صحيفة المثقف

النشأة الأولى ونظريّة الفَيض عِندَ الفيلسوف أفلوطين (1)

اكرم جلالالفِكرُ والفَلسفةُ والتأريخُ، بحارٌ لا يخوض غمارها ولا يُصارع أمواجها إلّا أولئك الذين يبحثون عن الممكنات في التفكير، يَقرأون الفِكرَ القَديم وَيَتَصَفَّحون تاريخ الأمم وحضاراتها من أجلِ صياغة منهج جديد يسعون من خلاله لإدراك أو إثبات الحقيقة، واليوم، ونحن نَعيش زَمَنَ ضَياع الحقيقة واندثار المعرفة، حيث ثبّت الجّهل أركانه وهيمن على مفاصل الحقيقة، فأصبحت كلمته هي العليا. وفي ظلّ صراع مستمر بين الجهل والمعرفة، بين الوثنيّة والتوحيد، والباحث عن الحقيقة لابُدَّ له أنْ يبلُغ أسوارها ويثبّت العديد من التفسيرات الميتافيزيقية الأصولية، ومنها نظرية الفيض لأفلوطين، تلك التي شهدت جدلًا واسعًا بين المفكرين وعلى مدى عقود من الزمن.

وأفْلُوطين، الفيلسوف اليوناني، هو أحد أبرز روّاد ومؤسّسي الأفلاطونية المُحْدَثَة، وُلدَ سنة 205م في مدينة ليقوبوليس (Lycopolis)-(مدينة أسيوط، في صعيد مصر) من أبوين رومانيين. وبعد إكماله المراحل الدراسية الأولى انتقل إلى مدينة الإسكندريّة وَدَرَسَ عندَ أغلب مُعلّمي الإسكندرية الذين عاصروه، لكنّه لَمْ يَنَل مُراده إلّا على يَد أستاذه أمونيوس سكاس (175-242م) والذي كان أحد تلامذة أفلاطون، حيث وُصِفَ بأنَّه أَحَد أهمّ روّاد الأفلاطونية المُحْدَثَة، فلازَمَه أفلوطين وواظب على دروسه لأكثر من أحد عشر سنة.

لَمْ تُنقَل تفاصيل كثيرة عن حياته سوى تلك التي نقلها تلميذه ورفيقه فرفوريوس الصوري (233 م – 304 م) الذي لازمه منذُ أن تعرّف عليه سنة 263م، وهو الذي قام بتحرير كتاب "التاسوعات"، فَكل ما وَصَلَنا مِن سيرة حياة الفيلسوف أفلوطين إنَّما جاء من خلال ما كتبه تلميذه فرفوريوس في مقدمة التاسوعة الأولى.

كانت رَغبَة أفوطين في الاطلاع على الفلسفة الفارسية والهنديّة سببًا لالتحاقه بحملة الإمبراطور جورديان Gordian والتي كانت تتهيّأ للزّحف على بلاد فارس. لم يصمد الروم أمام الفرس وأنهزم جورديان في معارك جرت في العراق، بلاد ما بين النهرين، الأمر الذي أجبر أفلوطين للهرب إلى أنطاكيا ومنها إلى روما، ليبدأ مرحلةً جديدة في مسيرة حياته الفلسفيّة.

وخلال الفترة التي قَضاها في روما لَمْ يُظهِر نَفسه وحقيقةَ الأفكار التي يَحْملها وَلَم يَشْرَع بالكتابة إلّا بَعد مرور سنوات قضاها مُستَمعًا، لكنّه قَرَّرَ الكتابة بعدما بَلَغَ الخَمسين وبَعد إلْحاحٍ مِن جُلَسَائِهِ وَمِنَ المُقرّبين لديه وحينما لمسوا العبقريّة الفكريّة التي كان يحملها، بدأ يُملي على طلبته أفكاره ونظرياته ومعتقداته، وبعد وفاته جمعوا له أربع وخمسين رسالة سُميّت بالتاسوعات، وصنّفها تلميذه فرفريوس إلى ستة تاسوعات كانت تَضمّ مَزيجاً مُتنوّعاً لاتّجاهات فكريّة متعددة، حيث جَمَعَ في كلّ تاسوعة تسع مقالات تبحث في مواضيع مختلفة لكنّها متآلفة ومتجانسة من حيث المضمون العام، وكانَ نَسَق التاسوعات تصاعديًّا فكانت الأولى توصف بالأسهل ثمَّ تَدَرَّجت إلى الأكثر عمقًا والأصعب فهمًا، فكانت التاسوع الأوّل مختص بموضوع الإنسان، والثاني والثالث بمواضيع العالم المحسوس، والتاسوع الرابع موضوعه النفس والخامس يتحدّث عن الأقانيم الثلاثة، أمّا السادس والأخير فكان يتحدث عن الحقّ وأجناسه.

 

كانَ أفلوطين ميّالًا إلى الزهد والروحانيّة، فقد كان يرفض المادية معتبرًا أنَّها ليست الطريق لإدراك السعادة والرخاء، بل وكان حتى يرفض التمجيد والإشادة بإنجازاته العلمية أو الفكرية، كما أنَّه كان كتومًا لا يبوح بأموره الشخصية؛ رَفَضَ رَسمَ صورته الشخصية أو صُنع تمثال له، بل ولم يتحدث حتى عن جذوره العائلية.

أفلوطين والأفلاطونية المُحْدَثَة:

الأفلاطونية المُحْدَثَة هي فلسفة ميتافيزيقيّة، نشأت في القرن الثالث وأهم مَن ساهَمَ في تَرسيخها أفلوطين وأستاذه "أمونيوس سكاس"، حيث بَنَتْ صَرحَها على الأسس الروحيّة والإلهية للمنهج الفكري الأفلاطوني، لتبدأ بتخليصها من بعض الأفكار التي أساءت إليها وَحَرَّفتها عن مسارها كالممارسات السحرية " ثيورجى" التي قدّمها لمبليخوس من أجل تطوير النفس وإرجاعها إلى الأساس.

ولعل الفترة التي عاشها أفلوطين في مصر والنَّمط العام للمدرسة الإسكندرانية كان له الأثر الكبير في صياغة طبيعة المنهج الفلسفي الذي تبنّاه أفلوطين، حيث كان للمعتقد الديني أثرٌ في تعميق البعد الروحي ذي الطابع الصوفي والرؤية الميتافيزيقيّة في القراءة والتحليل، أضف الى ذلك أنَّه كان ولأكثر من أحد عشر عامًا ملازمًا لمعلمه الأوّل أمونيوس سكاس، الذي يَنقل عَنه المؤرخون أنَّه كان مؤمنًا مسيحيًا وقد نال المعمودية في أواخر القرن الثاني، عندما انتقل الى روما فإنَّ نهجه في الدراسة والتدريس لم يتغيير كثيرًا، وكان يتحدّث دائمًا عن منهجه واعتقاداته الفلسفية وكيف أنها نابعة من ارتباطه بسلفه من الفلافسفة والمفكرين، فيقول: (فليست أقوالنا -هنا- أقوالًا جديدة من استحداث دهرنا، بل إنَّها واردة منذ القدم بغير توضيح واسترسال)1.

وتعتبر الفلسفة الأفلوطينيّة شكلًا من أشكال المثاليّة الوحدويّة (أو ما يُطلق عليها بالوحدويّة الإيمانيّة)، ولذلك يؤكد فرفريوس، أنَّ أفلوطين كانَ روحانيّ النّزعة، وكثير الارتباط القلبي بالعالم الربّاني، وكان ينشد الحبّ الإلهي في مسيرته معتبرًا أنَّ المحبوب الأوحد هو هدفه ويرى أنَّ الطريق من أجل ذلك هو بأن تسمو النفس وتعلو على الجسد، وهذا ما يفسّر النزعة الصوفيّة في الفلسفة الأفلوطينيّة والتي تؤمن بحقيقتين أساسيتين، الأولى النفس البشرية العالية التي تركت وضعها الأوّل والحقيقة الثانية هي الروح وسُبل تدرّجها نحو مراتب الكمال والخلود.

ويُضيف أفلوطين أنَّ مِنَ الأمور التي تزيدنا عشقًا للواحد هو أنَّه أعزّ وأجل مِنْ أنْ يوصفَ بوصفٍ أو يُحدّ بشكل، يقول: (لا غَرْوَ أيضًا لأن لم يكن له شكل. ولَعُمري، إن كان الشيء معشوقًا، ثم لم يسعك أن تتبيَّن فيه شكلًا أو صورة، أصبحتَ منه أشد ما تكون له عشقًا وحبّاً، وحلَّ من العشق فيك آنذاك ما ليس له حدّ.

أجل، إنَّ العشق عنا لا يُضبَط بحَدّ لأنَّ المعشوق لا حدَّ له هو أيضًا، إنَّما لا يكون للعشق نهاية ما دام هو المعشوق)2، وإنْ كان الواحد للحسن مبدعًا فماذا يا ترى يكون حسنه؟ (وليت شعري، ما عسى أن يكون حُسْنه ما دام هو ذاته ليس بشيء حقًا؟ لكنّه هو المعشوق، فكان للحسن هو المُبدِع)3.

لَقَد كانت رائحة الصوفيّة تفوح في كتابات أفلوطين وفي منهجه الفكري والفلسفي وإنْ جاهد لإخفائها، لذلك نراه يُقدّم فهمًا للوجود بطريقة مدهشة وكانت نظرته للذات الإلهيّة محلّ تأمل الفلاسفة والمفكرين، فكان يدعو إلى أنَّ الإله ليس ضربًا مِنَ الخَيال بَلْ أنّه حقيقة فَرَضَها العَقل والمنطق، فهذا الحضور الإلهي هو الذي يجعل النفس مرتبطة به، توّاقة إلى لقائه، فقدّم رؤيته مفسّرًا حقيقة الانتقال من الواحديّة إلى الأحديّة والذي هو واجب الوجود، بَلْ هو الخير المُطلق.

وللبحث تكملة إن شاء الله تعالى

 

د. أكرم جلال

.....................

 المراجع

1- تاسوعات أفلوطين، ص 432.

2- تاسوعات أفلوطين، ص 658.

3- تاسوعات أفلوطين، ص 658.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم