صحيفة المثقف

جرجي زيدان ولغة التاريخ والوجدان (3)

ميثم الجنابيالعقلانية واللاعقلانية في الفكر العربي الحديث (14)

اللغة العربية وكينونتها الثقافية

لقد سعى جرجي زيدان إلى تأسيس ما يمكن دعوته بفكرة الانتقال من تاريخ الأمة والدولة إلى تاريخ إبداعها الروحي (الثقافي)، أي أمام انتقال حي وفعال من التاريخ الظاهر إلى التاريخ الباطن، ومن الجسد إلى الروح، ومن الإحساس إلى العقل عبر توحيدهما جميعا. بمعنى دفع مسار تحصين الأركان وانعتاق الوجدان صوب الرؤية القومية الثقافية.

ونعثر على ذلك فيما يمكن دعوته بموازاة انتقال فكره وتفكيره وهمومه من التاريخ إلى التاريخ العربي الانتقال بالموقف من اللغة إلى اللغة العربية. وليس هذا بدوره سوى الارتقاء بالفكرة والتفكير من المجرد إلى الملموس، ومن التاريخي إلى الثقافي. إذ لا يعني الانتقال من دراسة اللغة إلى اللغة العربية سوى الوجه الآخر أو المكمل للانتقال من دراسة وتأمل التاريخ إلى التاريخ القومي. فقد كتب جرجي زيدان كتاب (الفلسفة اللغوية) للمرة الأولى عام 1886. ثم طوره لاحقا في كتاب (اللغة العربية كائن حي). واكتشف في مجرى تأملاته الأولى عن إدراك القيمة العلمية والأدبية لهذا الصنف من التأليف. وكتب بهذا الصدد يقول بأنه يرفع هذه الدراسة إلى أهل النظر والتحقيق لينظروا فيها. والهدف من وراء ذلك هو "فائدة أدبية لعموم أفراد الهيئة التي هم بينها"[1]. لكننا نراه يستغرب بسرعة متوازية مع سرعة نفاذ الطبعة الأولى. فقد كان يعتقد في البدء، بأن هذا الموضوع من البحث الفلسفي الجديد "لا يرتاح إليه إلا فئة قليلة من خاصة الأدباء، وذوي الإطلاع ممن يلتذون بالأبحاث العقلية الفلسفية". لكن تخوفه السابق يضمحل ويتلاشى مقابل رؤيته "تكاثر أهل الخاصة"، أي المثقفين، بأثر نفاذ الطبعة الأولى[2]. أما في الواقع، فإننا نقف هنا أمام ظاهرة تقول، بأن الوعي الاجتماعي والنظري كان مستعدا أو متلهفا لهذا الموضوع، بوصفه موضوعا تاريخيا قوميا ثقافيا. وليست تأملات وأفكار وتفكير واستنتاجات جرجي زيدان بهذا الصدد سوى التعبير العلمي عن هذه الاستعداد.

انطلق جرجي زيدان من تصوره عن اللغة بوصفها "أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم. وقد تعددت أنواع الأصوات وطرق التعبير بتعدد الأمم واختلاف أصواتها"[3]. وضع هذا المقدمة في فكرته القائلة، بأن اللغة مكتسبة واصطلاحية. وبالتالي، فأنها ليست ضرورية وليست توفيقية، وذلك لأنها تحصل بالاكتساب وأنها ليست ثابتة. فاللغة تتبدل وتتطور[4]. وارجع هذا التبدل والتطور على أساس تأمله لتاريخ اللغات، أو ما اسماه بمبدأ نشوئها وارتقائها إلى ما في الإنسان من موهبة التقليد. إذ اعتبر "التقليد أساس اللغة وأصل نشأتها ومدار ارتقائها"[5]. فإذا كان "ناموس الارتقاء هو من صفات الأجسام الحية" كما يقول جرجي زيدان، فإن اللغة العربية تعرضت هي الأخرى لتطور خاص بها. حيث مرّت حسب تصور زيدان بثلاث مراحل كبرى وهي العصر الجاهلي، وعصر الإسلام، وعصر النهضة الحديثة. كما أنها في بداية الأمر ونهاية المطاف جزء من تقاليد اللغات السامية. لاسيما وأن اللغة (اللغات) السامية هي لغة التمدن الأول. فقد نشأ التمدن بين المتكلمين بالسامية كالبابليين والآشوريين والفينيقيين. فللغة العربية يرجع الفضل في ارتقاء شأن اللغات السامية عموما. وذلك لأن "اللغة العربية تعد من أرقى اللغات بيانا، وأوسعها نطاقا، وأغناها ألفاظا، وأدقها تعبيرا". ووضع استنتاجه هذا على أساس رؤيته لأقسام اللغات السامية وتطورها وأثرها. فالقسم الأول يحتوي على الآرامية التي تنقسم بدورها إلى السريانية والكلدانية. أما البابلية فقد دعيت أول الأمر أرامية (سفر دانيال) ثم اعتبرت كلدانية ثم سريانية (الكتاب المقدس)، بينما هي في الواقع لغة واحدة. أما القسم الثاني (العبرانية)، فقد حفظت التاريخ القديم (الأسطوري). غير أن ما يتكلم به بني إسرائيل اليوم هو ليس العبرانية صرفا.

أما القسم الثالث (العربية)، فإن منشأها مرتبط بتاريخ وتقاليد الساميين الذين كانوا "يقطنون في البداية ما بين النهرين. ثم هاجر بعضهم والقسم الآخر هاجر للجزيرة"(!). ومع توالي الأزمان تنوعت لغتهم الأصلية "تبعا لناموس الارتقاء فتولدت اللغة العربية والأمة العربية"[6]، بوصفها لغة جامعة لتاريخ الساميين الثقافي. فاللغة العربية، كما يقول جرجي زيدان، هي إحدى اللغات السامية وأرقاها مبنى ومعنى واشتقاقا وتركيبا، وأرقى لغات العالم[7]. وكتب بهذا الصدد أيضا يقول، بأن "العربية من أغنى لغات الأرض بالألفاظ العمرانية والسياسية... أنها مليئة بالمترادفات وكثرة الأوصاف والأسماء. كما تمتاز بدقة التعبير. إذ فيها لكل معنى لفظ خاص"[8]. كما وجد فيها "أغنى اللغات في الألفاظ المعبرة عن المعاني المجردة وانفعالات العواطف. ففيها لأنواع الحب نحو عشرة ألفاظ، ومثلها للبغض والحسد والطمع، أي لمختلف مظاهر النفس البشرية"، وفيها أيضا "مزيدات الأفعال" مثل قولنا تقاتلوا وتقاضوا وما شابه ذلك، وكذلك تميزها بالإعجاز والإيجاز وذلك لأنها لغة شعرية كثيرة الكنايات والإشارات يسهل فيها التعمية والألغاز[9]. وإذا كانت في بداية أمرها محصورة في جزيرة العرب، فإنها بفضل الإسلام تحولت إلى لغة موحدة وعالمية. إذ "لولا القرآن لتعددت فروعها قياسا على سواها" كما يقول جرجي زيدان[10].

إننا نعثر في هذه الرؤية على نمو الفكرة صوب الرؤية القومية ثم الثقافية. وهو تدرج أو ارتقاء يعكس مسار الرؤية التاريخية والعلمية بقدر واحد. من هنا توسع جرجي زيدان في الكشف عن اثر الإسلام (كدين ورؤية وفلسفة وثقافة وتاريخ) في بلورة معالم اللغة العربية والفكرة القومية بحد ذاتها كما نجدها في تأريخه لآداب اللغة العربية، أي لحصيلة إبداعهم النظري والمعرفي والثقافي والروحي. من هنا فكرنه عن كون الإسلام جمع العرب على مبادئ جديدة. وذلل نزعات التجزئة والاحتراب الداخلي والعصبية. وإذا كان ذلك قد أدى إلى إضعاف الشعر في البداية لما فيه من تقاليد القبلية، فانه بالمقابل انشأ وطوّر تقاليد النثر بمختلف أصنافه والخطابة بشكل خاص[11]. لقد وجد جرجي زيدان في "ظهور الإسلام انقلابا دينيا سياسيا اجتماعيا". وشأن كل انقلاب من هذا القبيل، كان لابد له من أن يخلف آثارا في نفوس أصحابه وعقولهم. والتغير الذي أحدثه الإسلام يرجع إلى ثلاثة أوجه وهي انه أبطل بعض تلك الآداب، وغيّر أنواع أخرى، وأحدث آدابا جديدة[12].

إن الارتقاء بالموقف من اللغة العربية (القومية) كان يحمل في أعماقه ارتقاء بالرؤية العلمية، مع ما يلازمه بالضرورة من توفيق بينهما يجعل من الفكرة الثقافية القومية اشد تجانسا من حيث مقدماتها وأساليبها وغايتها. بمعنى أخرجها من تقاليد الانغلاق العقائدي والديني والأيديولوجي. ومن ثم تحريرها من إسار اللاهوت صوب فضاء الحرية الحقيقية بوصفها ارتقاء بالنفس والعقل والروح. من هنا فاعلية واستجابة نظرية النشوء والارتقاء الطبيعي في موقف زيدان من اللغة بشكل عام والعربية بشكل خاص. فنراه يؤكد على أن موضوع البحث الذي يقدمه بصدد كيفية نشوء اللغة وتطورها، يخضع "لناموس الارتقاء العام"[13]. ومن ثم فأن "الكلام في ذلك كله مؤيد بالنواميس الطبيعية ومسند إلى عوامل لا تزال عاملة في لغتنا إلى هذا اليوم"[14]. وليس مصادفة أن تظهر في كتابه الأول (الفلسفة اللغوية) عبارة "اللغة بوصفها كائنا حيا". وكلما توسع فيها كلما اقتربت من أسسها الخاصة. لهذا نراه لاحقا يضعها في عنوان كتابه الموسع بهذا الصدد (اللغة كائن حي). ففي (الفلسفة اللغوية) نراه يكتب عن "تاريخ اللغة العربية باعتبار أنها كائن حي نام خاضع لقانون الارتقاء العام"[15]. بينما في كتاب (اللغة كائن حي) نراه يطبقها على العربية، وعبرها على تاريخ الأمة الثقافي. ولا يعني ذلك سوى تحول الموقف العلمي إلى فكرة فلسفية ثقافية سياسية. لهذا نراه يكتب في كتاب (اللغة كائن حي) قائلا، بأن "حياة الأمة مثل حياة الفرد، بل هي ظاهرة فيها أكثر من ظهورها فيه. لأن الأمة إنما تحيا بدثور القديم وتولد الجديد. فكأن أفراد الأمة خلايا يتألف منها بدن الأمة، وهو يتجدد في قرن كما يتجدد جسم الإنسان في عقد من عقود تلك القرون"[16]. واستتبع ذلك باستنتاج أوسع وأدق يقول، بأن "اللغة تعد من ظواهر حياة الأمة. وهي خاضعة لناموس النمو والتجدد، ولناموس الارتقاء العام". ولكل من هذه الظواهر تاريخ فلسفي طويل[17].

بعبارة أخرى، لقد أراد زيدان القول، بأن النشوء الطبيعي والارتقاء الطبيعي يحتوي أيضا على معالم الموت. ويحدث ذلك حالما تنقطع اللغة عن جذور الحياة النابضة. من هنا موقفه النقدي تجاه تخلف اللغة وجمودها. وليس مصادفة أن يجد في السجع احد اشد ملامح الانحطاط بسبب هيمنته التامة على الحفظ واللفظ بحيث يجعل منهما مصدر العبارة والفكرة. لهذا نراه يعتبر الإفراط في السجع مظهرا فاقعا من مظاهر تخلف اللغة وصدرا من مصادر استمرار انحطاطها. وذلك لأنه يؤدي إلى أن يبحث المرء عما يلي من كلمة أو عبارة تؤدي أو تستجيب لمتطلبات السمع وليس الفكرة. مع انه اعتبر السجع جميل أن كان بدون تكلف. لكنه حالما نظر إلى القضية ضمن سياقها التاريخي وفكرته التاريخية، فانه ربط ذروة تخلف اللغة العربية بفقدان التاريخ السياسي والقومي المستقل. لهذا نراه يربط هذه الحالة بمرحلة سيطرة المماليك. فالألفاظ التي دخلت على العربية هي ألفاظ إدارية متعلقة بالحكومة. واغلبها فارسية أو تركية مثل الاستادار وتعني من له صلة بمال السلطان، والجوكاندار وتعني من يحمل الجوكان مع السلطان في لعب الكرة، والطيردار وتعني من يحمل الطير وما شابه ذلك. وجميع هذه الكلمات اضمحلت وتلاشت واندثرت. ذلك يعني أن الركاكة بلغت منتهاها في أول القرن الثامن عشر. أما النموذج الأكثر جلاء لبيان انعدام البيان وتفشي الركاكة فقد وجده في كتابات الجبرتي.

إن دراسة اللغة بمعايير فكرة الارتقاء والتطور ووضعها في أساس الموقف النقدي من حالة الانحطاط ليست إلا المقدمة النظرية التي كانت تهدف، كما كان الحال بالنسبة لانتقاله من دراسة التاريخ إلى التاريخ القومي، إلى كشف نموذجها الثقافي العام. وهذا بدوره لم يكن غير آداب اللغة العربية. ذلك يعني أن الاهتمام بآداب اللغة العربية هي الوجه الآخر للتاريخ العربي القومي ولكن بمعايير الرؤية الثقافية. وقد تضمن ذلك بدوره على إدراك متخصص للمهمة والغاية والأسلوب. ونعثر على ذلك في نحته للعنوان، الذي جعله يقول، بأنه أول من وضع هذا العنوان[18]. كما انه يسعى من حيث غايته إلى الحصول على "فائدة نظرية وعملية". أما من حيث أسلوبه فهو "أشبه بدائرة معارف تشتمل تاريخ قرائح الأمة العربية وعقولها وتراجم علمائها وأدبائها وشعرائها ومن عاصرهم من أكابر الرجال"[19]. وبالتالي ليس تاريخ آداب اللغة العربية سوى "تاريخ ما تحويه من العلوم والآداب، وما تقلبت عليه في العصور المختلفة، أو هو تاريخ ثمار عقول أبنائها ونتائج قرائحهم"[20]. من هنا تقسيمه إياه "إلى تاريخ آداب اللغة العربية قبل الإسلام وبعده وحسب الانقلابات السياسية"[21].

ويعكس هذا التقسيم بقدر واحد منهجية الرؤية والموقف. بمعنى أنه يربط في كل واحد التاريخ العام والخاص للعرب ولكن في ميدان الإبداع الفكري والروحي. مع ما يترتب عليه من ترميم للرؤية الثقافية القومية ووعيها الذاتي. واعتبر ذلك جزء من مهمة كبرى هي مهمة النهوض والنهضة من عالم النسيان والتخلف والانحطاط المعنوي. لاسيما وأنه تاريخ له أصوله وأسسه الخاصة. ومن ثم فهو على خلاف التقاليد الأوربية يتمتع بحس وعقل وبيان هو الوجه الآخر للتاريخ العربي المعقول. فإذا كانت الأمم الأوربية، كما يقول جرجي زيدان، لم تؤلف في هذا الميدان قبل نهضتها الأخيرة، فإن العرب على خلاف المشهور، كانوا أول أو أسبق الأمم إلى التأليف في هذا الموضوع[22]. وأشار إلى نماذج كبرى مثل كتاب (الفهرست) لابن النديم وكتاب (مفتاح السعادة ومصباح السيادة) لطاش كبرى زاده، و(كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون) وغيرها من الكتب المهمة بهذا الصدد. رغم أنها لا ترتقي إلى مصاف المؤلفات التاريخية بالمعنى الحديث للكلمة[23].  إلا أن ذلك لا يغير من حقيقة الأمر شيئا. لهذا نراه ينطلق من هذه المقدمة نحو الأفق المرئي لوعي الذات الثقافي، وصوب المجهول الملازم لمغامرات النهضة الحديثة.

لقد احتوت هذه الرؤية على ما يمكن دعوته بتوحيد هموم الرؤية التاريخية وتحصين أركانها الثقافية ولكن من خلال البقاء ضمن حيز الرؤية العلمية. ومن ثم التخلص من أوهام المقارنة التأويلية والمفتعلة. من هنا رؤية زيدان المنهجية تجاه أغراض كتابه (تاريخ آداب اللغة العربية)، إذ حصرها أساسا في "بيان منزلة العرب بين سائر الأمم الراقية من حيث الرقي الاجتماعي والعقلي". وذلك من خلال تتبع تاريخ ما "تقلبت عليه عقولهم وقرائحهم، وما كان من تأثير الانقلابات السياسية عل آدابهم"، و"تاريخ كل علم من علومهم على اختلاف أدواره"، و"تراجم رجال العلم والأدب، و"وصف الكتب التي ظهرت في العربية باعتبار موضوعاتها"، و"الاهتمام بما هو باق ويمكن الحصول عليه"[24]. ليس ذلك فحسب، بل وتأمل كل هذا الإبداع التاريخي المتميز عل خلفية التمدن الإنساني ككل. وليس مصادفة أن يشدد جرجي زيدان على دور الشرق وأثره في التاريخ الثقافي. وإذا كان هذا الموقف يحتوي في أعمق أعماقه على صدى الثقل الهائل للعالم الأوربي آنذاك ومركزية آرائه ومواقفه من الحاضر والمستقبل، فإن الماضي يبقى من حيز الإبداع الشرقي. من هنا قوله "لا خلاف في أن الشرق اسبق إلى تدوين العلم من الغرب. فقد نظم المشارقة الشعر، وعالجوا الأمراض، ووضعوا الشرائع، ورصدوا الكواكب وبينوا أماكنها وسموها بأسمائها والغرب في غفلة وظلام دامس"[25]. وركز في موقفه من أثر الشرق على مصر ووادي الرافدين. إذ احتوى هذا الموقف على محاولة لدعم أركان الأنا الثقافية واستثارتها في الوقت نفسه من خلال نفي الاستلاب الروحي والدونية المحتملة في المواقف. إلا أنه وضع ذلك ضمن سياق الفكرة التاريخية الثقافية الإنسانية العامة القائلة، بأن "التمدن الإنساني هو حلقات مترابطة ويؤثر احدها بالآخر"[26].

ومن ثم فإن لكلّ أمة تاريخها الثقافي الخاص رغم تشابه الأمم من حيث طبائعها ومداركها من أكثر الوجوه واختلافها في مواطنها. وجعل من هذه المقدمة منطلقا لفهم الوحدة والتمايز في تاريخ الأمم بشكل عام والأدبي بشكل خاص. وهو السبب الذي يجعل، كما يقول جرجي زيدان "آدابها متشابهة في موضوعاتها ومصادرها ومناحيها وتأثيرها، مع تباين في كل امة تمتاز به عن سواها... فآداب اللغة عند كل الأمم قديمها وحديثها مؤلفة من الشعر والنثر. والشعر يقسم إلى موضوعات كثيرة من الحماسة والغزل والفخر والرثاء والمديح، والنثر يقسم إلى التاريخ والأدب والفقه والفلسفة والعلم على أنواعه"[27]. وبالتالي فإن لكل أمة تاريخها الأدبي. والمقصود به هو الاختصاص الذي "يبحث في تاريخ الأمة من حيث الأدب والعلم، فيدخل فيه النظر فيما ظهر فيها من الشعراء والأدباء والعلماء والحكماء... وكيف نشأ كل علم وارتقى وتفرع عملا بسّنة النشوء والارتقاء"[28]. ذلك يعني، أن تاريخ آداب اللغة يعكس أولا وقبل كل شيء "تاريخ الأمة من الوجهة الأدبية والعلمية". وذلك لأن لكل أمة تاريخ عام وآخر خاص مثل التاريخ الاقتصادي والسياسي والأدبي والعلمي..."[29]. وبالتالي، فإن تاريخ آداب اللغة العربية هو تاريخ تميزها الأدبي والعملي، بوصفه احد النماذج والمستويات الكبرى والحلقات الجوهرية في تاريخ التمدن الإنساني. وبغض النظر عن أن جرجي قد بقي أسير الرؤية التقليدية التي تبلورت في الثقافة العربية الإسلامية عن تمايز الأمم الكبرى آنذاك، والعربية من بينها، إلا أن استعادتها آنذاك في فكره وتأسيسه الجديد لها كانت ترمي إلى غاية جديدة، بسبب ارتباطها بفكرة النهضة الأدبية، أي الفكرة القومية الثقافية والسياسية.

 

ا. د. ميثم الجنابي

......................

[1] جرجي زيدان: الفلسفة اللغوية، بيروت، دار الجيل، ط2، 1987، ص5.

[2] جرجي زيدان: الفلسفة اللغوية، ص8.

[3] جرجي زيدان: الفلسفة اللغوية، ص11.

[4] جرجي زيدان: الفلسفة اللغوية، ص101.

[5] جرجي زيدان: الفلسفة اللغوية، ص103.

[6] جرجي زيدان: الفلسفة اللغوية، بيروت، دار الجيل، ط2، 1987،ص 19. ليس هذا فحسب، بل اعتقد جرجي زيدان، إن منطقة حوض الرافدين هي منشأ اللغات جميعا وأصلها الأول. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنه كلما يبتعد المرء عن منطقة ما بين النهرين كلما تكون اللغات أكثر اختلافا. وسبب ذلك يكمن بالنسبة لزيدان في أن "الإنسان أول ما نشأ على ضفاف دجلة والفرات. ومن نسله تفرقت الأمم. والتوراة ذكرت اكبر مهاجرة نشأ عنها تعدد اللغات سمتها حكاية تبلبل الألسن(!!). وأول من نزح المنطقة (أي في بداية تطور اللغة) وابتعد عنها أدى إلى أن تكون لغتهم متميزة (الصين ومصر القديمة). وحاول تقديم البراهين اللغوية من خلال تحليل ومقارنة أصول الكلمات الأولية. وبغض النظر عما في هذه الفكرة من نزعة تأويلية جلية، إلا أنها تشير بالقدر نفسه إلى تغلغل الفكرة التاريخية وجوهريتها في رؤية جرجي زيدان، إضافة إلى احتوائها بصورة غير مباشرة على اثر النزعة الإنسانية ووحدة النوع الإنساني. وبالقدر ذاته اثر النزوع القومي الثقافي الكامن في أعمق أعماق تأملاته الشخصية وبحوثه النظرية والتاريخية.

[7] جرجي زيدان: الفلسفة اللغوية،،ص27.

[8] جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية، ج1، ص29-31.

[9] جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية، ج1، ص44-45.

[10] جرجي زيدان: الفلسفة اللغوية، ص16.

[11] لم تكن هذه الرؤية معزولة عن إبراز خصوصيات الأدب الأوربي بشكل عام وتقاليده اليونانية والرومانية التي كانت تمثل آنذاك نموذجا "كلاسيكيا" لأوربا الحديثة. من هنا مجاراتها في الإبداع العربي الحديث كما هو جلي في مواقف زيدان المشار إليها أعلاه.

[12] جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية، ج1، ص190-191.

[13] جرجي زيدان: الفلسفة اللغوية، ص9.

[14] جرجي زيدان: الفلسفة اللغوية، ،ص9.

[15] جرجي زيدان: الفلسفة اللغوية، ص10.

[16] جرجي زيدان: اللغة كائن حي، بيروت، دار الجيل، ط2، 1988، ص8.

[17] جرجي زيدان: الفلسفة اللغوية، ص9.

[18] جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية، ج1، ص8.

[19] جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية، ج1، ص9.

[20] جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية، ج1، ص8

[21] جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية، ج1، ص9.

[22] جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية، ج1، ص7.

[23] جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية، ج1، ص8.

[24] جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية، ج1، ص8.

[25] جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية، ج1، ص15.

[26] جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية، ج1، ص16-18.

[27] جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية،ج1، ص18.

[28] جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية، ج1، ص13.

[29] جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية، ج1، ص13.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم