صحيفة المثقف

قراءة في رواية (صيد الحمام) للكاتب علي جاسم شبيب

حيدر عبدالرضاالممكن والمحتمل في الأبعاد الزمكانية والشخوصية

توطئة: أن ما يميز مجال دلالات رواية (صيد الحمام) للروائي الراحل الأستاذ علي جاسم شبيب، هو ذلك الواقع البيئي في مقاربات زمن مجرى الحكاية الروائية، حيث يتخذ الروائي من خلالها وعبر سياق من المتداول السردي، مجالا متعلقا بفحوى صيغة الأبعاد الزمكانية الكامنة في محمول ومواقع الذوات الشخوصية، وهي في حالات أكثر تمسكا بمتصوراتها ومخططاتها المفترضة في ثنائية (الواقع ـ اللاواقع) ولأنها رواية مخصوصة بفئة الناشئة، نراها اتخذت من بيئة الحكاية النواتية الأولى هذه العناصر العاملية من الوحدات (التمثيل / التماثل / وجوب الفعل / الفاعل المنفذ) وسائطا لها في محمول الوظيفة السردية الروائية .

ـ المستوى الخارج والداخل من خطاب وزمن النص .

أن الزمن في رواية (صيد الحمام) يتجلى بموجب علاقة القابلية الشخوصية في محكي السارد والسرد، إذ نجد الشخصية المحور من خلال شواهد وجودها البيني، تتبين لنا متحكمة ومتصرفة في دقائقها وساعاتها، وصولا منها إلى محل حيواتها داخل أشد اللحظات انجذابا نحو ملامح الخارج من فعلها الذاتي: (زحفت جموع النمل، كبيرها وصغيرها وأحاطت به، تسلقت جسده، فشعر بقشعريرة برد غمرت كل أوصاله وأحس بأصابع قدميه متورمة، حركها فنزت رطوبة سالت في حفر الأصابع . حاول أن يبعد النمل الذي زحف ببطء وتجمع حول سرته، ورأى خراطيمها تحمل قطرات مدورة لامعة من الماء، تسكبه في سرته وتذهب لتأتي، مجموعة أخرى .. حاول تلمس سرته التي تيبست من برودة القطرات، ففز على شهقة عميقة أعقبها شخير عال . / ص7 الرواية) الوحدة المكانية والزمانية هنا تتشكلان مع مساحة صوت السارد، كواصلة علائقية ما بين المروي والمروى إليه، حيث تفرض تفاصيل شيئية محددة بأجواء زمكانية الفاعل الشخوصي، لذا فإن زحف مجاميع النمل على جسد الشخصية المحور، بمثابة الإشارة الدلالية الواصفة لبيئة وممكنات المساحة العمرية البالغة للشخصية الصبيانية الغارقة في تقطعات نومها . فيما تظل محددات الزمن الداخلي للمحور، كحالة استدعائية، وذلك عندما تقوم الشخصية بالحكي المخاطب إلى أمه عن مواقفه في الأحراش والمستنقعات الملحية: (دخل عليه حزنه القديم ووحدته في هذا البيت القصي، فقد كان يقضي كل الوقت فيه حتى عودة والدته، وكان يفض هذا الحزن بالمشي الطويل أو الركض على سطح الروف ويشم روائح أعشاب وأشجار الأحراش، وعندما يقترب من ضياء البحيرات الملحية يشم رائحة والدته . / ص8 ص9) ولا ينفصل الموت في الرواية، على أنه ذلك الحد من الوجود لحياة الشخصية مع أمه إلا ليعانق إطلاقة جديدة مع مفردات حياته في دار خالته، وهذه فرصة من الواقع المختلف للشخصية، تفتح له ذلك أسلوب المغاير في مجال أشد اللحظات مغامرة في حياته الصبيانية، ولكن مع ذلك تشده شفافية خاصة في علاقته مع بنت الخالة عيدة، بذلك النوع من التوافق والتسليم كليا نحو الاستجابة في أن يعيش فردا من أفراد أمومة الخالة: (لم يبق غير تلال الملح في الحجرة الطينية الصغيرة الملاصقة لحجرة والدته، فكل شيء أخذه الأقارب، وكانت المعزى تحرن في مشيتها وتسحبها أحدى النساء بحبل في رقبتها، فأخذ الحبل من المرأة وأطلقها تمشي وراء الخراف التي يقودها أحد أعمامه بعصا طويلة رفيعة من القصب / رجع وجلس تحت ظل شجرة التوت التي غمرتها أشعة الشمس فأضاءت ظلا ساكنا . كان ينظر إلى غرفة تلال الملح، التلال البيضاء، مخروطية القمة، تخرج من قماط مصنوع من قصب أصهب .. قام متباطئا ودخل الغرفة، كانت رائحة المستنقعات منتشرة ولسعته حرارة سقطت على ظهره . /ص 10 الرواية) أن فعل توظيف زمن الأحداث في الحكي، بدا أكثر إيغالا في مواطن وصف أدق اللحظات من مواقف الشخصية والحالات الأخرى من زمن المسرود النصي، لذا بدت تفاصيل المكون السردي ن وصفا بليغا نحو مواقف مسهبة من العرض والسرد .

ـ الشخصية المحور تشكيلا في طقوس الحكاية المحتملة .

يسعى الروائي جاسم شبيب، إلى خلق موازنة حاذقة ما بين ثنائية (الممكن ـ المحتمل) لاقتناص فرصة الربط ما بين داخل المشهد أو خارج المشهد من الواقع أو اللاواقع أو الزمن أو اللازمن، ولاشك إن أفعال المحور الشخصية الصبي ـ حمزة ـ في أشد اللحظات الحكائية مأساوية وذلك عند موت أمه، وحادت عيشه في منزل الخالة: (سمع صوتا من وراء الروف ينادي بإسمه، أنه صوت ـ عيدة ـ بنت خالته فأخفى فأسه وأهال عليها التراب ثم زحف مثل الخنفساء وصعد حدبة الروف باتجاه الصوت، لمح عيدة تشد رأسها بعصابة خضراء وهي تدور بجسمها في كل الاتجاهات وتصوت بصوت قوي سرعان ما تبتلعه طيات عتمة المساء التي هبطت . / ص12) .

1ـ تواتر الأحداث على الوعي الشخوصي:

تبقى أهمية زمن السارد في عرض تعاملات المحور الشخوصي، متعلقة بحالات اسقاطية نادرة، فالسارد يستأثر بفعل (تواتر الحدث) بموجب زمن الشخوص، لغرض إضاءة مناطق غير واضحة في دلالة وخاصية الإيحاء السردي، فما معنى ملازمة ـ العصابة ـ دائما على رأس الشخصية عيدة ؟ وما أسباب غياب والد حمزة، رغم علمه بموت الأم، وعيش الشخصية المخذول في منزل الخالة ؟ هناك حالات غير مكشوفة لا من جهة السارد ولا من جهة أفعال الشخصية في النص، كما ومسألة عدم الكشف عن أسم الشخصية والشخصيات الأخرى من قبل السارد، إلا في مراحل متأخرة من الرواية ن وذلك ما ينسحب أيضا على غرائبية سلوك زوج الخالة، ذلك الرجل المشغول في ركن قصي من الدار يدخن كثيرا: (استغربت عيدة وتساءلت: كيف يقضي يومه، لم تسأله وكانت خالته وزوجها مشغولين في أعمالهما ويعرفان أنه يذهب إلى بيوت أعمامه وعيدة تراه كل يوم يكبر وتطول قامته وينحف وجهه وتضمر خداه وصارت ملامحه قاسية، وكان لا يكلم أحدا ويجب بإشارات من رأسه أو بومضة من عينيه . / ص14) يمكننا القول بأن الرواية، جاءتنا متفاعلة وحدود سياق (المضمر) مما جعل واصلة أحداثها ببعضها وكأنها خصوصية ما في عوالم أدب الطقوس الخاصة بحيوات المتصوفة وأرباب تسخير الجن والأرواح، ويبقى التركيز الروائي ممتدا نحو علاقة حمزة بتلك البرية القاحلة التي تدعى ب (صيد الحمام) إذ نتعرف من خلالها على أحداث نستدرك من خلالها معرفة حمزة بشخصية شهاب الملقب بذو الشعر الطويل: (أنه جن المكان السر وتذكر أنه لم ير الحمام الكثير في هذا المكان مكان مهدم، خاو وفيه توابيت موتى .. وفكر بالولد المخيف، النحيل وشعره الكثيف .. كان يجلس في مغارته حيث وضع أبن عمته الزاودة وقربة الماء .. شرب ماء وأدلق منها على رأسه وأخرج الفأس ينقر بها أرض المغارة .. لقد هده الخوف فتوسد ذراعه ونام . / ص35 الرواية) لربما أراد الروائي من وراء أفعال الشخصية حمزة، اكتساب قابلية خاصة من التحرر لأزمته الفقدانية لوالدته، وهذا ما يفسر أيضا في الوقت نفسه، فرصة تعلقه لباطن حياة المغارة والعيش فيها لبعض الوقت من النهار مع ذلك الصبي الغريب المخيف، الذي يسكن منذ نعومة أظافره البراري والأحراش، ويمكننا أيضا أن نتعرف على دلالات مغامراته في غضون تطور علاقته بذلك الصبي نحو عمق الصحراء . ولا تكتف الرواية في جملة مشاهدها في تصوير دوائر حياة الشخصية حمزة والشخصية شهاب، بل تمتد إلى ذلك الراعي المدعى ـ عبعوب ـ وكيفية رحلة الثلاثة معا نحو مقام تلك السيدة العارفة في مستنقع الأهوار، طلبا لشفاء الشخصية شهاب من رائحة الأفعى الملازمة له على حد وصف الرواية في سياقها السردي .

ـ تعليق القراءة .

في الواقع حاولنا استعراض أهم خيوط الرواية الخاصة بنخبة الناشئة من التلقي ن ولكننا في الحقيقة وجدناها تتعدى حدود هذه التسمية، لأنها ببساطة تتمتع بمستويات وافرة من أدوات القص والفاعلية المتخيلة، التي تصب لذاتها في ممارسة النص أعلى وظائف ووظيفة الدلالات الروائية وبأمتيازية ملفتة . وتنتهي الرواية أخيرا نحو ذلك الشكل المضموني الخطي، إذ أن الروائي من خلالها غدا يكشف لنا تلك الصورة الفارقة التي من شأنها إظهار مدى التحول في سمات المغارة وأحوال القرية بعد عودة حمزة من رحلته وحيدا . ببساطة هيمنت على مساحات البرية ثمة آليات عديدة خاصة بحفر الآبار النفطية، وهذا الأمر ما جعل نوازع الشخصية تخترب من حجم هذا التغاير في علامات القرية: (وهرول وهو يعزف لحنا كأنه صادر من روح كانت متضايقة، محاصرة، وتسارعت أنفاسه مع خطواته، يفكر بالعصافير الكثيرة التي تعشعش الآن على شجرة التوت . / ص159) وللروائي أيضا رواية أخرى بعنوان (وردة الفرح) طبعت عام 2003 في جمهورية اليمن، وزيادة على كلامنا السابق نكرر القول بأن رواية (صيد الحمام) رواية ذات إيحاءات وصفية محكمة في أدوات رؤيتها الحاضنة لأسمى حالات المعنى التخييلي للأبعاد الحكائية المركزة في الأمكنة والشخوص والممكن والمحتمل من تفاصيل وشرائط الأنموذج الروائي الموفق بكافة تشكلاته الكامنة في المبنى والمعنى، وفي الختام نسأل الله الرحمة والمغفرة إلى روح الأديب الراحل الأستاذ علي جاسم شبيب، لأنه أتحفنا بما خلفه لنا من تراث روائي وقصصي رصين يختص بفئة الناشئة من القراء والقراءة .

 

حيدر عبد الرضا

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم