صحيفة المثقف

هل هناك مثقف ديني نقدي؟!

علي المرهجمفهوم المثقف الديني النقدي كما أحسب مفهوم إشكالي، فهو يحط رحاله في الدين تارة وفي النقد تارة أخرى، ولكن على وجل وخوف وخجل واستحياء..

مفهوم المثقف الديني النقدي مفهوم رجراج لا زال في طور المخاض في فكرنا الديني المعاصر، لأننا لا زلنا نساوم، ولا قدرة لمثقف ديني يخترق المنظومة الفقهية (الدينية) بقدر ما يُحاول إما الانتظام فيها تارة كأن يُدافع عن (التدين الشعبي) أو الشعبوي، أو مغادرته بجرأة نقدية واضحة لا لبس فيها، وهؤلاء قلة.

ستجد من يُحدثك عن تدين العجائز وتدين جداتنا وما يخلق لنا ولهن من رضا في هذا (التدين الفطري)، وهذه وجهة نظر لمراضاة التدين الشعبوي.

لا أعرف لماذا أجد أن المثقف الديني النقدي يُحاول أن يربح الدنيا والآخرة معاً، فتجده يدافع عن التدين الشعبي على أنه حاجة اجتماعية، وهو يستمد رؤيته هذه من علماء اجتماع المعرفة الذين يؤكدون على أن النفس الإنسانية تهوى التدين، ولكن هؤلاء العلماء يصفون الظاهرة ولا يُدافعون عنها، وهم ليسوا جزءاً منها..

أما المثقف الديني فهو يجيد اللعب في سيرك العلمانية والدين ليجمع بين نقيضين في النهل المعرفي، فالمعرفة الدينية مصدرها اللاهوت ومعطياته، والمعرفة الوضعية مصدرها العالم وتحدياته ومتغيراته، الأولى معرفة ستاتيكية تحتكم للغيب والمطلق ولا قدرة لنا على تشكيك بمقولاتها، أما الثانية فهي معرفة متحركة متغيرة، لا تُسلم بكل معرفة نقلية أو نصية على أنها حق ما لم يتبين بالدليل أنها كذلك.

إن الباحث الديني / الفقيه / المفكر / المفسّر، يقرأ من داخل النص، فيخضع لسلطته ومحدداته لا إراديا، ولا يمكنه التمرد عليه. لا لأنه لا يريد الحرية أو لا يفهم معناها، بل لأن قداسة النص هي التي تتولى هندسة قبلياته وبنيته الفكرية والمعرفية فتفرض محدداتها ومدياتها، وآلية تفسيره أو تأويله للنص، وهي التي تحدد هامش الحرية وفضاء التفكير داخلها، وهي التي تسمح أو لا تسمح له بتجاوز النص. فالحرية لا تعني بالنسبة له التحرر المطلق من قيود النص، وتجريده من سلطته، بل حركة مغلقة داخل فضائه. فهي اجتهاد في دائرة النص ومدياته، فتكون محدودة، غير منتجة، تطاردها إكراهات النص. ومثالها جميع القراءات التراثية بل وأغلب الفكر الديني الخالي من النقد والإبداع. فهي تختلف عن القراءة المقاصدية، التي تحاول تقديم فهمٍ جديد للدين، والبحث عن مقاصد تشريعاته. دون التفريط بقداسة النص، رغم أنها تقدما فهماً مغايرا له. (ماجد الغرباوي:النص وسؤال الحقيقة 35).

المثقف الديني يفكر في النص وحول النص لصالح النص، بينما المثقف الحر يُفكر في النص وحول النص ليكشف عما هو خارج النص.

المثقف الديني مُقيّد والمثقف الحر يكشف في النص عن (المسكوت عنه) ليجعله نصاً راهنياً لا للتغني بمقدار ما فيه من اعجاز وبلاغة، بقدر ما يسعى لجعل النص المقدس نصاً تاريخانياً بتعبير عبدلله العروي.

النص المقدس عند المثقف الحر يعيش أكثر وينفتح أفقياً على الحياة أكثر مما يسد آفاقه المثقف الديني، الذي يدعي نزوعه نحو النقد، ولكنه يكون أسير النص واعجازه ليكون داعية أكثر منه مثقف.

ولكني أرى أن ما يحق لنا هو محاولة التخلص من هذا الشكل من التدين الذي لا يبني سوى أناس يُزينون متبناياتهم العقائدية بنزعة عقلانية برهانية تارة أو نزعة عرفانية تارة أخرى أو بالدمج بين هاتين النزعتين، وهذا من طبيعة تكوينهم الديني الذي يدفعهم للدفاع عن العقائد؛ ولا نسع هنا لتكذيبها أو تصديقها، ولكن الذي أفهمه هو أن كل مثقف ديني ينطلق من مسلمات نهائية، لذلك هو ليس نقدياً إلا إذا حسبنا نقده للمخالف لتوجهاته على أنه نزعة نقدية.

قد يعترض معترض بالقول أن لا فكر  ينبني من دون مسلمات مسلمات، والفكر العلماني ينطلق من مسلمات، لأقول له نعم، ولكنها مسلمات تخص صاحبها، ولك الحق وكل الحق في نقدها وتفكيكها وهدمها، ولا تخش منه ولا تخاف، أما مسلمات الديني فهي مصدرها ثيولوجي ومن الصعب القبول بتفنيدها أو التشكيك بها..

لأبسط، لك القول وأقول أنك إن شككت بكل مقولات ومسلمات الفلاسفة المثاليين والعقليين والعقليين والتجريبيين والروحانيين والماديين، فلا ذنب عليك ولا تُحاسب لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولكن من الصعب لكل أصحاب الديانات اللاهوتية أن يُشككوا بمسلمات الدين ومتبنيات "المثقف الديني" من دون خوف ووجل وخشية من عقاب دنيوي أو أخروي.

هل يمكن لمثقف ديني نقدي أن يشكك بنبوة نبي او بمصدرية نص مقدس؟!

هناك ما يُسمى (التدين المعنوي)، وهو شكل لا توصيف له في المحاججة العقلانية، فهو (تدين صوفي) يصح عليه الوصف، وإن قلت أنه تدين عقلاني فعليك أن تضرب كل أطروحات ابن رشد ومن سبقه من الفلاسفة الإسلاميين..

لا والمشكلة أنك تجد بعض هؤلاء المفكرين يدافعون عن تدين العجائز، وكأنهم يُدافعون عن تدين فطري، ولا مشكلة عندي في توجههم هذا، ولكن أطلب منهم أن يحسموا أمرهم لنتمكن من معرغة توجههم، هل هم مع متبنيات الفطرة في التدين؟!، أم هم من دعاة (التدين العقلاني) النقدي..

هل يمكن أن نصف كل الفلاسفة المسلمين بأنهم مثقفون نقديون؟..

أقول نعم، ولكن لا يصح أن نصف كل مفكر حينما نقرأ له مقال أو كتاب بأنه بين (البينين) وبمنزلة بين منزلتين!!.

حينما تقول له أنك ليس عقلانياً نقدياً يقول لك أنني صوفي أنسني!!..

لا ألومهم لأن كل الفكر الإسلامي يدور في أفلاك المعرفة الجوانية التي تتضاد مع المعرفة البرهانية..

مشكلة المثقف الديني يلف ويدور ويدور ويلف ليُرجعك لنقطة الصفر، ويدور معك ويلف لعلك تنسى (رباط السالفة)..

لأسأل هل هناك ما يصح أن نقول عنه أنه (مثقف ديني نقدي)؟!..

وهناك مفاصل ثلاثة: مثقف وديني ونقدي.. وأظن أنه في الإصطلاح جمع لنقائض!!.

مثقف وديني!!، ومثقف ديني ونقدي!!..

مثقف نقدي ممكن!!، ولكن مثقف ديني، وإلى أي مدى يلتقي مفهوم المثقف مع الديني؟!.. وهل كل مثقف نقدي؟! وهل كل ديني نقدي..

هناك أشكلة نحتاج للحوار حولها مع أصدقاء أعزاء لنا طرحوا مفهوم (المثقف الديني النقدي).

 

ا. د. علي المرهج – أستاذ الفلسفة في الجامعة المستنصرية

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم