صحيفة المثقف

حفيدُ الشجرةِ

عبد الله سرمد الجميلتعودُ ذاكرتي مع أبي تمّامَ إلى ثلاثةِ مُفترَقاتٍ، تجمَعُ بينها مدينتي المَوصِلُ. المُفترَقُ الأولُ تمثالُهُ في كورنيش الساحلِ الأيمنِ، مرّةً أخبرْتُ سائقَ الأجرةِ أنَّ وِجهتي قُربَ تمثالِ أبي تمّامَ، فاستغربَ ولم يستدلَّ عليهِ، وسألَني إن كنتُ أنا من الموصلِ أم غيرِها، ولا غرابةَ؛ فمتى كانَ الشعراءُ نقاطاً دالّةً في مدنٍ كثُرَ فيها الشهداءُ والقادةُ وتيجانُ الرؤوسِ؟! تمضي السنونَ، وتهدِمُ داعشُ تمثالَهُ، يقولُ شاهدُ عِيانٍ وهو فلكيٌّ متقاعدٌ إنّ فُتاتَ الحجارةِ تلكَ الليلةَ كان يُومضُ ويُحشرِجُ، ثُمَّ بدأَ يرتفعُ مُحتشداً واختفى كشهابٍ ساقطٍ، لكنْ هذهِ المرّةَ من الأرضِ على السماءِ. آهٍ أبا تمّامَ، كم أنتَ راءٍ ولستَ مرئياً.

المُفترَقُ الثاني مدرسةُ أبي تمّامَ، وأنا لم أدرس بها، بل كنتُ في مدرسةِ الفُتوَّةِ النموذجيّةِ، وبينَ هاتينِ المدرستينِ من التنافسِ كمثلِ ما بينَ مدرستي البصرةِ والكوفةِ في النحوِ واللغةِ، أو قُلْ كمثلِ مدارسِ السحرِ في أفلامِ هاري بوتر، حيثُ القراءةُ الخلدونيّةُ تُلقَّنُ في الفُتوّةِ، وقراءةُ (حسن وريم) في أبي تمّامَ.

المُفترَقُ الثالثُ مِهرجانُ أبي تمّامَ عامَ 1971، مرتبطاً بذاكرةِ آبائِنا وأجدادِنا، فما إنْ يُذكر حتّى تُستعادَ قصيدةُ عبد الله البرودنيّ (أبو تمّامَ وعروبةُ اليومِ):

ما أصدقَ السيفَ إن لم يُنضِهِ الكَذِبُ

وأكذبَ السيفَ إن لم يصدُقِ الغضبُ

وقصيدةُ نِزار قبّاني (اعتذارٌ لأبي تمّامَ):

أحبّائي

إذا جئْنا لنحضرَ حفلةٍ للزارِ

منها يضجرُ الضجرُ

إذا كانت طبولُ الشعرِ يا سادةْ

تُفرِّقُنا وتجمعُنا

وتعطينا حبوبَ النومِ في فمِنا

وتسطلُنا وتكسِرُنا

كما الأوراقُ في تشرينَ تنكسرُ

فإني سوفَ أعتذرُ

يُقالُ إنّ وفداً من اتحادِ أدباءِ نينوى ذهبَ إلى أحدِ مُحافظيها لتقديمِ طلبٍ في إحياءِ المِهرجانِ، ففتحَ شِدقيهِ وحكَّ صلعتَهُ: جااا منو هذا بو تمّام؟ وحينَ عرّفوهُ به، سكتَ دهراً ثُمَّ قالَ: هااا هذا الصنم !!!

**

آهٍ أبا تمّامْ،

زمنٌ ساوى بينَ الأعلامِ وبينَ الأصنامْ،

أفتحُ ديوانَكَ كالراهبِ يفتحُ أبوابَ الأحلامْ،

 

وبَناني يُمسي أملسَ إذ يتنزَّهُ بسطورٍ من زهْرِ الكلماتْ،

أنتَ المِعماريُّ الأمهرُ،

أنتَ الموسيقيُّ الأرهفُ،

في مملكةِ الأصواتْ،

تُمسِكُ بالمطرِ الناعمِ،

تُمسكُ قطرةَ مطرٍ لا تتهدَّمُ في كفّيكَ،

لتغزِلَ من خيطِ المطرِ الممتابعِ أهدابْ،

تتعرَّفُ آياتِ الرَّبْعِ بأرَجٍ موسومٍ في كفِّ ترابْ،

عصرَتْها كفُّ بوارِحْ،

فوقفتَ هنالكَ وحدَكَ،

حفرٌ حولَ الخيمةِ ستُحدِّقُ فيكْ،

كعيونِ جوارحْ،

كالأوديةِ المحفورةِ من رجّةِ نيزكْ،

لكن تضحكُ في قلبِكَ زهرةُ لَيلَكْ،

وجنينٌ أنتَ ببطنِ سفينةْ،

تدعوها بنتَ حديقةْ !

أحفيدٌ أنتَ إذنْ للشجرةْ ؟

***

د. عبد الله سرمد الجميل - شاعر وطبيب من العراق

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم