صحيفة المثقف

جرجي زيدان ولغة التاريخ والوجدان (2)

ميثم الجنابيالعقلانية واللاعقلانية في الفكر العربي الحديث (13)

التمدن والكينونة الثقافية العربية


أشار جرجي زيدان في تقديمه لتاريخ التمدن الإسلامي إلى أن "تاريخ الأمة الحقيقي إنما هو تاريخ تمدنها وحضارتها، وليس تاريخ فتوحها وحروبها"[1]. وهي فكرة منهجية نموذجية حاولت للمرة الأولى النظر إلى حقيقة التاريخ القومي بوصفه تاريخا ثقافيا. ووضع هذه الرؤية في تنوع تناوله لتاريخ التمدن العربي الإسلامي. أما الحصيلة التي يمكن التوصل إليها من خلال تتبعه لتاريخ التمدن الإسلامي فتقوم في تناوله لهذا التاريخ كما هو من حيث مقدماته ومختلف مظاهره كما هي. بمعنى أن فضيلته تكمن أساسا في تناوله للتاريخ باعتباره جزءا من معاناة فعلية وصراع متنوع الأشكال والمستويات. إضافة إلى تناوله إياه من خلال استعرض البنية الاجتماعية لتاريخ التمدن العربي الإسلامي. انه حاول إدخال الأبعاد الاجتماعية، أو الصيغة الفعلية لوجود المجتمع وفئاته وطبقاته في ميدان الرؤية التاريخية. وإذا كانت بنية الأبحاث التاريخية لجرجي زيدان متشابهة بما في ذلك من حيث مستوى ونوعية التحليل، أي اتسامها بالتوصيف والمقارنة، فإن ذلك دليل على وحدة الرؤية المنهجية والفكرية أيضا في الموقف من التاريخ الفعلي، أي تاريخ التمدن وأهميته بالنسبة للمعاصرة. وقد يكون اهتمامه بالقصة والرواية التاريخية كأسلوب لجعل التاريخ مكوّنا عقليا ومعايشته بمعايير الوجدان هو النموذج المتميز في مساهمته لرفع التاريخ إلى مستوى القيمة الجوهرية والفكرة الضرورية لوعي الذات القومي. إذ لم تكن القصة التاريخية بالنسبة لجرجي زيدان سوى أسلوب تقريب التاريخ إلى عقول وأفئدة الناشئة. الأمر الذي جعل منها في الوقت نفسه فكرة مستقبلية. لكنها مستقبلية محكومة برؤية تاريخية. وذلك لأن الشيء الجوهري في الرواية التاريخية لجرجي زيدان تقوم في استثارة نفسية وذهنية الارتباط بالتاريخ القومي والثقافي الذاتي. وما عدا ذلك جزئيات قابلة للأخذ والرد. وبالتالي فانه يستكمل هنا ويطور التقاليد الأولية المتراكمة عند رعيل النهضة الأدبية اللغوية الأولى. فقد كتب خليل الخوري (1836- 1907) روايته (وي! إذن لست إفرنجيا) وطبعها للمرة الأولى في  العدد 102، عام 1859 من (حديقة الأخبار). ونشر فرنسيس مراش (1835-1874) رواية (غابة الحق). وكلا الروايتان تتصفان بمواقف سياسية اجتماعية أخلاقية ولا يخلوان من نزوع أدبي وطوباوية وجدانية. أما الرواية التاريخية بالمعنى الدقيق للكلمة والتي سيسير بخطاها جرجي زيدان، فقد كتبها للمرة الأولى سليم البستاني (1846-1884) في كتابه (الهيام في جنان الشام)(1870) و(زنوبيا)(1871) و(فتوح الشام)(1874) ثم قصصه الأخرى مثل بُدُور، وأسماء، وبنت العصر، وفاتنة، وسلمى، وسامية. كما لو أنه يستثير في أسماء النساء وقصصهن الرجولة المفقودة في التاريخ العربي المعاصر له.

أما بالنسبة لجرجي زيدان، فإن الرواية التاريخية كانت عنده محبوكة ببواعث الفكرة التاريخية وأهميتها بالنسبة للوعي القومي والثقافي وفكرة النهضة. وبالتالي، فإن أسلوبها كان يصب في اتجاه ترميم التاريخ القومي وليس ترنيم أصوات الخيال المترنح بين الحاضر والماضي. من هنا قيمتها بالنسبة لتجديد وترسيخ قيمة الوعي التاريخي الذاتي والمشحون بفكرة المعاصرة والتجديد والتحرر. فمن حيث المظهر والنكهة الفنية والمحتوى التاريخي هي رواية الماضي. لكنه الماضي المتأثر بفكرة النهضة. من هنا سيرها بمعايير الرواية والحكاية وتأملها بمذاق الانتماء للتاريخ القومي والارتباط العقلي والوجداني به. الأمر الذي أعطى لها غاية أخرى. ولم يكن هذا بدوره معزولا عن شخصيته ومصيرها الذاتي. فقد لازم وعي الذات الفردي لجرجي زيدان وعيا ذاتيا تاريخيا، تماما بالقدر الذي لازم وعي الذات التاريخي همومه الفردية والاجتماعية والقومية. وكلاهما شيء واحد بالنسبة له، كما انه شيء واحد بالنسبة لمسار ما أسميته بإرساء أسس المناعة الثقافية لوعي الذات العربي. وليس مصادفة أن تكون حياته الناضجة بحد ذاتها رواية للتاريخ، ليست القصة سوى أحد مظاهرها. ووضع هذه الحصيلة في إحدى مقدماته النظرية المتعلقة بفهمه لهذا الفن وكيفية استعماله من خلال التوكيد على انه قد رأى "بالاختبار أن نشر التاريخ على أسلوب الرواية أفضل وسيلة لترغيب الناس في مطالعته والاستفادة منه"، وذلك لأنه كان يتوخى من وراء ذلك "أن يكون التاريخ حاكما على الرواية، لا هي عليه". والمنطلق في ذلك أن الرواية عند جرجي زيدان تعتمد على التاريخ ولكن من خلال الإتيان بحوادث إضافية تشويقا للمطالعين. فالروائي المؤرخ، كما يقول جرجي زيدان "لا يكفيه تقرير الحقيقة التاريخية الموجودة، وإنما يوضحها ويزيدها رونقا من آداب العصر وأخلاق أهله وعاداتهم حتى يخيل للقراء أنه عاصر أبطال الرواية وعاشرهم وشهد مجالسهم ومواكبها واحتفالاتهم... وذلك شأن الروائي بالنظر إلى التاريخ فهو يمثل تلك الأحوال أو يصور أشكالها وألوانها بالألفاظ من عند نفسه. فيوشح الحادثة التاريخية بخلاصة درسه الطويل في آداب القوم وعاداتهم وأخلاقهم والتفطن لأثار العواطف في مظاهرهم، مع بيان ما يحفّ بتلك الحادثة المعاصرة ويطابق وضعه نظام الاجتماع وأحوال العائلة. وإذا رجع المطالع إلى تحقيق الحوادث التاريخية على جمالها وجدها حقيقة ثابتة وذلك ما توخيناه في سائر رواياتنا"[2].

مما سبق يتضح بأن العناصر الجوهرية في فكرة الرواية التاريخية وأسلوبها بالنسبة لجرجي زيدان تقوم في تضافر فكرتين جوهرتين بهذا الصدد وهما نشر التاريخ على أسلوب الرواية، باعتباره أفضل وسيلة لترغيب الناس في مطالعته والاستفادة منه، وأن يكون التاريخ حاكما على الرواية، لا هي عليه. ذلك يعني أن بداية ونهاية الرواية هي تاريخ، وأن الفكرة التاريخية هي الغاية النهائية، وليست القصة سوى أسلوب التشويق فقط. ولا يعني ذلك في الواقع سوى أن ميدان ومصدر إدراك الهموم الكبرى والصغرى لوجود البشر هو التاريخ. مع ما ترتب عليه من تلقائية تأسيس وتوسيع مدى الفكرة القائلة، بأن الارتباط العقلي والوجداني بالتاريخ هي المقدمة الضرورية لوعي الذات القومي والثقافي، ومن ثم المقدمة الضرورية للنهضة. وقد حصل هذا التوسع على مداه الكمي والنوعي في مجرى كتابته للرواية التي لازمت حياته الناضجة على امتداد ربع قرن من الزمن. وانتهت بانتهائها. الأمر الذي يؤشر على الارتباط العضوي التام بين حياته وروايته للقصة بوصفها تاريخا فعليا ومغامرة إنسانية بكافة أبعادها ومستوياتها، والتاريخ بوصفه قصة (الأمة). فقد كتب اثنتين وعشرين رواية تاريخية تشمل كل تاريخ العرب (والإسلام) بدأها عام 1891 وانتهى بها عام 1914، أي عام وفاته وهي (المملوك الشارد، وفتاة غسان، وأرمانوسة المصرية، وعذراء قريش، و17 رمضان، وغادة كربلاء، والحجاج بن يوسف، وفتح الأندلس، وشارل وعبد الرحمن، وأبو مسلم الخراساني، والعباسة أخت الرشيد، والأمين والمأمون، وعروس فرغانة، وأحمد بن طولون، وعبد الرحمن الناصر، وفتاة القيروان، وصلاح الدين الأيوبي، والانقلاب العثماني، وأسير المتمهدي، واستبداد المماليك، وجهاد المحبين، وشجرة الدر)[3]. وتشمل هذه الروايات بقدر واحد على الاهتمام بالامتداد التاريخي للعالم العربي، من هنا الاهتمام المتزايد بمصادرها، أو بإدراج المؤلفات التاريخية بوصفها مراجعا للقصة. إذ نراه يجعل من كتابه تاريخ التمدن الإسلامي، والعقد الفريد لابن عبد ربه، وتاريخ ابن الأثير، وتاريخ أبي الفداء، وسير الملوك، ومعجم ياقوت الحموي، وتاريخ اليعقوبي، وكتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني، ومروج الذهب للمسعودي مراجعا لقصة (الأمين والمأمون)[4]. بينما يضع في أساس قصة (الحجاج بن يوسف الثقفي) مراجع إضافية لما سبق مثل صفوة الصفوة لابن الجوزي، والبيان والتبيين للجاحظ، والمستطرف للابشيهي، ومقدمة ابن خلدون، وسيرة ابن هشام، وكتاب أسد الغابة، ووفيات الأعيان لابن خلكان[5]. في حين تشكل المصادر الإضافية التالية مثل تاريخ الطبري، ونفح الطيب، وديوان أبي نؤاس، وسراج الملوك مصادرا لرواية (العباسة أخت الرشيد)[6]. أما قصة (شجرة الدر) فتعتمد على مصادر إضافية مثل حسن المحاضرة للأسيوطي، وتاريخ ابن إياس، والمجلد التاسع عشر من مجلة الهلال، وتاريخ الفخري، وسيرة الملوك، ورحلة ابن جبير، وتاريخ مصر الحديث لجرجي زيدان نفسه[7]. كما نراه يدرج مؤلفات جديدة مثل تاريخ المقريزي، وطبقات الأطباء لابن أبي اصيبعة، وتاريخ الدولة السلجوقية، وتاريخ مصر الحديث في قصة (صلاح الدين الأيوبي)[8]. بينما يدرج في قصة (عبد الرحمن الناصر) مصادر أخرى مثل الأحكام السلطانية وكتاب الأمالي وكتاب الحوشي[9]. أما في (عذراء قريش) فيدخل كتاب السيرة الحلبية، وقاموس الإسلام، وصفوة الاعتبار، ونهج البلاغة[10]. في حين يدرج في قصة (غادة كربلاء) الانسيكلوبيديا البريطانية، وكتاب الإرشاد، وحكاية عاشوراء[11]. أما في (فتح القيروان) فيضيف كتاب تاريخ المقدس[12].

إننا نقف هنا أمام توسيع وتنويع للرؤية التاريخية تكشف بدورها عن إدراكه لأهمية توسيع وتنويع الارتباط الوجداني والعقلي بالتاريخ القومي. إذ لا يعني توسيع استعمال وإدراج المؤلفات التاريخية في حبكة الرواية سوى توسيع المدى النظري والتراثي والفكري والعلمي في الموقف من التاريخ القومي. وهذا بدوره ليس إلا إحدى الصيغ النموذجية لدمج التاريخ وأحداثه في تذوق المعاصرة من اجل استثارة الفكرة التاريخية نفسها. بمعنى الارتقاء من حالة النظر إلى التاريخ على انه سلسلة أحداث وحوادث وشخصيات إلى مستوى الرؤية النظرية الثقافية، كما نجدها في تحول اهتمامه بالتاريخ صوب الاهتمام بتاريخ التمدن. وقد كان منهجه هنا يقوم في النظر بصورة نقدية وجديدة للتاريخ العربي الإسلامي من خلال توظيف الكلّ المبدع للتراث في مختلف الميادين من اجل تركيب ورسم ملامح الصورة الحية والفعلية للتمدن. مع ما فيها من أبعاد كامنة سوف تظهر لاحقا بالنسبة لترسيخ قيم وعي الذات النقدي والقومي الحضاري. واستند في توسع مدى منهجه النقدي العقلي إلى كتب التاريخ والعقائد والأدب والفقه والسياسة والجغرافيا والتاريخ والحديث والتفسير والمعاجم وكتب السير والطبقات. كما استند أيضا إلى كتب المستشرقين الكبار في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية والرومانية والبيزنطية. ليس هذا فحسب، بل وربط كل ذلك بالموقف الشخصي للباحث ورجل العلم، عندما جعل من "الكاتب العام خادم الأمة وولي إرشادها. وعليه أن يبذل الجهد في سبيل مصلحتها"[13]. ومن اجل بلوغ ذلك وضع جرجي زيدان شروط ثلاثة كبرى وهي أولا اختيار الموضوع الذي الأمة في حاجة إليه، ثانيا أن يسكبه في قالب يسهل تناوله، ثالثا، أن يتوخى صدق اللهجة والصراحة بلا انحياز إلى طائفة أو حزب[14]. ووضع هذه الشروط في أساس تناوله فكرة التمدن. إذ وجد فيها الحاجة الكبرى للعالم العربي، من صياغته إياها بمعايير العصر العلمية والأدبية بحيث تكون واضحة جلية لحاجتها الكبرى. أما صدق اللهجة والصراحة فتعني العمل بمعايير الاهتمام بالحقائق كما هي وليس بالألفاظ المبجلة لأوهام العقائد والمذاهب والتقديس.

وانطلق بذلك من تحديد فكرة التمدن. والمقصود بها بالنسبة لجرجي زيدان هو كل ما بلغته الأمة من سعة الملك والثروة والعظمة وما رافق ذلك من نتائج. ويدخل فيه إبداعها الثقافي والعلمي والروحي في مختلف الميادين وأثره على الهيئة الاجتماعية. ويستحيل إدراك حقيقة كل ذلك دون دراسة مقدماته الخاصة. ووضع هذه المقدمة المنهجية في أساس ترابط ووحدة التاريخ العربي وتمدنه. بمعنى النظر إلى تاريخ العرب قبل الإسلام على أنه المقدمة المنفية أو الذائبة في وعي وقيم ومشاعر وحدس الأمة التي نهضت مرة أخرى في عصر الإسلام. لهذا نراه ينطلق من التاريخ العربي نفسه (الجاهلي) ومن خلاله الكشف عن طبيعة التغير والتبدل والنمو الحضاري العربي[15]. ولم يكن هذا الأسلوب بدوره سوى الصيغة التطبيقية للموقف المنهجي الأعم القائل، بأن التمدن ظاهرة تاريخية. وكل حضارة تأخذ ممن قبلها. وتحتاج إلى قرون لظهور خصوصيتها كما هو الحال في تجارب اليونان والرومان والفرس. جمعهم اخذوا من حضارات مصر ووادي الرافدين، أي من أسلاف العرب.

من هنا نقده المتجانس للفكرة القائلة، بأن العرب ليس لهم تاريخا مدنيا خاصا بهم، وأن ما قاموا به هو مجرد بناء على أنقاض البيزنطي والفارسي. واعتبر هذه الفكرة حكما لا علاقة له بالتاريخ الفعلي[16]. ووضع نقده هذا على أساس إعادة استقراء التاريخ بمعاييره الخاصة. من هنا توصله إلى أن للعرب تراث تاريخي وثقافي هائل. ويربطه جرجي زيدان بالحضارة البابلية، باعتبارها حضارة عربية ما قبل إسلامية، كما هو جلي في كتابه (العرب قبل الإسلام). فالعرب القدماء (البائدة) هم عرب عاد وثمود، والعرب الباقية هم عرب القحطانية (اليمن) والعدنانية (الحجاز). فالعمالقة وعاد وثمود والأنباط وتدمر كلهم عرب، وورثة واستمرار للحمورابيين[17]. بل أن التاريخ الثقافي للكلدانيين والآشوريين والحبشيين والعبرانيين والعرب واحد آنذاك. لهذا لم يكونوا بحاجة إلى ترجمان[18]. كما أن الدليل الواقعي على ذلك هو تكامل الحضارة العربية (الإسلامية) في مجرى قرن واحد. ولا تفسير لذلك غير تاريخهم العريق في التمدن[19]. فالحضارات الأخرى لا تتكامل إلا في مجرى قرون عديدة، والكبيرة منها في مجرى آلاف السنوات. وجعل من هذه المقدمة الفكرية النظرية أساسا لتناول تاريخ العرب قبل الإسلام، ومقارنته بإبداع الأمم الأخرى. وليس مصادفة أن يعمل جرجي زيدان من اجل إبراز طبيعة ومستوى الثقافة العربية قبل الإسلام في ميدان اللغة والشعر والخطابة ومختلف العلوم العملية، وأن يتطرق إلى مجالس الأدب وسوق عكاظ والاهتمام بالأنساب وما شابه ذلك[20]. وإذا كانت مرحلة الإسلام قد أهملت "علوم" معينة كالعرافة والكهانة، فأنه جرى تطوير البقية الباقية. بل أن القرآن بنظر جرجي زيدان أكثر من اهتم بتقاليد العرب القدماء في مجال اللغة والفصاحة والبلاغة. وبالتالي، فأنه ساهم أيضا بتطوير اللغة والشعر[21]. ذلك يعني، أن تطور العلوم في المرحلة الإسلامية هو استمرار وتراكم للثقافة العربية الجاهلية والعربية الإسلامية و"العلوم الدخيلة"، أي تلك التي جرى الاهتمام بها بوصفها جزء من ثقافة عالمية تاريخية كالفلسفة والطب والهندسة والعلوم الطبيعية الأخرى[22].

لقد أدى هذا الموقف أو هذه المنهجية بجرجي زيدان إلى أن يعتبر "تاريخ الإسلام من أهم التواريخ العامة، لأنه يتضمن تاريخ العالم المتمدن في العصور الوسطى"[23]، وأنه "حلقة موصلة بين التاريخ القديم والحديث"[24]، و"إليه أو فيه انتهى تاريخ التمدن القديم، ومنه أشرق التمدن الحديث"[25]. بعبارة أخرى، لقد أراد جرجي زيدان أن يجعل من التاريخ سلسلة واحدة، بوصفها تاريخا للتمدن، أي للثقافة والحضارة. ومن ثم فأن التاريخ العربي كلا واحدا. لهذا نراه يربط بين العرب والإسلام ربطا عضويا بوصفه فعلا تاريخيا. فمن جهة نراه يربط انتصار العرب الخارجي بالإسلام، ويعتبر كل ما عداه عوامل إضافية وهي عديدة[26]. ومن جهة أخرى، يؤكد على أن إهمال دور العرب وأثرهم الفاعل بهذا الصدد وخلو الكتب الإسلامية من هذه الإشارة إنما جاء بعد التمدن الإسلامي، بمعنى رفع فكرة الإسلام عن وحدة الأمة إلى مصاف الفكرة المتسامية، مع ما رافقه من خروج على واقعية الأحداث ومسارها الأول، ومن ثم أرادوا تحرير الخلفاء الأوائل من هذا الفعل[27].

غير أن ذلك لا يقلل من عمق ورسوخ الفكرة التاريخية عند العرب. بل نراه يشدد في أكثر من مكان على أن خصوصية الثقافة العربية (والإسلامية) تقوم في توسع رؤيتها التاريخية. فالاهتمام بالتاريخ من بين سماتها الكبرى. واستطاع جرجي زيدان إحصاء حوالي  1300 كتاب في التاريخ. لكن عيوبها تقوم في كونها تنقل وتدّون، مع بعض الاستثناءات القليلة والمهمة مثل ابن خلدون وغيره ممن ووضع علم التاريخ بالمعنى الدقيق[28]. وبغض النظر عن فقدان جملة من الأحكام العامة والخاصة بهذا الصدد عند جرجي زيدان، إلا أن مضمونها يسير باتجاه القول، بأنه إذا كانت بعض السمات الثقافة العربية الإسلامية وأصالتها تكمن في اهتمامها الكبير والجوهري بالتاريخ، فإن الاستمرار به ضمن معايير العصر الحديث ومتطلباته تعني الاستمرار بنفس التقاليد، أي نفس تقاليد النهضة الأولى. من هنا نراه يتتبع تاريخ تطور مختلف القضايا المتعلق بالتمدن العربي الإسلامي مثل قضايا القرآن والحديث والجمع والكتابة وما شابه ذلك بوصفها جزء من عملية ثقافية كبرى لعب فيها القرآن دورا هائلا. كما نراه يتناول تاريخ الفقه والفقهاء ومنزلة العلم والعلماء في الخلافة، والأدب والأدباء والبلاغة والإنشاء والكتب والمكتبات، وعلم التاريخ والجغرافيا. وغايته النهائية من وراء وضع هذا الكتاب هو إدراكه لافتقار قراء العربية بمختلف مشاربهم وميولهم إلى "نشر هذا التاريخ بينهم". فهو ليس فقط "تاريخ لسانهم وأمتهم وبلادهم" فحسب، بل و"تاريخ تمدنهم وآدابهم وعاداتهم"[29].

إننا نقف هنا أمام رؤية تؤسس لما يمكن دعوته بالانتقال من تاريخ الأمة والدولة إلى تاريخ إبداعها الروحي (الثقافي)، أي أمام انتقال حي وفعال من التاريخ الظاهر إلى التاريخ الباطن، ومن الجسد إلى الروح، ومن الإحساس إلى العقل عبر توحيدهما جميعا. بمعنى دفع مسار تحصين الأركان وانعتاق الوجدان صوب الرؤية القومية الثقافية.

 

ا. د. ميثم الجنابي – باحث ومفكر

.................................................

[1] جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي، ج1، ص8.

[2] جرجي زيدان: مقدمة رواية الحجاج بن يوسف الثقفي، القاهرة.

[3] وضمن هذا السياق يمكن الإشارة إلى نقاط الخلل الجوهرية في الكتب والمقالات العديدة التي جعلت من نقدها اتهاما، ومن اتهامها نقدا لشخصية جرجي زيدان وأسلوبه في الكتابة ومواقفه واستنتاجاته. ومن بين هذه النماذج تجدر الإشارة إلى كتاب أمين بن حسن الحلواني (نبش الهذيان من تاريخ جرجي زيدان) الذي تولى فيه "كشف زيفه" وتخطئته في مائة خطأ وخطأ. إضافة لذلك جرى تحديد مواقع "الخطأ" في كتابه على أنها افتراء وتزييف لتاريخ الإسلام، وانه استتر على ذلك بلباس العروبة. وضمن نفس السياق جرى كتاب الشيخ الهندي شبلي النعماني في موقفه من كتاب (تاريخ التمدن الإسلامي). حيث حاول "تفنيد أخطاءه وكشف انحرافاته، وإبانة تزويره وتلبيساته". أما رواياته فقد كان لها النصيب الأكبر من النقد والتفنيد والتشهير والاتهام. وفيما لو جرى تلخيص كل ما كتب ضمن هذا النوع والسياق من المؤلفات والأبحاث، فمن الممكن اختصارها بعبارة واحدة مفادها، أن جرجي زيدان قد شوّه تاريخ الإسلام والعرب وشخصياته الكبرى بدأ بالنبي محمد ومرورا بعمرو بن العاص وعثمان وعلي وعائشة وخلفاء بني أمية وطارق بن زياد وموسى بن نصير وعبد الرحمن الغافقي والمنصور والرشيد والمأمون والمعتصم واحمد بن طولون وعبد الرحمن الناصر والظاهر بيبرس وصلاح الدين الأيوبي، باختصار كل شخصيات رواياته بدون استثناء! أما في تناوله لأحداث التاريخ الإسلامي، فانه أثار الشكوك حولها بحيث جعل من هذا التاريخ مجرد سلب ونهب وفتك وبطش وظلم. وهذا بدوره ليس إلا الاستدلال بجزئية واحدة على أمور كلية. ومن ثم يتناقض مع المنطق والتاريخ الفعلي. بل أن موقفه من العرب يتسم بالتشهير والإساءة. إضافة إلى إثارته الأحقاد بين السنة والشيعة. كما أثار غريزة الشباب، وعوّد الناس تصديق الخرافة والخيال. وقد تكون مواقف أنور الجندي في تحليله ونقده لروايات جرجي زيدان احد النماذج الكلاسيكية الكبرى بهذا الصدد. فقد قدم ملاحظات نقدية عديدة، يمكن إدراجها جميعا ضمن فكرة التشويش والتشويه والدس على التاريخ العربي والإسلامي وشخصياته الكبرى. طبعا لا تخلو روايات جرجي زيدان وكتاباته التاريخية من أخطاء عديدة وسوء فهم في المواقف والتحليل والأحكام، إلا أنها جزء من تاريخ الاجتهاد الشخصي والمعرفي. وبمجموعها هي جزء من فضيلة الرؤية النقدية والعلمية. أما الاتهامات العقائدية والسياسية والشخصية فلا تتعدى كونها اتهامات باطلة لا نصيب لها من الصحة بمعايير التاريخ والعلم. كما أنها تتناقض بصورة جوهرية وجذرية مع حقيقة مواقفه الشخصية العلمية والعملية من التاريخ العربي القومي والثقافي على السواء. فقد كان جرجي زيدان ممثلا نموذجيا للفكرة التاريخية القومية العربية والثقافية الحديثة ومدافعا غيورا ومتجانسا عنها.

[4] جرجي زيدان: الأمين والمأمون (المكتبة الأدبية – بيروت، ب.ت).

[5] جرجي زيدان: الحجاج بن يوسف (دار الجيل، ط2).

[6] جرجي زيدان: العباسة أخت الرشيد (دار الهلال،1984).

[7] جرجي زيدان: شجرة الدر (دار الجيل، بيروت، ط2).

[8] جرجي زيدان: صلاح الدين الأيوبي (دار الجيل – بيروت ط2).

[9] جرجي زيدان: عبد الرحمن الناصر (الهلال، 1984).

[10] جرجي زيدان: عذراء قريش (دار الجيل- بيروت، ط2).

[11] جرجي زيدان: غادة كربلاء (دار الجيل – بيروت ط2).

[12] جرجي زيدان: فتح القيروان (الهلال 1984) .

[13] جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية، مصر ، دار الهلال، (ب.ت)، ج2، ص5.

[14] جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية، ج2، ص5.

[15] جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي،ج1، ص13.

[16] جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي ج1، ص15.

[17] جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي، ج1، ص.

[18] جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي ج1، ص16-17.

[19] جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي ج1، ص21-23.

[20] جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي ج3، ص9-39.

[21] جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي ج3، ص39.

[22] جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي ج3، ص40.

[23] جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي، ج1، ص7.

[24] جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي،ج1، ص7.

[25] جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي،ج1، ص7.

[26] جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي ج1ص 62-67.

[27] جرجي زيدان، تاريخ التمدن الإسلامي ،ج3، ص47.

[28] جرجي زيدان، تاريخ التمدن الإسلامي ج3، 109.

[29] جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي،ج1، ص7.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم