صحيفة المثقف

جرجي زيدان ولغة التاريخ والوجدان (6-6)

ميثم الجنابيالعقلانية واللاعقلانية في الفكر العربي الحديث (17)

ماهية وخصوصية النهضة العربية

يمتلك العالم العربي، كما يقول جرجي زيدان، تراثه التاريخي الهائل بما في ذلك في مجال النهضة. لهذا نراه يتكلم عن "نهضة عربية" أولى، وجد نموذجها في القرن الأول قبل الإسلام. حيث ظهرت في الشعر والأدب والدين. وبالتالي، فلا معنى للقول بأنها كانت موجود قبل ذلك بسبب انقطاع أخبارهم. وذلك لأن العرب أنفسهم نقلوا لنا أخبار "العرب البائدة"[1]. ولعل في ظهور الحضارة العربية الإسلامية ونموها السريع وتحولها إلى حضارة كونية احد الأدلة على ما اسماه جرجي زيدان، بالاستعداد الذاتي للنهضة والتمدن[2]. والشيء نفسه ينطبق على محاولات محمد علي باشا إنشاء دولة إسلامية كبرى. من هنا مسعاه للاستناد إلى عصبية إسلامية. وبما أن ميول الأتراك آنذاك كانت للدولة العثمانية، لهذا نراه مضطرا للاعتماد على العرب. مما أدى إلى إحياء "العنصر العربي وتنشيط العصبية العربية بما أنشأه من المدارس والمطابع أو نشره للكتب". وإذا كانت هذه النهضة لم تفده كثيرا في مجرى صراعه مع الغرب الأوربي، إلا أنها "أفادت أهل الشرق من العرب فائدة أدبية علمية بتمهيد السبيل للنهضة التي نحن فيها"[3]. من هنا نراه يفرد كتابا خاصا عن "مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر"، ويخصص الجزء الأول لرجال السياسة، أما الثاني فيفرده لأركان النهضة العملية والأدبية والفكرية والشعراء. وإذا كانت القيمة الفكرية لهذا الكتاب تقوم في محاولته جميع أثر ومآثر الشخصيات التي لعبت دورا في إرساء أسس النهضة في العالم العربي والإسلامي (والشرقي كما يدعوه زيدان)، فإن مطالبته القارئ بإيفاده بمعلومات عمن لم يشملهم هذا الكتاب، تعني محاولته إشراك الجميع في توسيع مدى القوة الفاعلة في النهضة، بوصفها عملا تاريخيا ثقافيا جامعا[4]. لهذا نراه يدرج ليس فقط العرب، بل والأوربيين والأتراك والفرس وغيرهم ممن ساهم بقدر ما من الأقدار في دعم وإرساء فكرة النهضة وأساليبها. لهذا نراه يدرج شخصيات مثل الفرنسي انطون كلوت، صاحب الأثر في نشر علم الطب في مصر، و"ممن يخلد ذكرهم في التاريخ المصري مدى الدهور"[5]. إضافة إلى عشرات من الشخصيات الكبرى مثل الشيخ ناصيف اليازجي، الذي يصفه بعبارة "ركن من أركان النهضة اللغوية في بلاد الشام"[6]. ويعتبر رفاعة الطهطاوي أول من خدم خدمة كبرى في نشر العلوم الحديثة[7]. والشيء نفسه يقال عن بطرس البستاني، وعلي مبارك صاحب "الخطط التوفيقية" الذي قام ببناء وتنظيم المدن والري. بينما نراه يفرد لجمال الدين الأفغاني تقديم خاص بحيث يرفعه إلى مصاف الذروة الكبرى في تنشيط هواجس وأفكار النهضة. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنه "قد تمر القرون وتتوالى الأجيال والناس على ما ساقتهم إليه الحاجة من شئون معائشهم لا يفقهون غثها من سمينها ولا يدركون مبدأها ولا مصيرها حتى تتمخض الطبيعة فتلد من أبنائها أفرادا يميطون عن أسرارها اللثام". وأن هؤلاء النوع من البشر هم "أقطاب العلم وأوار العالم ومنهم الفلاسفة الطبيعيون (يكشفون غوامض الطبيعة)، والعقليون (يستطلعون أسرار الحكمة)". وأن الطبيعة لا تجود بأمثالهم إلا كل بضعة قرون. وهذا هو شأن الطبيعة. وليس معزولا عما "لله في خلقه حكمة لا تدركها العقول. فقد ينبغ في بعض الأجيال أفراد توفرت فيهم قوى الفلاسفة ومواهب رجال الأعمال فتحيط بهم بيئات لا تصلح إنماء ما يغرسون فيذهب سعيهم هباء منثورا". وأن الأفغاني من بين أولئك العظماء الذين جهل الناس حق قدرهم واغفل التاريخ ذكرهم(!). إلا أن الأفغاني يبقى قطبا من أقطاب الفلسفة، وركنا من أركان السياسة، رغم كونه لم يؤلف كتبا (شأن سقراط)[8].

كما لا يبخل جرجي زيدان حق كل تلك الكوكبة الكبيرة من الأدباء مثل أديب اسحق والشدياق وسليم تقلا وبشارة تقلا (مؤسسا الأهرام) وعبد الله نديم (صاحب رواية الوطن والعرب) وإبراهيم المويلحي وإبراهيم اليازجي. والحال نفسه ينطبق على الشعراء مثل أمين الحمصي ويوسف الدبس وسليم شحادة وفرنسيس مراش وعبد الغفار الأخرس وعمر الأنسي والشيخ نجيب الحداد ومحمود سامي البارودي وغيرهم[9]. وفي الوقت نفسه نراه يتكلم عن مآثر الجميع وأعمالهم وصفاتهم الشخصية من اجل إبراز الوحدة الخفية لأثرهم في النهضة الروحية والعقلية والأخلاقية.

ووضع هذه المقدمة النظرية والتطبيقية في أساس رؤيته لبعض المهمات الكبرى المتعلقة بتجسيد مستلزمات النهضة في العالم العربي بشكل عام ومصر على الأخص. ومن بين أهم تلك المهمات بنظر جرجي زيدان هي مهمة التربية. لهذا نراه ينطلق مما اسماه باختلاف الآراء حول أهميتها ومهمتها ووظيفتها. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن "الناس من حيث تأثير التربية في الإنسان فريقان. فريق لا يرون للتربية فائدة على الإطلاق، وعندهم إن الإنسان إنما يشبّ على ما فطر عليه أن خيرا أو شرا... فعندهم أن التربية عبارة عن مصقلة تصقل بها المواهب كما يصقل النحاس والفضة".  و"فريق يزعم أن الإنسان صنيعة التربية يكون كما يشاء مربيه، فيشب على ما يتعوده من خير أو شر. فهو كالعجينة أو الطينة"[10]. أما وجهة نظره الخاصة فقد بلورها بالشكل التالي: "إن التربية ليست من قبيل صقل النحاس أو الفضة.... ولا هي من قبيل العجين أو الطين". كلاهما لا حياة مستقلة لهما[11]. من هنا وضعه شعار وفكرة التعليم العام والمجاني والإلزامي[12]. لهذا نراه ينتقد سلوك الحكومة المجافي لإدراك هذه المهمة. بل اعتبر إهمال الحكومة لفكرة مجانية التعليم هي إساءة إلى الأمة لأنها حالت بين الفقراء وأسباب الارتقاء... و"لو تدبرت تاريخ هذه النهضة لرأيت أكثر الذين ظهروا في أولها وأيدوها بمؤلفاتهم أو إدارتهم أو حكمتهم إنما نبغوا من أبناء الفقراء"[13]. لهذا نراه يرفع شعار إلزامية التعليم بوصفها الحلقة المكملة والضرورية للرقي العام. من هنا قوله: "الأمة تحتاج إلى التحريض على التعليم. ولا يكفيها المجانية وإنما هي في حاجة إلى التعليم الإلزامي"[14].

وليس مصادفة أن يربط الإصلاح والنهضة في كل واحد من خلال التعويل على الرقي المادي والمعنوي عبر التعليم والاهتمام به. واعتبر ذلك في الوقت نفسه مهمة المجتمع وليس الدولة فقط. من هنا انتقاده سلوك أولئك الذين "بدلا من أن يصرفوا ذكاءهم ويتفقوا قواهم في كتابة ما يثير خواطر الأمة على حكومتها أو يئول إلى سوء الظن بمشيريها، أن يحرضوها على التعليم والتهذيب ويستدروا أموال الأغنياء لإنشاء المدارس العالية"[15]. واعتبر ذلك المقدمة الضرورية للاستقلال الناجز. فالاستقلال الفعلي هو استقلال شامل كامل تام. ويستحيل بلوغ ذلك دون التربية والتعليم المبني على أساس العلم الحديث والحرية. وكتب بهذا الصدد يقول: "إننا في حاجة إلى التدرب على الاستقلال في الفكر والاستقلال في العمل حتى لا نبقى عالة على الحكومة"[16]. بل واعتبر "الاستقلال الحقيقي الأساسي هو استقلال الأمة بمصالحها وطرق معاشها في التجارة والزراعة والصناعة. فتجتمع الثروة في أيديها. والثروة دم المجتمع الإنساني. فبدلا من أن تتعلق معائش الأمة على أهواء الحكومة تصبح الحكومة في حاجة إلى ثروة الأمة وإلى رأيها"[17]. وهذا بدوره ليس إلا الأساس غير المرئي لفكرة الديمقراطية الاجتماعية والنظام الرشيد، أي فكرة الإدارة الذاتية والمجتمع المدني. ففي مجرى تناوله تجربة مصر نراه يشير إلى أن الاستنجاد بالآخرين يضعها في نهاية المطاف، مهما كانت الأسباب والغايات، تحت سيطرة الحكم الجديد. أما الاستنتاج النهائي فوضعه بعبارة تقول، بأن "الالتجاء إلى دولة أجنبية التماسا للاستقلال ضرب من العبث"[18]. ومن هنا استنتاجه الأخير، الذي يعيد بطريقة أخرى أو يتمثل مقدمات تأسيسه الأولية، كما هو جلي في عباراته القائلة:"إننا في حاجة إلى استقلال أدبي أكثر مما إلى استقلال سياسي. ومعنى ذلك إننا نحتاج إلى التدرب على الاستقلال في الفكر والعمل لكي لا نكون عالة على الحكومة"[19].

لقد جسّد جرجي زيدان رحيق العملية المعقدة لبروز ونمو وتكامل الرؤية العلمية والواقعية عن التاريخ الفعلي للعالم العربي، ومن ثم إرساء أسس الرؤية الأولية لوعي الذات الثقافي. فقد كانت بدايته في مجال البحث التاريخي بحد ذاتها مؤشرا خفيا يحتوي على كمون الرؤية القومية والثقافية. ومع أن بدايتها كانت تتسم بقدر كبير من البحث والتجريب في تاريخ العرب وتاريخ الإسلام، إلا أنها استطاعت في الوقت نفسه أن تبلور فكرة جوهرية التاريخ وأثرها أو أهميتها بالنسبة للنهضة الحديثة. ووجد ذلك انعكاسه في حلقات الاهتمام بفكرة التاريخ العربي (القومي) ثم الثقافي (الإسلامي) ثم القومي الثقافي (التمدن العربي وآداب اللغة) وأثرها أو أهميتها بالنسبة للنهضة الحديثة. فقد ارتقت هذه الفكرة إلى مصاف الرؤية الثقافية في مجرى دراسة التمدن، ثم ارتقت إلى مستوى التوليف بينهما، أي التوليف بين القومي والثقافي. وفي بدايتها كانت جزئية عبر دراسة اللغة (الصيغة المجردة) ولاحقا عبر دراسة تاريخ آداب اللغة العربية، أي كل ما أدى إلى بلورة المرجعية الخفية القائلة، بأن وعي الذات التاريخي الثقافي وخصوصية الأدب الذاتي يفترضان ضرورة النهضة الحديثة.

إننا نقف هنا أمام عقلانية فطام تاريخي عن تاريخ الإسلام السلفي العقائدي والمذهبي. ومن ثم مهّدت أيضا للعناصر الأكثر فاعلية في مختلف نماذج عقلانيات الفطام واليقين (التي سأتناولها بالدراسة والتحليل لاحقا). وذلك لأنها كانت تحتوي على فطام ونقد واغتراب (جزئي). وليس مصادفة أن تصبح لاحقا نموذجا للمحاكاة. وذلك لأن الفطام كان يحتوي على تجميع وتثقيف وترتيب وتقويم، أما النقد فقد كان يحتوي على تجريح وتوضيح وجدل، بينما كان الاغتراب يحتوي على ابتعاد وانفصال وهروب.(انتهى).

 

ا. د. ميثم الجنابي – باحث ومفكر

.......................

[1] جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي، ج1، ص32.

[2] جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي، ج1، ص32.

[3] جرجي زيدان: المختارات، مصر، ج3، ص104.

[4] جرجي زيدان: تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، مصر، مطبعة الهلال، 1922، ج2، ص4.

[5] جرجي زيدان: تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، ج2، ص11.

[6] جرجي زيدان: تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، ج2، ص13.

[7] جرجي زيدان: تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، ج2، ص26.

[8] جرجي زيدان: تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، ج2، ص53.

[9] جرجي زيدان: تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، ج2، ص225-312.

[10] جرجي زيدان: المختارات، ج3، ص7.

[11] جرجي زيدان: المختارات، ج3، ص7.

[12] جرجي زيدان: المختارات، ج3، ص11.

[13] جرجي زيدان: المختارات، ج3، ص16.

[14] جرجي زيدان: المختارات، ج3، ص16.

[15] جرجي زيدان: المختارات، ج3، ص6.

[16] جرجي زيدان: المختارات، ج3، ص6.

[17] جرجي زيدان: المختارات، ج3، ص6.

[18] جرجي زيدان: المختارات، ج3، ص23.

[19] جرجي زيدان: المختارات، ج3، ص.24

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم