صحيفة المثقف

المثقف والمؤسسة: هل يمكن الحديث مثقف مستقل؟

الكبير الداديسيالثقافة والمثقف المعاصر (3)

كان المثقف إلى عهد قريب  يشكل في حد ذاته مؤسسةً قائمةً بذاتها لها تأثيرها على من حولها، فنجده يربي، يؤطر ويعلم... كلمته مسموعة ومكانته محفوظة، تشد إليه الرحال، ويعتبر بيته مقصد العامة والخاصة للنهل من معارفه، وتتشرف بمجالسته ومصاحبته، يمارس سلطانه انطلاقا مما ما يحفظه من متون وما يملكه من معارف لا تتاح غيره... وقد تتسابق المؤسسات التقليدية على احتضانه، وطلب ودِّه، ويتم البحث عنه أينما كان ليتولى المناصب العليا، ولا ينافسه أحد في تسلق المراتب في المؤسسات من المسجد والمدرسة إلى الجامعة فدُورِ النشر، والقنوات الإذاعية والتلفزية الرسمية، وكان الجمهور يشعر الفخر وهو يتابع مداخلات المثقفين على تلك القنوات القليلة والمحدودة ساعات بثها، وقد تشكل مداخلة مثقف في سهرة تلفزيونة حدثا ثقافيا تتطلع إليه العيون، وتظل ألسنة المثقفين تلوكه، وتناقش ما دار فيه مدة طويلة  وقد يتباهى البعض بتذكر مقاطع منه، يستشهد بها في المناقشات الخاصة والعامة، نعتقد أن أجيال من المغاربة لا زالوا يتذكرون برامج ثقافية كانت تستطيف مثقفين أمثال عبد الله العربي ، ومحمد  عابد الجابري/ ومحم سبيلا ، وكيف كان التفاعل معها قبل اكتشاف الانترنيت وتراجع مكانة كل ما هو ثقافي...

لكن اليوم بعد تعدد القنوات وتنوع تخصصاتها، واسترسال البث دون انقطاع،  وظهور وسائط حديثة وشبكات التواصل الاجتماعي التي لا تنفك تصور وتنشر حركة كل من وما يذب على وجه الأرض، مبشرة بموت التلفاز وقتل الكتاب ووأد المذياع وغيرها من الوسائط التقليدية... وكأنما هذه الوسائط الجديدة عرت المثقف ونزع عنه الشرعية الثقافية التقليدية المتوارثة وأصبح لا يساوي قلامة ظفر أما المثقف الكبير السيد "غوغل" الذي أحاط علمه كل شيء عددا، يجمع بين العلم والاقتصاد والتواصل والترفيه، واضعا بين أيادي قاصديه أكبر مكتبة في العالم، وأسوع سوق، وأضخم مركز ألعاب، وأسرع قنوات الاتصال والتواصل، محطما الحواجز، جامعا بين رأسمالية  الربح وحرية المبادرة... واشتراكية تعميم ودمقرطة المعلومات...  فتغيرت معه النظرة للإنسان المثقف، وظيفته في الحياة،  فلم يعد المثقف المعاصر من يملك المعرفة، وبل ولا حتى من ينتجها، ولكن من يشارك غيره معارفَه، فالمشاركة (Le partage / The sharing) اليوم أضحت أساس المفاضلة، بما في مفهوم المشاركة من  نزوع نحو الديمقراطية الثقافية وعولمة المعلومة... والمشاركة الواسعة مرهونة بالمؤسسات، ذلك أن المثقف الذي لا يشارك معارفه اليوم لن يعرفه أحد، وسيقضي عمره في الظل مهمشا مجهولا  ويموت نكرة، ما لم تكن دراساته، كتبه وأبحاثه مشاركة بين العموم، ولن تتاح له تلك المشاركة الواسعة إلا إذا كانت خلفه مؤسسة تحضنه، تقوم على ترويج ثقافته، تقدمه للجوائز، تكرمه، تتوجه وتنشر أعماله  وصُوره وتصريحاته وكتاباته...  وتجعله يصل إلى أكبر عدد من الجمهور وله قاعدة جماهيرية فيغدو مؤثرا اجتماعيا، فيم المثقف الفرد المنعزل طوعا أو كرها، سيبقى مهما كانت ثقافته، ومهما كانت شهاداته مجرد صحية في واد، يغني خارج السرب، ظِله قصير وصوته غير مسموع، لا تزيده مادية العصر ومَأسسته إلا عزلة، وأينما التفتَ لا يجد إلا عبارة "لا مستقبل للمثقف والمفكر المستقل" تصرخ في وجهه...

صحيح إن الانتساب للمؤسسة  قد يكسب المثقف شهرة، ويضمن له استقرارا ماديا، لكن في الأعم من  الأحيان يستحيل هذا الانتساب غِلاًّ يكبل المثقف، وقد يحوله لمجرد موظف مرتبط بوظيفة محددة في الزمان والمكان، وفي أرقى الصفات يُمسي المثقف بوقا وقلما مأجورا يدافع عن قيم وأفكار لا يؤمن بها... وصحيح أيضا أن المؤسسة قد تضمن للمثقف دخلا قارّا ومورد رزق يغنيه شظف الحياة، وذلة الحاجة لكنها قد تفقده شعبيته وأحيانا إنسانيته، وقد تكسبه من الأعداء أضعاف المعجبين، خاصة إذا كانت تلك المؤسسة سياسية أو لها أيديولوجية متطرفة يمينا أو يسارا، فالانتماء لمؤسسة حزبية مثلا أفقد الكثير من المثقفين استقلاليتهم، وضاعف أعداءهم الذين وجدوا في أولئك المثقفين شماعة يعلقون عليها  أخطاء الحزب التاريخية والمستقبلية مهما كانت حداثة التحاق المثقف بالمؤسسة الحزبية، وكثيرا ما فرض ذلك الانتساب على المثقف الدخول في مهاترات ونقاشات مجانية لا تفيده في شيء، بعد  أن وجد نفسه مجبرا على الدفاع عن أفكار تتعارض وما كان يدعو إليه قبل التحاقه بالمؤسسة، هكذا أحال الانتساب لمؤسسة ما المثقف هدفا سهلا مهما كانت درجته العلمية، ومكانته الثقافية وفي التاريخ المعاصر أمثلة كثيرة لمثقفين انقلبت عليهم الجماهير، وتغيرت أحوالهم واهتزت مكانتهم العلمية في أعين جمهورهم بمجرد التحاقهم بمؤسسات أو تأسيسهم لمؤسساتهم الخاصة، لأن المؤسسة في وعي العامة مرهونة بالربح والخسارة، والشأن الثقافي ابعد ما يكون عن هذا المعيار، فعندما يصبح الربح هو الأساس (ولا مؤسسة دون ربح)  يتم وأد القيم (ولا مثقف دون قيم)...

لكل هذا وغيره فالمؤسسة وضعت المثقف بين نارين، فهي وأن كانت لها إيجابيات مادية على المثقف فإنها قد تكون عاملا سلبيا في حياته تكبله، تقيد حريته، وقد تفقده مصداقيته وشعبيته...

 

الكبير الداديسي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم