخلق التي ذكرت لنا هابيل وقابيل.

وتركيبة التعقيد هذه ترجع لكون المجتمعات متباينة الطباع، متنافرة التفكير. وهذا بدوره ناتج طبيعي وحتمي لاختلاف العقائد والمناهج والمبادىء والعادات والقيم والموروثات اختلافا جذريا. وهذا الاختلاف القائم هو الذي يخلق نوعا من البعد الفكري والشعوري بين الشعوب، ولا يوحدها. لان التوحيد من هذا الاتجاه، يعني تنازل مجموعة من الشعوب عن كل ما تملك من موروثات ومعتقدات صنعتها عبر أجيال طويلة، فأعطتها الصورة المميزة لها كشعوب وأمم مستقلة في هذا العالم الذي يتصارع من فيه من اجل إثبات ان كل واحد فيه أفضل من غيره، وانه الذي يملك الحق في ان يكون سيد البشر، والمتصرف في شؤون حياتهم. ومن الطبيعي جدا ان تلك التنازلات لن تتم، لأنه إقرار واضح بان الشعوب التي بقيت متمسكة بتراثها هي التي تستطيع أن تتقن دور القيادة على الشعوب التي رضيت بالتنازل. وهذا لن يكون، لان صراعا سينجم بين الشعوب، بسبب محاولة كل شعب الدفاع عن حقه في ان يحفظ لنفسه صورته المميزة والمستقلة. لذلك فان هذه القضية لا تحتاج إلى مفهوم أدبي، بل إلى مفهوم مبدئي، يقوم الصراع فيه بين المبادىء نفسها، ليثبت في النهاية المبدأ الصحيح.

وبما ان الاختلاف والتباعد قائمين بين الشعوب، فان الانفعال والتفكير والإحساس والإبداع تختلف طرقها بين شعب وأخر. ولان العقائد والمبادىء والعادات والتقاليد والقيم في كل شعب هي التي تتحكم في أفراده، فان طبيعة الإنتاج – أي إنتاج كان – ستتفق ومعطيات الفرد في شعب، وتختلف مع فرد اخر في شعب اخر حول نفس المفهوم ونفس القضية. وليس المهم عندئذ من هو المصيب، ومن هو المخطىء، لأن كل واحد سيعتبر نفسه المصيب وفق تفكيره.

لذلك كان على ميخائيل ان يوضح هذه النقطة قبل ان يقول بتفوق الآداب الغربية على آدابنا. ولا اقصد هنا التقليل من قيمة الأدب الغربي، وانما أود ان أقول: بان المقاييس الأدبية في الغرب، تحتاج إلى مقاييس نقدية غربية، وليس إلى مقاييس نقدية عربية، لأنها ان خضعت لمقاييسنا النقدية، فإننا سنعتبرها آدابا تافهة، وذلك عائد لعدم التطابق في المفاهيم الأساسية حول معنى الحياة أصلا. وهذا الأمر لا ينفي ضرورة الاتصال بالآداب العالمية، لا، وانما هو توضيح لضرورة كون عملية التأثر واعية وناضجة. تتناسب أول ما تتناسب مع معتقداتنا الدينية، ومن ثم مع تكويننا النفسي والأخلاقي. وليس كما يطلب ميخائيل منا بان نعتبر (التياترو) عملية ضرورية، من اجل ان نسمو مع روح العصر الذي نحياه حين يقول:" نحن لا نزال ننظر إلى الممثل نظرنا إلى (بهلوان) والى الممثلة كعاهر" و" من هذه العقبات وهم اجتماعي لا يزال راسخا في عقول الكثيرين، وهو ان التياترو يفسد الأخلاق الطاهرة – لا سيما أخلاق البنات والنساء. رحمتك يا ربي!".

ان الكاتب يستغرب هذه النظرة من عربي مسلم؟! وهل كان يتوقع منا ان نسارع في تبجيل الرجل البهلوان والمرأة العاهر في حالة التحام شفاههما والتصاق جسديهما؟! أم نومهما في سرير واحد بشكل خلاعي مبتذل؟! وماذا كان يريد منا الناقد، ان نصف هؤلاء بغير هذه الأوصاف؟! أولم يقرأ ميخائيل تاريخ الجاهلية العربية؟! الم يقرأ تفاخر الشعراء العرب قبل الإسلام، بأنهم كانوا يمرون من جانب أقبية جيرانهم دون ان يروا وجوه نسائهم؟! هذا في الجاهلية العربية، فكيف بالعرب المسلمين؟! أم انه لا يستطيع ان يعرف ان التكوين النفسي لمثل هذه الأمور هو الذي يحكم مسيرة الأدب، ومسيرة النقد؟ أم هو مصلح من نوع جديد، يرى ان قلب مثل هذه الفضائل وإنكارها هو الذي يستطيع ان يخلصنا من فساد الشرف والكرامة؟!

نحن لا نعارض ولا نقف حائلا بين التياترو والقوة النووية لذاتهما، ولكننا نعارض الهدف المرجو من هذه وتلك، فالتياترو القادم لينهض بعقل الأمة ويرسخ تاريخها وتراثها وعاداتها وتقاليدها بما يتناسب مع الموروثات التي نعتز بها ونتفاخر بأنها جزء من مكوناتنا الأصيلة، فهو تياترو مقبول ومستحسن، أما إذا كانت مهمته خلع الحياء والخفر والخجل، والخروج عن مسارات الموروث الذي نعتز به، فإننا نرفضه دون خجل أو شعور بالنقص، بل نرفضه ونحن مدركين معنى الرفض وتأثيره وحجمه، تماما كالقوة النووية التي يمكن ان تسخر إلى مصالح الإنسان إذا استخدمت ضمن ضوابط الأخلاق والمسؤولية، فهي قوة نعتز بها ونفتخر بوجودها، أما حين تطلق على ناغازاكي وهيروشيما فإننا نرفضها ونحن نشعر بفخر الرفض وقوة النفس الرافضة.

والتياترو الذي تكون مهمته انتزاع الإبداع والأخلاق والشرف من مفاهيم تربينا عليها، وهي مفاهيم يحق لنا ان نزهو ونزدهي بوجودها في تركيبة النفس والمجتمع الذي نحياه منذ أمد طويل، فإننا نقف لنعلن بكل وضوح وجرأة، بان هذا (التقدم) ليس ضمن الأشياء التي نسعى لامتلاكها والتأثر بها. وإذا كان هناك من الكتاب والمفكرين من يخجل من تسجيل هذا الرفض لأسباب تخصه، فعليه ان لا يكون إمعة يقول ما يقول الغير إرضاء لفكر أو مذهب لا ينتمي إليه أصلا، لان القول كالرصاصة التي تخرج لتردي إنسان، فالندم بعد إطلاقها لا يحل من المشكلة شيئا على الإطلاق.

ونعود إلى القضية الأولى، قضية فصل الشخصية الأدبية عن الأدب حين يوضع الأدب على محك النقد. فنقول بان الشاعر والشعر، القاص والقصة، الراوي والرواية، النقد والناقد، وحدة واحدة. تعبر الكلمات فيها عن شخصية الأديب تعبيرا كاملا، وحتى في كتابة التراجم، فان القارئ يلمح الكاتب يمتدح الشخصية التي يكتب عنها في صفاتها المتفقة مع صفاته، أو الصفات التي يتمنى ان تكون فيه هو، فهو يضفي من شخصيته أجزاء كثيرة على شخصية المترجم له. لذلك فهو يكتب بجانب الترجمة، تطلعاته ورغباته، وما يلقس بصدره من احساسات.

والشعر سلسبيل عذب يجري في الشاعر مجرى الدم في العروق، ويمتزج مع عصارة قلبه ويلتحم بسويداءه، قبل ان يخرج مضرجا بعناء التوتر والقلق، يخرج حاملا في زفراته وتأوهاته أنفاس قائلة، وبصمات مشاعره، وعذابات إحساسه. ونقرا القصيدة فنعرف قائلها معرفة النفس للنفس، والروح للروح، وتختلط مشاعره بمشاعرنا رغما عنا، فنبكي لبكائه، ونضحك لضحكه، وتسيل قلوبنا لوعة للوعته.

لان الأدب والأديب حالة واحدة لا يمكن الفصل بينهما، فالقول مكون أساسي من مكونات الشخصية ووجودها، والصدق الأدبي، والجودة الأدبية، لا يتأتيان إلا عن هذا الأسلوب في الأدب، والكاتب الذي يشذ عن هذه القاعدة ليس خليقا بصفة الأديب. لأنه قاصر عن الإفصاح عن مكنونات نفسه، ومكنونات شخصيته ومبادئه ومثله. وانما الأديب الحق هو من يستطيع ان يجمع بين قدرته على الإفصاح السليم عما يلقس في صدره، ويعتمل في فكره من مشاعر وأفكار، ثم يخضع تلك المشاعر والأفكار لعملية صقل وتهذيب ناضجة تتوافق مع معتقدات شعبه وموروثاته. فيأتي بعد ذلك دور الأدب للناس، وحين يخرج بهذه الصورة، فانه أدب يستحق النظر فيه، وتأمل معانيه ومكنوناته. أدب يحترم المثل والقيم ولا يتعدى الدين والأخلاق. إنما هو أدب ملتزم، لا يحيد عن الحق، ولا يستهتر بالصلة القائمة بين الأدب والأديب.

ويحضرني في هذا المقام بيت عظيم المعنى، يقول فيه الشاعر...

صنت نفسي عما يدنس نفسي

وترفعت عن جدا كل جبس

فماذا لو وجد الناس الشاعر بعد قوله هذا البيت منغمسا باللذات والشهوات، مغرقا نفسه بالصغائر التي تشين الخلق الكريم، هل سيقولون هذا بيت تافه وكاذب، غير قاصدين المعنى الباطن الذي يكمن خلف هذا القول، وهو ان الشاعر نفسه تافه وكاذب؟! بل وربما يقبلون البيت على انه نتاج جيد من كاذب يقول الحقيقة دون ان يكون من أتباعها، فيأخذون البيت ويقذفون بالقائل قذفا يجعل ذكره مرتبطا بمن يدعي أكثر مما يستطيع.

وليس جديدا على العالم أيضا ان الحياة الخاصة التي يحياها ساسة العالم، هي محل بحث الشعوب والمؤسسات العامة حين يود شخص مرموق دخول انتخابات معينة. واروبا وأمريكا تشهد كل فترة انتخابات، حملات تصفية عنيفة لأرواح عشيقات الساسة، أو من كانوا يعرفون شيئا بسيطا يخل بالالتزام عن شخصية السياسي، وكذلك حملات مسعورة من الرشاوى والتهديد. فإذا كان هناك فاصل ما بين الشخصية وبين إنتاجها، فأولى ان يكون هذا الفاصل قائما بين شخصية السياسي والعمل المناط به، ولكن هذا لم يحدث، لان الأمر اخطر من ان يكون هناك فاصل كالذي ينادي به ميخائيل.

ومثل اخر، انك لو شاهدت رجلا يأكل من لحم ادمي بتمتع ونهم ورضا، فان الحنق والغضب سيثوران في صدرك بدافع لا إرادي، وقد يؤديان إلى قتل ذلك الشخص. مع انه من وجهة نظره هو لم يقم بما ينافي الأخلاق والطبيعة الإنسانية. وفي مكان اخر من هذا العالم قد يخطر ببالك ان تأكل لحم البقر الطازج، وما ان تهم بذبح البقرة حتى تجد نفسك محاطا بإلف ألف سيف، كل سيف يود ان يقطعك ألف ألف قطعة، لأنك اجتزت قواعد الأخلاق والإنسانية في ذلك البلد.

ولو طلبت من آكل لحوم البشر ان يكتب لك جملا أدبية يستخدم فيها أعذب ما في روحه من تشوق، فانه سيصور لك فرحته لأمر ما وكأنه ممسك بقلب بشري بين أسنانه يقضمه بلذة لا نظير لها. وكذلك لو سألت عابد البقر ان يكتب لك قصة قصيرة يستنكر من خلالها صفات التوحش البشري، فانه لن يتوانى عن تصوير إنسان يأكل لحم البقر بصورة متوحشة منقطعة النظير. وفي الحالتين سيتم الحكم على هذا الأدب، بأنه أدب تافه، وان من كتبوه ما زالوا بدائيين في أفكارهم، محدودين في إدراكهم. وليس ذلك لشيء، إلا لان الأدب عبر بصورة صادقة عما يلقس في نفس كل منهم. وكما ان هذا دليل واضح على استحالة فصل الشخصية الأدبية عن إنتاجها، فانه دليل أيضا على ان مقاييس الأدب والنقد في شعب ما لا تصلح لشعب اخر.

إذن فليس هناك انفصال بين الأدب وشخصية الأديب على الإطلاق. وقد قيل قديما في المثل " كل إناء ينضح بما جعل فيه ". وليس بشيء مما هو خارجه.

يقول محمود سامي البارودي في بيت من الشعر...

وانظر لقولي تجد نفسي مصورة

في صفحتيه فقولي خط تمثالي

ويفسر الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد هذا البيت في كتابه " مجموعة أعلام الشعر " فيقول: " دع مواضع التقليد التي قضى بها العصر أو حكم الصناعة اللفظية، واستعرض ديوان البارودي كله لا ترى فيه بيتا واحدا إلا وهو يدل على البارودي كما عرفناه في حياته العامة والخاصة، أو يدل على البارودي كما وصفته لنا أعماله وصوره لنا مؤرخوه.

وهذه أية الشاعرية الأولى. لان الشعر تعبير، والشاعر هو الذي يعبر عن النفوس الإنسانية، فإذا كان القائل لا يصف حياته وطبيعته في قوله فهو بالعجز عن وصف حياة الآخرين وطبائعهم أولى، وهو إذن ليس بالشاعر الذي يستحق ان يتلقى منه الناس رسالة حياة وصورة ضمير ".

ويقول أيضا في نفس الكتاب حين يقرن القول بالفعل لدى البارودي: " وإذا بلغ التوافق بين خلائق المرء وديوانه هذا المبلغ فتلك آية التعبير الصادق المبين أو تلك آية الشاعرية أو الملكة الفنية.

وموضع التفوق البارز في شعر البارودي انه قد ارتقى في التعبير عن (الشخصية) هذا المرتقى الرفيع في عهد كان حسب الشاعر فيه ان يحكم الصناعة وينقل الخواطر العامة ليحسب من المتفوقين البارزين، فقدرة الرجل على ان يجمع بين إحكام الصناعة وشرف العبارة وصدق الإبانة عن كل سريرة من سرائره وكل لون من ألوان طبعه في غير سخف ولا استرخاء ولا تكلف هي عنوان الحياة في تلك (الشخصية) وعنوان القوة الماضية في تلك الشاعرية، لأنها مضت إلى غاياتها من وراء الغشاوات والعراقيل والمغريات ".

ونحن نقول ان هذا أساس واضح من أسس الأدب بصفة عامة، وليس هو الأساس الأصيل أو الأول، لان هناك أساسا يعتبر الأول في كل ما ينضوي ليس تحت راية الأدب فقط، بل وتحت راية العلم أيضا وقد اقر البارودي هذا الأمر حين قال.....

والشعر ديوان أخلاق يلوح به

ما خطه الفكر من بحث وتنقير

كم شاد مجدا وكم أودى بمنقبة

رفعا وخفضا بمرجو ومحذور

كما اقر هذا الأمر في مقدمة ديوانه حين قال "... ولم لم يكن من حسنات الشعر الحكيم إلا تهذيب النفوس وتدريب الأفهام وتنبيه الخواطر إلى مكارم الأخلاق، لكان قد بلغ الغاية التي ليس وراءها مسرح وارتبأ الصهوة التي ليس دونها لذي همة مطمح ".

إذن فالأدب بصفة عامة يحتاج قبل البحث في أسسه الفنية ان يدرك الأديب والناقد ان هناك بدهيات خاصة في كل شعب من الشعوب هي رواسي أدبه ومراسي فنه. وأول تلك البدهيات طبيعة المكونات الفكرية والنفسية لشعبه، واقصد بالضبط الدين والأخلاق. فالأدب الخارج عن هذين الأمرين ليس إلا ابتذال للذات التي لا تستطيع ان تملك الموقف الواضح أمام الآداب والحضارات الأخرى، تلك الذات التي تشعر بصغرها وانحطاطها أمام المد القادم من جهات هي أقوى على الصعيد المادي والعسكري، دون ان تدرك بان الالتصاق بالمبدأ والتعامل مع الموروثات تعامل فخر واعتزاز هو الطريق الذي يقطع على تلك القوى التمكن من قيادة الأمم الواثقة من نفسها وتاريخها وموروثاتها قيادة السيد للعبد، بل وان الإيمان بالذات التاريخية هو أول طرق التفوق والعلو والسمو الذي لا يمكن انتزاعه من دون انتزاع تلك الثقة المترسخة بالإيمان بالذات التاريخية الحضارية.

وتوكيد هذا الأمر يأتي من خطورة القلم والكلمة، والأديب الذي لا يدرك الخطورة التي يحملها قلمه، وأنها أمضى من السيف، وأكثر فاعلية من الذرة ليس بمستحق لفظ الأديب، لأنه سيعمل من خلال تحرره ولا مسؤوليته واستهتاره عمل المعول الهدام داخل بلاده، بدلا من ان يكون فاعلا في إعلاء نهضة بلده الأخلاقية والفكرية. وبهذا يكون المجتمع قد نخر من أهله، ودب فيه الفساد من مفكريه وأدبائه، وتحول إلى مرتع يرتع فيه المتطفلون والانهزاميون، وبذا نكون كالدبة التي حاولت ان تنش الذباب عن وجه ابنها فألقت عليه صخرة، فنجت الذبابة ولم يقم ابنها.

ويقرر أحد الشعراء هذه الحقيقة حين يقول....

لا تحسبن العلم ينفع وحده

ما لم يتوج ربه بخلاق

والعلم ان لم تكتنفه شمائل

تعليه كان قطيعة الإخفاق

كم عالم مد العلوم حبائلا

لوقيعة وقطيعة وفراق

وأديب قوم تستحق يمينه

قطع الأنامل أو لظى الإحراق

في كفه قلم يمج لعابه

سما وينفثه على الأوراق

لو كان ذا خلق لأسعد قومه

ببيانه ويراعه السباق

لذلك لا يمكن اعتبار الأديب شيئا وأدبه شيئا اخر. ونقد الأدب هو نقد لشخصية الأديب أيضا، وليس في الدنيا قانون يعاقب الفعل ولا يعاقب الفاعل، ولو صح ذلك لأصبحت الدنيا تمور بالفوضى، والنقد الذي لا يسأل عن شخصية الأديب نقد فج لا زال في مراحله البدائية.

لان الأديب مسؤول، والناس تنظر دوما للمسؤول على انه قدوة، لأنه متميز عنهم. فما بالك لو كانت القدوة لا تلتزم الصدق؟ ما بالك في خطيب يقف على المنبر وينهى الناس عن الغيبة ثم ينزل عن منبره ليستغيب غيره، وشاعر يطلب من الناس التضحية، ويخط في الفداء والأقدام قصائد تستثير همم الجبناء والضعفاء، وتراه أول من يفر حين يسمع أزيز الرصاص بعيدا عنه بضع كيلو مترات، وثان يقف ليلقي بكلية أو جامعة محاضرة طويلة في العدل، وينطلق ظالما الناس من اجل دراهم قليلة.

فالأدب التزام، أساسه الصدق، ومقوماته المسؤولية الملقاة على عاتق الأديب، ووحدته تناسب القول والفعل، وليس غير ذلك على الإطلاق.

والآن لندخل الغربال ونرى الطريقة التي يتبعها ميخائيل في نقده للأدب. فهو في نقده لديوان نسيب عريضة " الأرواح الحائرة " يرى ان الديوان على مستوى رفيع من الشاعرية والذوق الأدبي، ومن أمثلة ذلك نقاشه للمقطوعة التالية....

لو كنت ربا في السماء عظيما

بجميع أمر الكائنات عليما

لهبطت من عرشي إلى ارض الشقا

نحو ابن ادم من خلقت قديما

وطرحت نفسي عند موطئ رجله

وسجدت ثم لوجهه تكريما

ولبثت اغسل بالدموع كلومه

وازيده بتذللي تعظيما

مستغفرا عن عيشة قسمت له

منذ الخليقة لا تزال جحيما

يقول ميخائيل: " وإذ لا يجد له مفرا من إلحاح فكره يخدره بقوله ان ما يراه من التفاوت في مظاهر الحياة هو ظلم من الحياة وخلل في تنظيمها. وانه لو كان ربا لرتبها على   غير ما هي عليه من السنن. ولاستغفر الإنسان عما انزله به، منذ خلقه، من الإحن والشدائد والأوجاع ".

والحقيقة ان ميخائيل لم يصدق حين قال بان الشاعر قد اعتبر الظلم من مظاهر الحياة. لان الشاعر اعتبرها ظلما من الله – جل شانه – كما هو واضح من الأبيات الشعرية، وأي تأويل يحاول لي رقبة المعنى وإبعاده عن المعنى الحقيقي ليس سوى تأويل اعتباطي لا يتساوق ولا ينتظم مع المعنى الواضح تماما في الأبيات المذكورة، وأنا لا اعرف أبدا كيف تناول ميخائيل الأبيات بالطريقة التي أراد، ولكني اعلم ان تحوير الدلالات من مسار إلى مسار اخر، إنما هو قصور شديد في تقييم العمل وقصور اشد في القدرة على قول الحقيقة.

والأبيات المذكورة لا تعبر في الحقيقة عن الم الإنسان، بل تعبر عن روح قاصرة عاجزة في الشاعر نفسه، لأنه اخذ يندب كالنساء حظ البشر، ولأنه من العاجزين حمل مسؤولية الفشل إلى الله – جل في علاه – بدلا من البحث عن الطبيعة الإنسانية الجشعة المدمرة التي حولت الحياة إلى مجموعة من المتناقضات الهزلية. ولأنه قاصر عن إدراك ان كنه المشكلة في الطباع البشرية الناشزة، فان الحل عنده نوع من التمني المستحيل (لو)، وتمني الاستحالة ليس سوى تعبير عن الاستكانة والفشل، فهذه المقطوعة تغرق القارئ في دوامة الحزن والأسى والعجز والتسليم، بدلا من شحذ همته نحو البحث عن سبيل الخلاص، وإحقاق الحق، وإزهاق الباطل.

ثم إنني لا أدرك الفرق الكامن بين العجز الساكن هذه الأبيات وبين العجز الذي نعرفه عن أحلام المقهورين الذين يبحثون في الخرافات عن قبعة الإخفاء، تلك القبعة التي تخفي صاحبها عن الأنظار وتجعله مالكا لكل القدرات والطاقات في لحظة ارتدائه لها، وأيضا لا أرى أي فرق بين الشاعر هذا وبين من يحلم وبشكل يومي بالكنز القادم إليه حتما من مجهول الأيام والأسرار، ويرى هذا الكنز أمام عينيه كحقيقة لا تحتاج سوى الوقت للتحقق. بين هذه وتلك، لا يوجد أي فارق على الإطلاق، بل ويجب على البشرية المعذبة ان تنتظر تحول التمني المستحيل كي يتحقق، وإذ ذاك تتخلص البشرية مما تعاني من احن وعذابات وشدائد.

وقد قال نسيب ما قال، فلنستمع للشاعر عبد الرحيم محمود كيف يصوغ المشكلة ذاتها، ثم كيف يواجهها حين يقول.....

بغى في قسمة الأرزاق ناس

وقالوا، هكذا قسم الإله

وقالوا: ان أحب الله عبدا

برزقته المقدرة ابتلاه

دعونا ان يكن هذا صحيحا

يرا الفقراء معبودا خلاه

رأيت القلب، ما ضاق صدرا

بمحبوب لحرمان سلاه

لقد وصفوا الإله بشر ظلم

بما – كذبوا تنزه في علاه -.

هذا هو الفهم الحقيقي والواقعي لمفهوم المعاناة الإنسانية وأسبابها، هو إحساس نابع عن حس عميق دقيق يستطيع استشفاف الأمور بعين بصيرة ثاقبة من وسط أجواء مغلفة بالضباب الشديد، إنها نظرة الواقع ( بغى في قسمة الأرزاق ناس) انه الجشع الإنساني الذي لا يقف عند حد، وليس خللا وظلما إلهيا – أعوذ بالله -، ومن بين هذين الفهمين للقسوة الحياتية، ينبثق تصور الحل عند كل من الشاعرين. فالأول يرى ان من حقه الحقد على الذات الإلهية – التي لا يضيرها تطفل فقير للعقل معتل للضمير – باعتبارها السبب في شقاء الإنسان، وهذا ما يدفع نحو التحوصل في الشكوى والبكاء والعويل واللطم على الخدود، أما الثاني فانه حين عرف مصدر الداء بدأ بشحذ همته ليحصل على حقه في الحياة رغما عمن سلبه ذلك الحق، وهو يقرر ذلك في نفس القصيدة حيث يقول...

أتينا للحياة فلي نصيب

كما لك في الدنيا نصيب

فلم تعدو وتغصبني حقوقي

وتطلب ان يسالمك الغصيب

أعدلك قال ان أسعى وتجني

واطلب المعاش فلا أجيب

فانصفني ولا تجحف فاني

أخوك إذا دهى المصيب

الكلمات هنا تدور في فلكين متلاصقين، فلك الصياغة اللفظية البسيطة غير المتكلفة، لكنها صياغة عصية على من أراد ان يأتي بكلمات مثلها لمفهوم مشحون بالأحاسيس والمشاعر التي لا تركن ولا تهدأ، بل تتلاطم تلاطم التضاد القابع في نفس النواة ونفس المحور، محور التركيز على الفهم الساكن دوران تلك الأفكار في النواة المتلاطمة، فهم لا تؤثر فيه سرعة الرياح أو الأعاصير المحركة لذاك التلاطم، بل تخضع كل الأنواء له خضوع الموج للشاطئ، فالصياغة اللفظية الرائعة والسلسة لمثل هذا المفهوم الضخم إنما تدل على عفوية تساق إليها قريحة الشاعر بفطرة ناعمة قادرة على التجول في مسارب النفس والشعور تسرب الحياة في الأرواح التي نحملها دون ان ندرك من كنهها أي شيء على الإطلاق، ثم هي كلمات مقاتلة، حارقة، كاوية، لكن بهدوء يبعدك عن الم القتال والحرق والكي، هي تدفعك نحو التقدم والارتفاع، دون ان تصدر الأوامر الجافة التي تتناقض مع قوة النفس وصفاءها، وهي كلمات تمارس التحريض المباشر للمقاومة من اجل انتزاع الحق في الحياة دون الشعور بالذنب أو الندم.

ومقطوعة أخرى يناقشها ميخائيل...

سيان ان تصغي للنصح أو تغضي

يا نفس فالأتي مثل الذي يمضي

العيش إذ يشفي كالعيش إذ يضني

ان الذي يحيي بعض الذي يفني

الطهر لا يدني والعهر لا يقصي

فالكأس ان تطفح كالكأس في النقص

الجوهر السامي يبقى بلا رجس

كم مومس تمضي عذراء للرمس!

فافعل كما تهوى، يا قلب، لا تحذر

ان كنت من تبر فما ضرك المصهر؟

يعلق ميخائيل قائلا: (لا شك في ان الشاعر لم يبلغ هذا المستوى الذي تجلت له فيه وحدانية الحياة، فتقلصت ظلالها، وتوارت أشباحها، وتكسرت نوانتئها، إلا بعد جهاد طويل. فقبل ان أدرك في أعماق وجدانه ان " الذي يحيي بعض الذي يفني " وان " الجوهر السامي يبقى بلا رجس ". وان ما ندنسه نحن بشفاهنا وأفكارنا لا تدنسه الحياة لأنه بعض منها. وقبل ان بلغت روح الشاعر هذه المحطة من الوجود – وهي في نظري أقصى ما بلغته إلى الان – قد اجتازت محطات عديدة تكاد تلمحها خلال أبيات قصيدته " أرزة لبنان ". فذاك الصبي نفسه الذي وقف في السنين التي عقبت ذلك أمام وجه الحياة سائلا، ثم حائرا، ثم مستوحشا، ثم متزهدا، ثم متصوفا لم ينل من الحياة الخارجية نصيبا، فانعكف على الحياة في داخله يذريها تارة بمذراة عقله وطورا بمذراة قلبه. وفي كل وقفة كانت تنتابه ألام وغصات وحرقات لا تكاد تخلو منها قصيدة من قصائده).

واني لأتساءل عن وحدانية الحياة التي يذكرها ميخائيل، أين موجودة؟ فليس هناك بيت واحد فيما ذكر يدل على ذلك، لان الأبيات المذكورة لم تأت بشيء جديد على الإطلاق، وانما حورت حقائق ثابتة تحويرا يتناسب مع مزاج الشاعر الخاص، فالإصغاء للنصح لا يأتي بطلب من الشاعر وكذلك الإعراض عنه، وانما تقرره قيمة النصيحة التي تحدد شخصية قائلها. وما هي هذه النصيحة؟ الاستهتار بأسباب السعادة والشقاء؟ أم اعتبار الشرف ليس دليلا على سمو أخلاق حامله. أم اعتبار العهر ليس دليلا على ابتذال العاهر؟ لان العهر والشرف يتساويان أمام الجوهر السامي! أي جوهر سام هذا الذي لا يضع فاصلا بين العهر والشرف؟!

وقد يقول قائل عليك ان تفهم المعنى الكامن خلف هذه الكلمات، ويجب ان تكون قادرا على استدعاء المعاني التي تخفيها الأحرف وتسترها الأسطر، لان الشاعر هنا إنما يكتب عن معنى خفي يريد ان يظهر فيه التباس المفاهيم وعشوائية المعاني، فهو يصور حالة نفسية أكثر مما يصور حالة عادية، أضف لذلك انه يملك قدرة رائعة في انتقاء اللفظ ونظمه في بوتقة من البناء الشعري المتميز.

فأقول: ان العمل الأدبي لا يطلب مني ان أتعامل معه تعامل المتلقي الذي يسمع أو يقرا ليؤمن بما قرأ أو سمع، ولا يطلب مني ان أعيش حالة الأديب التي يريد هو نقلها لي على أنها حالة خاصة به، حالة تكون شخصية، تستأثر بالتوجه إلى نفس الشاعر بمعزل عن القارئ الذي يشكل جزء من المجتمع الذي يحياه الأديب، لذلك فان عملية القراءة لا تكون بمنأى عن المفاهيم والعادات والضوابط التي يحيا القارئ في ظلالها. ولا اقبل بأي شكل من الأشكال ان تصاغ لي أي قوانين أو طرق من اجل إتباعها لأكون قارئا يسير وفق ضوابط ومعطيات يضعها مجوعة من النقاد أو الأدباء لتصبح مسلمات يجب التعامل معها على أنها الطريقة الإبداعية في القراءة والدراسة، خاصة عندما تكون تلك القوانين والضوابط قد صيغت بمعزل عن الثوابت التي تشكلت في تاريخنا منذ آماد بعيدة، تلك الثوابت التي تشكل الهوية الحضارية والثقافية والأخلاقية لأمة ارتضت لنفسها ذات يوم ان تكون صاحبة الريادة في هذا العالم.

وهذا لا يعني التحوصل أبدا في مفاهيم قديمة، بل يجب ان نعيد تطوير وتشكيل تلك المفاهيم في قوالب تتناسق وتتساوق مع تطورات الحياة والمفاهيم، بشرط ان ترتكز عملية التطوير والتشكيل على الثوابت التي لا يمكن إخضاعها للنحت والتآكل، تطور يشعر بالفخر والاعتزاز بما نملك من مقومات وثوابت رغم حالة الضعف والتردي التي تحياها امتنا في الوقت الحاضر. وليس في الوجود كله أذل من امة تتنازل عن مرتكزاتها خجلا واستحياء عن رغبة منها واختيار، وليس أقوى من امة تنافح وتكافح عن معتقداتها مهما كان حجم تلك المعتقدات في وقت يكون المكافح والمنافح موضع اتهام وتشكيك، لان الأمم إنما تصنع بقدر إيمانها بما تملك وبحجم التضحية الإيمانية بما تملك.

وقد يعود القائل ليطرح مسالة الصياغة والبناء الفني الذي يتمتع به الشاعر، وهذا بدوره يعيدني إلى سؤال كنت قد طرحته يوما على الدكتور وليد سيف يوم كنت في زيارة بيتيه له، فقد سألته عن الأسلوب الذي اكتب به بعد ان أبدى توجيهاته لي حول ما كنت قد أعطيته من نتاج خاص بي، فقال لي: ماذا تقصد؟ قلت: اقصد الأسلوب الذي تنتظم فيه الكلمات؟ فقال: أنا لم افهم ما ترمي إليه تماما، ولكن الأسلوب الذي تسأل عنه هو كل ما يحويه العمل من كلمات وأفكار، وليس هناك ما هو جميل في اللفظ وغير جميل في شيء اخر، فالعمل الأدبي يتشكل من وحدة واحدة تتناغم فيها الكلمات مع الأفكار مع المضمون لتشكل وحدة يمكن ان نطلق عليها العمل الأدبي. وحين خرجت من عنده وعدت للبيت أدركت تماما عظمة الفكرة التي يؤمن بها، وأدركت أيضا ان العمل الأدبي يمكن ان يخضع للتشريح، ولكن بنفس الطريقة التي يخضع فيها الجسم البشري للتشريح، فان كانت عملية التشريح ناجحة فلأنها تعاملت مع الجسد كوحدة واحدة متصلة الحياة في جميع الأعضاء وليس غير ذلك. ومن يدعي ان الشاعر يملك قدرة على الصياغة اللفظية الآسرة، دون أن يأخذ الصياغة اللفظية كمكون من مكونات كثيرة داخل العمل الأدبي فهو كمن ينظر للألوان بنفس النظرة التي تجعله لا يرى الفرق الهائل بين اللون الأسود واللون الأبيض. لذلك فان ما يكتب يجب ان يكتب بحذر شديد، وقدرة فائقة تجمعه مع كل المكونات والمعطيات المجتمعية والتراثية والدينية واللفظية والجمالية كي يكون عملا أدبيا يسعى نحو التكامل مع النفس والحياة والمجتمع. وإن حدث عكس ذلك فان العمل سيدخل ضمن دائرة السفسطائية التي تملك قدرة على التلاعب بالألفاظ من اجل تحويل الحق إلى باطل والباطل إلى حق. سفسطائية فارغة من كل شيء إلا استغناء القارئ الذي يسعى لامتلاك الغباء، آو القارئ الذي لا يعرف الفرق بين الحقيقة والوهم، أو قارئ يسعى للتشدق في محافل هو ليس من أهلها. والفرق بين قارئ يسعى للحقيقة وبين قارئ يقرأ، كالفرق بين من رأى السماء فقال أنها السماء، وبين من قال أنها المحيط.

وحين ينتقل ميخائيل للتحدث عن الزهد والتصوف في الأبيات التي قدمناها، فإنني أعجب عن أي زهد أو تصوف يتحدث! هو زهد من نوع جديد، وتصوف من نوع جديد، زهد العاجز، وتصوف المقهور. ان معنى الزهد والتصوف في اللغة العربية معنى واضح، لا يقبل التأويل أو التجريح، وحين توضع الكلمات في سياق ما فإنها تكتسب المعنى الذي يوحي به السياق، ولكنها تصبح نافرة وغير مستساغة إذا تم إرغام الكلمة على حمل معنى لا يتساوق مع مضمونها ودلالاتها، لذلك جاءت كلمة الزهد وكلمة التصوف في سياق لا يتناسب مع ما تحمل هذان الكلمتان من دلالات ومعان، فيظهر الزج المصطنع والمرغم لمثل هذه الدلالات في سياق النص النقدي الذي يحاول الناقد إرغامنا قسرا على تحمله واحتماله. وما هذه الأفكار الشعرية والنقدية سوى امتداد صريح لتساؤلات الحيرة التي يعيشها الغرب وسط ضجيج المادة والفراغ الروحي. وإذا ما عاد القارئ إلى كتاب " مرداد " للناقد نفسه فسيجد النقل الواضح والتأثر البين لأفكار فردريك نيتشة.

وسأثبت هنا أبياتا في الزهد للشاعر محمود سامي البارودي، وأرجو ألا يفهم القارئ انني أقابل شاعر ميخائيل بقائل هذه الأبيات، لأنني تعلمت منذ الصغر ان احفظ مقامات الناس وان لا امنح نفسي حق استخدام أدبهم بما لا يرضونه، وديوان محمود سامي البارودي، وكذلك حياته الشخصية المثيرة للنفوس والعقول تأبى ان تكون في موضع المقابلة مع هذا الشاعر أو ذاك الناقد، فهما بالنسبة لبحره الزاخر، ما زالا يقفان على شواطئ الإبداع والتفرد من حيث الإبداع الأدبي ومن حيث إبداع التضحية الذي كلفه أثمان غالية ليكون ضمن العاملين بالقول الذي يخرج منهم ليلزمهم بإتباعه مهما كانت ألاثمان ومهما بهظت التضحيات. يقول البارودي...

كل حي سيموت

ليس في الدنيا ثبوت

حركات سوف تفنى

ثم يتلوها خفوت

وكلام ليس يحلو

بعده إلا السكوت

أيها السادر قل لي

أين ذاك الجبروت

كنت مطبوعا على النط

-ق، فما هذا الصموت

ليت شعري، أهمود

ما أراه أم قنوت

أين أملاك لهم في

كل أفق ملكوت

زالت التيجان عنهم

وخلت تلك التخوت

أصبحت أوطانهم من

بعدهم وهي خبوت

لا سميع يفقه القو

ل، ولا حي يصوت

عمرت منهم قبور

وخلت منهم بيوت

لم تذد عنهم نحوس الد

هر إذ حانت بخوت

خمدت تلك المساعي

وانقضت تلك النعوت

إنما الدنيا خيال

باطل سوف يفوت

ليس للإنسان فيها

غير تقوى الله قوت.

في هذه القصيدة فهم عميق لمعنى الحياة والموت، وإدراك لمعنى الزوال في الحياة، والبقاء بعد الموت. لهذا كانت شخصية الشاعر ثابتة، معتقدة ما فيه الخير والتسامي، شخصية ترفعت عن الصغائر فارتفعت بإيمانها هذا إلى قمة عرش الكبرياء والخلود، وسيبقى هذا الشعر ساكنا روح الإنسانية ما بقي على الأرض إنسان. وهنا يظهر الزهد الذي قاد الشاعر نحو التضحية بكل ما يملك من اجل الأرض والإنسان، فزهد في المناصب وتقلد السيف الذي قاده إلى المنفى، ليرثي من مكانه هناك زوجته وابنته ونور عينيه، ليسجل بذلك حالة من التصوف الصابرة التي تأتي من حالة الزهد في الحياة وما بها من مغريات، وما بها من انهزام وتراجع، حياة ترتفع فوق الندم والحسرة لتحط كنسر فوق قمم الشموخ والتضحية، والزهد والتصوف.

وفي نقد ميخائيل للدرة الشوقية يقول: " ومن وصفه الشعري أيضا – يقصد احمد شوقي – قوله حيث يشكر للأندلس انه في مدة إقامته فيها تخلص من وجوه الممالئين والأغبياء المدعين....

فأنت أرحتني من كل انف

كانف الميت في النزع انتصابا

ومنظر كل خوان يراني

بوجه كالبغي رمى النقابا

ومن الحشو قوله بعد هذين البيتين:

وليس بعامر بنيان قوم

إذا أخلاقهم كانت خرابا

فعلام هذا الانتقال الفجائي الغريب من نقد عنيف مر إلى (حكمة) مبتذلة لا حكمة فيها؟ ".

فإذا كانت هذه حكمة مبتذلة، فما رأي القارئ بالتياترو حيث انعدام الأخلاق، وما هو المبتذل حقا في قول احمد شوقي، العادات العربية، أم الموروثات الأخلاقية، أم القيم الدينية الأصيلة؟ ان الابتذال الحقيقي في الأدب يأتي حين يحاول الأدباء التعامل مع مفاهيم الحياة وكأنها ملك لهم يتصرفون بها وفق إرادتهم وتصوراتهم، وحين ينصب النقاد أنفسهم كأوصياء على تلك المفاهيم، وصاية عاجز لا يعرف كيف يحدد الداء أو الدواء، وحين يكون المتلقي حاملا من الرعب ما يوقفه عند حد الصمت لان أولئك الذين نصبوا أنفسهم أوصياء يملكون من الشهرة ما يجعل غيرهم يعتقد بأنه قاصر عن التأثير في حركة المجتمع. وإذا عدنا للتاريخ لنقرأه بشكل مجرد ومنصف، فإننا سنجد الأدباء والشعراء في كل العصور ليس سوى تابعين لحركة الأبطال الذين زرعوا التغيير في رحم الزمن، إلا قلة قليلة استطاعت ان تجمع بين البطولة وبين الأدب، فبقيت كمنارات تستهدي الأجيال بألقها وبريقها. وما على القارئ من اجل ان يصل لهذه الحقيقة سوى العودة إلى مكتبة التراث العالمي منذ القدم وحتى الان، واكبر شاهد على ذلك المتنبي الذي حير العالم بشعره، فان كل ذاك الشعر أو جله ذهب في مديح الحكام تارة من اجل التقرب لهم، ومن أجل تسجيل بطولاتهم تارة أخرى، فكان المتنبي مؤرخا في قالب شعري للأبطال دون ان يكون واحدا منهم.

وفي مقالة (الحباحب) يريد الناقد ان يصل لسؤال عن اشهر الكتاب في سوريا. وهو سؤال وجهه بالأصل احد الامريكين. فيكتب لنا مقدمة في ست صفحات لا ضرورة لها على الإطلاق، ليصل إلى مرحلة يقول فيها ان سوريا مليئة بالناس الحاملين لقب كتاب، ولكنهم في الحقيقة ليسوا كتابا، ويستطرد معلقا في أسلوب سخيف مبتذل لا معنى له قائلا: " ولا شك انه لو كانت كل شعوب الأرض على شاكلتنا لما عانى الله في تدبير خلقه تعبا على الإطلاق. لكن هناك أقواما جشعين لا يكفون عن طلب أشياء جديدة فالله في شاغل بهم عنا، وهذا هو سبب تعسهم وسعادتنا وتأخرهم ورقينا. هم في حركة وجهاد دائمين – يهدمون ويشيدون، يعزلون ويولون، يبحثون وينقبون، يرودون ويكتشفون، وبالإجمال، يعملون أكثر مما يصلون. أما نحن فلا حاجة بنا للعمل بل بالصلاة ننال كل شيء ".

والذي يحيرني في كتاب العربية، هل أصبح التطاول على الذات الإلهية ووصفها بما يتناقض مع طبيعة الشعور والأخلاق منتهى الأدب؟ وهل قيمة الأدب وقدرته لا تظهر إلا حين يمس الذات الإلهية؟ والا، فما هو تفسير حالة الفوضى والتسيب اللاأخلاقية في أدب كتابنا المعاصرين وغير المعاصرين.

وحين يسخر ميخائيل من الشرق وصلاته، هل نسي ان الحالة التي نعيشها هي نتاج فكر المدعين، وانه لو تخلص الشرق من أولئك المدعين وثقافاتهم لاستقام أمر الأدب والشرق استقامة تعلو وتنهض من سبات الأفكار الهدامة إلى مرافىء الإبداع والخلق والتميز.

الم يدرك ميخائيل ان الشرق يعاني من مشكلة الناس والأدب؟! وان المبدأ الوحيد الذي يتناسب ونفسية الشرق هو الإسلام " اعني الإسلام ككيان واقعي للأمة بكافة أنظمته " ، وانه ان وجد الإسلام ووجد المؤمنون به، فان الشرق به وبهم سينهض من سبات فرضه عليه من يدعون الحرص على مصلحته، ودليل ذلك مقارنة بسيطة بين القديم والحديث، مقارنة لا تحتاج إلى جهد، بقدر ما تحتاج إلى إخلاص في الحكم. نظرة تكون بعيدة عن مهاترات الغرب وادعيائه. نظرة تأمل واسترشاد بالبصر والبصيرة في آن.

ان الشرق الان بحاجة للأخلاق أكثر من حاجته للتياترو الذي نراه اليوم بكل ما فيه من انفلات من الأخلاق وانفلات من الإبداع الذي من شانه ان ينهض بالعقل إلى مشارف الطهارة والنقاء، لان الأخلاق صفة أصيلة في التكوين النفسي والعقلي للعربي. أما الانحلال فليس سوى صفة دخيلة على مشاعره، جاهد الاستعمار طويلا ليدخلها إلى قلبه. ولما فشل، سلم أمانة نشرها لأتباعه الذين يحملون السم الزعاف للشرق وأهله، وكثير من الكتب والمؤلفات التي طرحت في الأسواق منذ زمن بعيد وحتى يومنا هذا، ما هي سوى خدمات قدمت من الكثير ممن سموا بالأدباء من اجل تثبيت أفكار الاستعمار والمستعمر.

وأما في مقالته (الريحاني في عالم الشعر) فهو يتكلم بصورة سريعة ومقتضبة عن ديوان لامين الريحاني صادر باللغة الإنجليزية بعنوان " أنشودة الصوفيين وقصائد سواها " فيقول بعد تعليق قصير عن أدب الريحاني العام: (أما في "أنشودة الصوفيين " فالريحاني يظهر أمامنا لا كمترجم بل كشاعر ينطق بتموجات فكره ونبضات قلبه. فحيثما تسمع لقلبه نبضة تجد في شعره جمالا وتسمع له رنة وتأتي على اخر القصيدة شاعرا انك قد اقتربت خطوة من الشاعر ولمست جانبا من كيانه. وحيثما لا تسمع لقلبه نبضة تأتي على اخر القصيدة وتقف حائرا، سائلا نفسك: " ماذا عساه يعني؟ ".

ومن يقرأ هذه الفقرة يتبادر إلى ذهنه ان الناقد يهيئه لدخول عالم ذلك الديوان الجميل، كي يطلعه على درره الغالية التي ستربطه بكيان الشاعر. ولكن شيئا من هذا لم يحدث، لان الناقد اكتفى بتعليق عام حول الفكرة التي تدور حولها بعض قصائد الديوان دون ان يحاول الاستشهاد لتعليقه هذا بشيء يترجمه من تلك القصائد.

وقد يقول قائل هب انه لا يستطيع ان يترجم، فماذا عساه ان يفعل غير التعليق؟ ولكن هذا السؤال لا يعطي الناقد عذرا، لأنه ان استطاع تذوق جمال الشعر باللغة الإنجليزية، فانه يستطيع دون شك إعطائنا روح المعنى ترجمة في كل قصيدة يعلق عليها. لان تذوق الأدب في لغة معينة تصل إلى حد الهوس فيه، تجعل المتذوق يملك قدرة على إعطاء القارئ روح المعنى بلغة ثانية، وخاصة إذا كان الناقد متمرس في اللغتين. وناقدنا متمرس باللغتين، العربية والإنجليزية، وتشهد حياته الأدبية بذلك، فهو الذي ترجم كتاب النبي لجبران خليل جبران، وهو الذي كتب باللغة الإنجليزية كتب عديدة منها كتاب " مرداد "، " في مهب الريح "، " دروب ".

أما لماذا لم يفعل ذلك، فلأنه أراد فقط ان يزيد صفحات الغربال مقالات تجعله يخرج عن كونه كتيبا.

وفي نقده لكتاب "الفصول" للكاتب عباس محمود العقاد، فانه ينقل لنا شذرات مما قاله العقاد في مواضيع مختلفة، دون ان يعمل فيها مبضع النقد. وهل النقد عملية نقل وتسويد صفحات فقط؟ أم عملية تدقيق وانتقاء للصحيح من الخاطئ؟ وإذا كان يعيب على كتاب العربية قصورهم في الكتابة، فليبتعد عن ان يكون ناقلا مرددا، فالأولى بالشخص إصلاح الفاسد فيه قبل ان يحكم على فساد غيره، ورحم الله القائل...

لا تنهى عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

أم ان هذا البيت في نظر ناقدنا " حكمة مبتذلة لا حكمة فيها " أيضا.

هذا هو الغربال، وهذا ما فيه، وليس أكثر، انه كما يصفه الناشر " الغربال لأدبينا الكبير ميخائيل نعيمه هو مدرسة في كتاب وارث ثمين في صحائف " وهذا هو ميخائيل كما يصفه الناشر أيضا " إذا كان للعربية، بل إذا كان للشرق جميعا أن يزدهي بمفكريه وان يباهي بفلاسفته وشعرائه وكتابه، فقد حق لنا نحن أبناء العربية أن نضع ميخائيل نعيمه في راس مفاخرنا الروحية والأدبية في هذا العصر. إن ميخائيل نعيمه مدرسة إنسانية فريدة ومذهب مخلص من أشرف مذاهب الفكر الإنساني".

فويل للشرق الذي سيزدهي بمثل هذا الفكر المفرغ من الفكر والأخلاق، وويل لمن سيزدهي بهذه الفلسفة الجوفاء، وهذا الشعر المبتذل الساقط، وويل لمن لا يرى بهذا الكاتب بوقا لأفكار الغرب التي استطاعت أن تبهر عقله وتسقط الكثير من اعتداده بنفسه، ليصل في النهاية إلى طبع نفسه وفكره بطابع لا يتناسب ولا يمت للعرب أو الشرق بشيء على الإطلاق.

 

مأمون احمد مصطفى

فلسطين – مخيم طول كرم- 1976

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم