صحيفة المثقف

لغة الحرية ولسان الأدب الذاتي (2-2)

ميثم الجنابيالعقلانية واللاعقلانية في الفكر العربي الحديث (11)

لقد وقف المويلحي أمام ظاهرة الاستلاب شبه الشامل في انحراف مصر عن مصادرها ومبدأ حركتها الجديدة التي أرساها محمد علي باشا. وفيها ومن خلالها تكشفت حقيقة أن الدولة والمجتمع والأفراد يسيرون في حلقة مفرغة. وكل خطوة هي مراوحة في مكانها. فهي تشبه حركة الألعاب الدائرية لا تغير سرعتها من بقائها في فضائها التقليدي، ولا تعني في نهاية المطاف غير شهقة وفزعة وفرحة مرافقة لأوهام الحركة وسرعة الأفعال. أما في الواقع فإنها تدور على كراسي معدّة مسبقا لهذه "الحركة". وهو أمر يؤدي بالضرورة إلى إعادة إنتاج ما كان. ولا يعني ذلك سوى إنتاج الفراغ واستلاب النفس الدائم. وبالتالي انعدام الحركة الذاتية، باعتبارها مصدر الأدب الذاتي ورؤية أبعاد الوجود التاريخي والثقافي للدولة والمجتمع والفرد.

فإذا كان هذا الاستلاب الثقافي هو سبب الخراب المميز للبنية الاجتماعية والسياسية للدولة والمجتمع، فإن سرّ ذلك يكمن ليس في دخول الفرنسيين مصر، بل في "أننا أدخلنا أنفسنا في حكمهم فاخترنا قانونهم ليقوم عندنا مقام شرعنا" كما يقول المويلحي. مما أدى إلى انتزاع الفرد من منظومة القيم السائدة. وبالتالي إجباره على الدخول في نظام غريب عليه. الأمر الذي جعل الفئات الرثة تتهافت على مؤسسات السلطة كما لو أنها بقرة حلوب. بحيث جعل ذلك من مؤسسات الدولة أداة للعيش وليس لتنظيم الحياة. فالموظف يحصل فيها على "رزق ثابت، شهريا نقدا ذهبا". وإذا كان الشرف في الماضي يستمد رونقه من السطوة والمنعة ويقوم ركنه على البأس والبطش، فإن "الشرف اليوم في الاستكانة للأحكام والخضوع للقانون". ولم يقصد المويلحي بالاستكانة للأحكام والخضوع للقانون سوى العبودية للسلطة ومؤسساتها الجديدة. إذ ليس الجديد هنا سوى "ولي أمر جديد"، وهو مرتع الرشوة يستغلها "من اجل المحافظة على النظام".

وتحولت أجهزة القمع المتزايدة من شرطة وأمن ومخابرات إلى مواقع تجمع "الدارسين" ذوي الأصول الفلاحية، مما أدى إلى إغراق الأجهزة القمعية بهم. فحيثما تنظر ترى هؤلاء "العظماء الجدد" ذوي الأصول الفلاحية الذين أرسلوا إلى المدارس فنالوا الشهادة، فاستحق أحدهم تولي النيابة في الأمة وولاية الدماء والأعراض والأموال. وأغرب ما في الأمر، كما يقول المويلحي، هو أن "يحكم فلاح وينوب عن الأمة حرّاث".

ولم يقصد المويلحي بذلك امتهان واحتقار الفلاحة والحراثة بقدر ما كان ينتقد ظاهرة سحق النظام وتشويهه من خلال قلب المفاهيم والقيم وقواعد السلوك والتقاليد الجيدة، أي كل ما أدى إلى  تشوه بنية العلاقات الاجتماعية وطباع الفرد المنّظم في عالم لا نظام فيه. وينقل المويلحي لنا بصورة ساخرة إجابة وشكوى سائس يقول "لست أدري والله أسائس أنا أم حاضنة! ولست أدري والله أسائس أنا أم سّقا! والله ما أدري أبّواب أنا أم خصيّ! فما أدري والله أفرّاش أنا أم ابن صاحبها!؟

ورافق هذا التشوش في النظام تهشم قيم العمل والتربية. فقد وجه المويلحي نقدا لاذعا لنظام التربية والتعليم وغاياته العملية. فالتعليم لم يعد يخدم مهمات إرساء أسس متينة للتطور والتقدم، على العكس انه أصبح وسيلة القلق الدائم للفرد لا وسيلة توحيد الهمّة الاجتماعية وفعلها الهادف. إذ وجد في سوء التربية والتعليم وانحطاطهما الآفة الكبرى في انحطاط الأخلاق. ويعكس تخلف التربية بنظره مجمل التخلف والانحطاط العام في الدولة والمجتمع مثل استيلاء الجبن والحذر على القلوب وضعف العقول وفتور النفوس والكسل. بحيث أدى ذلك إلى أن تصبح البدعة سنّة والسنّة بدعة، والفضيلة نقيصة والنقيصة فضيلة.

أدى هذا الانهيار في القيم إلى صعود الطفيلية وسيادتها في مؤسسات الدولة وفي العلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية. وأصبح الحصول على المال والثروة بكل الطرق والوسائل الامتياز المفضل لطبقة "الأعيان والنبلاء الجدد". وتحول الغش والخديعة إلى أسلوب الابتزاز واستلاب الحقوق وانتزاع الأقوات. بحيث أن مصافحة المحامي أصبحت تساوي عشرين جنيها! وليس مصادفة أن يتحول اليهود، كما يقول المويلحي، بين ليلة وضحاها في هذا الواقع إلى "أسياد جدد في مصر من خلال البورصة والمضاربات". ويورد المويلحي على لسان أحدهم قوله:"هذا صاحبنا الخواجة فلان اليهودي وفيكم من أدرك والدته تبيع الخبز في الحارة… أنا أردت أن أبين لكم أن هذا اليهودي دخل البورصة سمسارا لا يملك مالا فأصبح من كبار الأغنياء". بحيث أدى ذلك في نهاية المطاف إلى أن آل النظر والاستحقاق فيها لليهود واندثرت البيوت وذهبت أسماء أصحابها. ولم يقصد المويلحي بذلك سوى أن الاغتناء والإفلاس واستمرار التقاليد أو اندثارها تحول إلى جزء من مغامرة لا ترتبط بإنتاج ولا بعلم ولا بمعرفة ولا بعمل بل بمغامرات البورصة والمضاربات. كما أصبحت مهمة الجرائد الإشارة لهذه الأخبار، التي أصبحت بدورها "معلف" "المثقفين الجدد" ونقاشاتهم، مثل أن تنشر إحدى الجرائد خبر موت نقيب الأشراف عن عمر يناهز ست وتسعين سنة "قضاها في عمل البر والإحسان، فكان نبأ موته أسف وحزن في قلوب بلده خصوصا والقطر المصري عموما". وأثار ذلك كالعادة نقاش "المثقفين الجدد"، بحيث علق أحدهم على ذلك قائلا "لا حول ولا قوة إلا بالله. لابد أن تكون أسعار البورصة هبطت لهذا النبأ هبوطا فاحشا في القطر المصري خصوصا وفي الولايات المتحدة عموما".

أدى هذا الواقع الكسيح إلى صنع فئات اجتماعية كسيحة لا همّ لها سوى الإثراء السريع والقفز على مراحل التاريخ والمحاكاة السطحية المباشرة للغرب. لهذا نرى المويلحي يقسّم المجتمع إلى ثلاث طبقات اجتماعية هي طبقة العامة "وجبلوا على التسليم لأحكام القضاء وتفويض الأمر لأقدار السماء"، وطبقة الخاصة، الذين يعتمدون أيضا "على التسليم لأحكام القضاء والإيمان بأنه لن ينالهم إلا ما قدّر الله، ومع ذلك لا يرون ما يمنعهم عن الأخذ بأسباب التقية والحذر، ولا في العمل بمقتضى القوانين المندوب إليها في حفظ الأبدان". أما الطبقة الثالثة فهي طبقة "حديثة التربية" لا من الأولى ولا من الثانية "خلت صدورهم من آيات الله والحكمة"، اخذوا عن "بعض الفرنسيين عادة التهاون بالشرائع والازدراء بالإيمان، ولم يحيطوا بشيء من العلوم الموضوعة لتقويم وتطهير الطباع ومعرفة الحقائق… وأنهم أصغر خلق الله نفوسا، وأجبنهم قلوبا، وأكثرهم هوسا ووسواسا، وأشدهم قلقا".

لم تعن إشارة المويلحي لهذه "الطبقات" سوى الإشارة إلى الواقع الاجتماعي المتصير في ظل سقوط القيم القديمة وانحلال التقاليد الخاصة وضعف استبدالها بقيم وتقاليد تستند إلى المرجعيات الثقافية العربية والإسلامية. كما لم يقصد بهذه "الطبقة المثقفة الجديدة" سوى الفئة التي وصفها المويلحي نفسه بالفئة المصطنعة، التي لا همّ لأحدهم منها سوى البحث في كتب الفرنسيين وأدلتهم وشرائعهم وأسمائهم عن "دليل" لكل ما يريد قوله وفعله! بحيث ترى القاضي "الجديد" والمحامي "الجديد" يطلب كتاب دللوز وجارو عوض عن ابن عابدين والهداية. وعندما لا يعثر فيها على ما يريد يطلب كتب فوستين هيلي! ولم يسع المويلحي من وراء ذلك إلى رفض أو تجاهل إبداع الغرب في ميدان الفقه، بقدر ما انه انتقد تجاهل وجهل القضاة والمحامين "الجدد" لتراثهم الفقهي الهائل وشريعة أسلافهم العظام. فالشريعة هي ليست وعاء رؤيتهم المتعالية والمقدسة، بل وميدان تجاربهم الاجتماعية والثقافية. وجهل أصولها هو تخريب لأركانها وفروعها. ومن ثم هي أداة تخريب الأدب الذاتي في التعامل مع النفس والآخرين على السواء. فالقانون الإسلامي أو حصيلة الشريعة الإسلامية في مختلف علومها، كما يقول المويلحي، لم تنسخ ولم يرتفع حكمه، بل هو باق على الدهر ما بقي في العالم إنصاف وفي الأمم عدل. إلا أن المشكلة تقوم في انه "كنز أهمله أهله، ودرة أغفلها تجارها، فلم يلتفتوا إلى وجوه تشيد وتمكينه، وتمسكوا بالفروع دون الأصول، وعكفوا على الاشتغال بسفاسف الأمور وتعلقوا من الدين بالأغراض الحقيرة والأقوال الضعيفة، وتركوا الحقيقة إلى الخيال، وتعدوا الممكن إلى المحال، ولم ينتبهوا يوما إلى ما تجري به أحكام الزمن في دورته، ولم ينتهوا إلى أن لكل زمن حكما يوجب عليهم تطبيق أحكام الشرع على ما تستقيم به المصلحة بين الناس".

أما الطبقة "الحديثة"، فانه لا حديث فيها وعندها سوى التقليد. ومن ثم فهي طبقة خالية من المعرفة وخاوية العقل ورخوة الضمير. أنها كتلة تحتوي على أفراد صغار النفوس، جسّدت وجودها الواقعي حصيلة الرذيلة التاريخية للمحاكاة الفجة للغرب الأوربي. لقد أخذت من الحضارة الغربية قشورها ورذائلها. فهي تتكون عادة من الشبان الذين تميزوا بالافتنان والأخذ بالمظاهر من بين أولئك الذين يذهبون إلى أوربا للنزهة والراحة، أو من بين أرباب الوظائف الذي يفرون إلى هناك من قيود الخدمة، أو من بين الذين يقومون هناك لأسباب عقائدية وسياسية حيث يعملون كالأجير للأجنبي، حسب تقييم المويلحي.

لقد أراد المويلحي القول، بأن هذه الفئات الاجتماعية التي تبلورت في ظل انكسار التقاليد والقيم، بفعل المحاكاة السطحية المباشرة للغرب الأوربي أدت إلى تشويه ذاتي شبه تام. ومن ثم فهي عاجزة عن تقديم إجابة سليمة للإشكاليات الواقعية الكبرى التي تقف أمام مصر والعالم العربي آنذاك. أنها تنافي الرؤية الأوربية عن نفسها كما لو أنها حقيقة مطلقة. وصاغ ذلك على لسان إحدى شخصيات روايته عندما قال "أننا لا نرى في كتابات وأحاديث الغربيين عموما والفرنسيين خصوصا سوى تمجيدا لمدنيتهم ومباهاة الناس بنظام معيشتهم، وإن همّ الكبير منهم والصغير هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور وتمدين الهمج والبرابرة وما شابه ذلك. وهي أحاديث وكلام ينبغي طرحها جانبا والنظر إلى الأمور في حقائقها والحكم عليها بحسب قيمتها في ذاتها لا حسب ما رسم الوهم وسوّله الخيال في النفوس".

وتمثلت هذه الفكرة من حيث دوافعها وغاياتها البعد الجوهري في التيار الذي مثله المويلحي والقائل، بأن الإبداع الحقيقي يفترض معاناة ذاتية والسير في إشكالاتها. فهو الطريق الوحيد الذي يمكنه أن يبدع أدبا ذاتيا في القول والعمل. من هنا انتقاده اللاذع والعقلاني لدور السلطة التخريبي تجاه المصالح الوطنية الكبرى وبالأخص تجاه تدمير الروح الوطني في الاقتصاد والاجتماع. فعوضا عن أن تكون منظِّما فاعلا للإنتاج والتبادل والرفاه الاجتماعي نراها تتحول إلى وسيلة لتفريغ المجتمع من قواه المنتجة، وإلى هراوة لقمع المجتمع نفسه. من هنا مواجهة المويلحي للفكرة الشائعة الانتشار آنذاك عن أن "العمل في الحكومة" موجه أساسا "لخدمة المواطن ونفع الأمة" بفكرة مضادة تقول بأن من يريد خدمة "وطنه فليتخلص من قيود الحكومة ويخدمه وهو مطلق اليدين واسع التصرف"، وذلك لصعوبة التوفيق بين المحافظة على البقاء في المنصب والاستقلال في الرأي الذي يقتضيه مصلحة الوطن، كما يقول المويلحي. ولا يعني ذلك في الواقع سوى دفع فكرة الحرية إلى نتيجتها المنطقية، التي تفترض جوهرية التحرر بالنسبة للمجتمع وأفراده ككل. فالخروج من أحضان السلطة يعني تحررها من نفسية الاستبداد والمملوكية، ورميها في أحضان المجتمع الحر. لأن خدمة الوطن والدولة يفترضان تحرير الفرد والمجتمع على السواء. فقط كانت الحكومة آنذاك، المالك "الحر" الوحيد، بينما تفترض الحرية إطلاق أيدي الأفراد والمجتمع، باعتباره الأسلوب الحقيقي لخدمة الوطن. ولا يمكن تحقيق هذه الخدمة خارج الإبداع الحقيقي باعتباره حركة ذاتية تصنع أدبها الذاتي في التعامل مع النفس والآخرين. من هنا موقفه الجازم لصالح الانتماء للهوية العربية الإسلامية لمصر مقابل الهوية المصرية الفرعونية.

فقد كانت فكرة المصرية الفرعونية مبنية على أساس مشاهد وذكريات مثل مشاهدة العزة والفخر عما في آثار المصريين القدماء وآثارهم الماضية، وأنها شهادة العالم اجمع على ثمنها كما هو جلي في تهافت الغربيين على اقتناء كل ما فيها. كما تكشف تماثيلها الباقية مثل تمثال "شيخ البلد" وهو قطعة واحدة من خشب الجميز عن دقة صنعه وإتقان العمل فيه وما شابه ذلك من أدلة. في حين كان رد أولئك الذين أكدوا على الهوية العربية الإسلامية لمصر من أنهم لا يرون في هذه الآثار ما يفوق ما هو موجود في السوق من البضاعة الكاسدة. كما لا يجدون في هذه الأحجار والتماثيل أكثر من أنقاض بيوت عفا عليها الدهر. ثم أن أجدادنا ليس من هذه الرمم الفرعونية، بل من أولئك العرب أهل الدين والإسلام. وعوضا عن "شيخ البلد" يمكننا العثور يوميا على مائة شيخ من لحم ودم لا من خشب وحجر.

وعندما أورد المويلحي هذه المقارنة والمشاجرة الأدبية، فأنه لم يقصد بذلك الانتقاص من تاريخ مصر القديم ولا التقليل منه، بقدر ما أراد التأكيد على قيم الانتماء الواعي للمكونات الجوهرية في تاريخ مصر ووجودها المادي والمعنوي. انه أراد القول، بأن آثار مصر القديمة هي آثار بائدة، لها قيمتها وفاعليتها المندثرة في ما صنعه وكوّنه التاريخ العربي الإسلامي. فهو التاريخ الذي يحدد هوية مصر الحقيقية وطاقة وجودها المستقبلي. ووضع هذا الاستنتاج على لسان الصّديق، الذي رد على مضمون الجدل المذكور أعلاه بعبارة تقول:"أي نفع وفائدة للأمة المصرية الإسلامية أن تنشر بين يديها رمم الفراعنة في الانتيكخانه (متحف العالم القديم) وتقبر أرواح العلماء والحكماء في الكتبخانه (المكتبة). وأي الأمرين أعظم نفعا وأكثر ربحا أن يعرض على أعيننا تمثال ايبيس وصورة إيزيس وذراع رمسيس وفخذ امينوفيس، أو أن تتناول الأيدي كتاب للرازي ومقالة للفارابي وفصلا لابن رشد ورسالة للجاحظ وقصيدة لابن الرومي؟

لقد أراد المويلحي القول، بأن الأبعاد الإنسانية والمعنوية العميقة في مصر تكمن في إبداع الحضارة الإسلامية وما وضعته على لسان فلاسفتها ومتكلميها وأدبائها وشعرائها. فقد نطق هؤلاء بلسان أدبهم الذاتي. وهو السرّ الذي يمكنه أن يعيد لمصر عروبتها الإسلامية ويجدد وجودها، باعتباره الطريق الأمثل لتحررها الفعلي.

***

ا. د. ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم