صحيفة المثقف

تجربة السجن السياسي في قصص بولص آدم

صالح الرزوقلا تبتعد قصص بولص آدم في مجموعته الجميلة (باصات أبو غريب)*  عن قصائده، فهو في الحالتين مشغول بذاكرة مشلولة، وهذا لا يعني أي خلل باستعادة الماضي بقدر ما يشير لنوع من التثبيت وإعادة الانتشار، أو ما نسميه عادة الإزاحة واحتلال واجهة المشهد. ولكن القصص، بعكس أسلوب ومضمون قصائده المشاغبة، تبدو مسالمة أو قل مستسلمة لتقاليد التعبير.

الحساسية الشعرية

فالمعاني تفيض في القصائد على التراكيب، وتأخذ شكلا مضافا على الشعرية، وبنفس الأسلوب الذي ختم به جيسواف ميوش حياته مع الشعر. وربما لهذا السلوك ما يبرره. لقد عاش كلاهما تجربة المنفى: ميوش أنفق ردحا طويلا من حياته بعيدا عن وطنه بولندا، ومتنقلا بين باريس وأمريكا، وكان عقله السلوفيني دائما بحالة حداد أمام جدار عواطف غربية متناقضة ومتناحرة أيضا. وتسبب ذلك بخلل في المنطق وصدع بالعاطفة وتمزق بالأنسجة الفنية للقالب الأدبي. بالإضافة لموقف يغلب عليه شك اليقين أو بلغة أوضح يضعه الشك موضع تساؤلات دائمة، وبالأخص ما يتعلق بالمشاكل الوطنية (أو السياسة في حالة مجتمع غير واضح وملتبس، حكومته مدنية، وجوهره عسكري).

وبالمثل عاش بولص آدم غربته في النمسا. وهناك اكتشف ذوقا شعريا بخلفيات نثرية. بتعبير آخر أمكنه أن يعيش عوالم متخيلة ولكن من موقع معاناة وحرابة وليس من موقع استجمام. واقتضت هذه الحالة البحث عن تفاهمات للوصول لنقطة توازن يمكن من خلالها قراءة عالمه فنيا.

شعرية القصة

ولذلك أجد أن “باصات أبو غريب” تأتي من خارج سياق شعريته، ولكن لتستوطن داخلها. بمعنى أنه وظف نوعين من أنواع التعايش.

الأول حالة المنفى مع حالة الذاكرة المكبوتة والمرعبة. وهو أصلا موضوع كل قصص المجموعة. فهي كلها تدور عن منفى الداخل، أو تجربة السجن، السياسي تحديدا. ولا يخفى على أحد الإحساس الفظيع بالاغتراب والعزلة والقلق التي يعيشها أفراد هذه المجموعة ولو أنهم داخل أوطانهم.

الثاني إسقاط غير المألوف على المألوف، أو غير الممكن على الممكن، وذلك من خلال التقابل بين الذات الاجتماعية بين جدران الزنزانة والذات نفسها بين جدران المنزل أو مكان العمل.

وغني عن القول إنه توجب على أبطال القصص اكتشاف مكان لهم في مكانهم البديل: المعتقل في الداخل، والغربة في الخارج. ومثل هذه الثنائيات ربما هي مصدر شعرية الشكل النثري الذي اعتمدت عليه القصص.

الواقع والذاكرة

2113 بولص آدماختار بولص آدم لبناء واقعه أسلوبين.

الذاكرة ولهذا السبب جاءت القصص بصيغة الماضي والمشاهدة. ولذلك كان يكثر من التلصص والرؤية والتحايل على كل أشكال الحواجز الطبيعية كالجدران والأبواب المغلقة (وهذا دليل مؤكد على الكمون الذي يتحكم بالإنسان من المهد إلى اللحد). وربما هو سبب ارتكاب بولص لانتهاكات بسيطة ضد المنطق (كما ورد في المقدمة التي كتبها الدكتور حسين سرمك حسن للقصص). فقد استعمل أحد السجناء السلّم لينظر للباحة من خلال النافذة المرتفعة. وبالعادة لا تؤمن السجون هذه الرفاهية، ولا تترك للسجناء مرقاة ترفعهم من الدرك الأسفل الذي أسقطوا به عمدا. أصلا السجن هو إلقاء في حفرة، إما تكون تحت الأرض كسرداب أو بئر جاف، أو تكون معتمة مثل مغارة.

أدب السجون

والسجن، كما يقول فوكو، هو بجانب من جوانبه مجتمع ينظر للحريات الفطرية من منظور إجباري. وعليه إن كل كبت للحرية هو سجن بقوة المجاز. ولعل بولص كان يقصد تمرير هذه الفكرة في قصصه الظريفة والشفافة والتي أعادت ترتيب علاقة الأشخاص بموضوعاتهم وفق معايير ثابتة ومعايير متبدلة. وهو ما أريد أن أقوله بالضبط.

إن قصص هذه المجموعة مختلفة عما ألفناه واعتدنا عليه من أدب السجون.

فهي لا تعيد تركيب آلة العقاب، ولا تتابع معاناة السجناء معها. وتقريبا لا يوجد أي مشهد تعذيب كما هو الحال في أدبيات الحجز السياسي. ولنتذكر هنا رواية “الساحات” للأردني سالم النحاس، أو حتى “قافلة الإعدام” للإيراني بهروز قمري. إن قصص آدم نظيفة من التشوهات الجسدية ومن أدوات التنكيل، وربما من لغة التألم التي تفنن قمري في مذكراته بالكلام عنها وباستطرادات سادية ومرعبة ومؤلمة. وإن أطلق بولص آدم على مجموعته صفة أنها كتابه الثالث من “واقعيته الوحشية” (ص3) فأنا لم أجد فيها أي توحش أو تغوّل، ولا حتى أي مفردة من قاموسنا العربي الغني بكلمات وجمل الألم والفجيعة (الفاجع بلغة صدقي إسماعيل في كلامه عن الحساسية العربية تجاه القدر المأساوي والمتكرر، أو المثكل بلغة الدكتور سرمك كاتب المقدمة). وبالعكس توجد علاقة انبهار جمالي ومحزن بنفس الوقت عن الطرق الغريبة التي يتعرف بها كل شخص على نفسه. فالسجن عند بولص يكاد يشبه الثكنة العسكرية، وينطوي على واقع مفارق وخشن ومزعج، ولكنه لا يمت لآلة العقاب بصلة واضحة. والمشاهد التي تبلغ بها علاقة الشخصيات مع الطبيعة درجة الصلاة أو العبادة كثيرة، فأين التعذيب بهذا المعنى؟؟.

حتى أن بطل قصة “حدث ذات مرة” يجد بطريقة عجيبة أن السجن” يدحر ذكريات الحياة المشبعة بالشكوك والخديعة”. ويتركك “أمام مدى الفيافي والسهول وزرقة على امتداد البصر حتى السماء”(ص40). بتعبير آخر السجن خلاص من الرزايا واتصال بالفضاء اللامتناهي. كانت المعاناة الفعلية داخل الزنزانة، وكل شيء خارجها مساحة حرة حتى لو هي باحة السجن. وكانت هذه الباحة تستحق من الجميع المغامرة لاستراق النظر. وكم يبدو لي أبطال بولص قانعين بالمقارنة مع مونت كريستو بطل اسكندر دوما المعروف. ففي القصص كانوا يحفرون في الجدار للتلصص عما وراء السور، بينما بطل دوما حفر حفرته بنية الهرب والانتقام. وهذه ظاهرة إضافية تستحق الاهتمام أيضا. لم يبد أي من أبطال القصص نفس السلوك الانتقامي، وكانوا يتعايشون مع مأساتهم وكأنهم هنا بملء إرادتهم. ولذلك أجد أن “باصات أبو غريب” هي الحافلات التي يتجول بها كل مواطن في أرجاء مدينته وربما جغرافيا بلده. فهي حافلات الحرمان الجماعي في بلد سقط في النفق المظلم وتحول لسجن كبير ومفتوح وتتحكم به الضرورة والندرة. وكانت كل القوانين الاجتماعية تعمل وفق مبدأ التصارع أو فكرة الكفاحية السلبية.. أن تغتنم أي فرصة لتنجو بجلدك من الموت. وهذا يقرب عالم السجناء من نوع من الحس المازوشي، فهم يستمتعون بعذاباتهم لأن الحياة تتطلب مثل هذا الواقع.

لغة أدب السجون

وبنفس الوقت يسجل بولص خلافا آخر مع أدب السجون، فهو يختلف في حبكته عن أدوات التواصل مع الذات ومع الآخرين. إنه لا ينظر لنفسه من داخل جو المحنة، ولا يتواصل مع زملائه بطرق مبتكرة مثل الطرق على الجدار أو استعمال الإشارة كما هو حال قصص “سجين في عكا” لناديا خوست.

وبالمناسبة. مثلما أنه يوجد لسان أو لغة خاصة بعمال المرافئ، وهي مكونة من حطام لغات وتجارب جميع صغار البحارة، كذلك يوجد في السجون لغات محلية خاصة بالمحكومين ولا يفهمها السجان. غير أنه في “باصات أبو غريب” استعمل الضحية والجلاد لغة واحدة مشحونة بدراما موضع كل منهم. وهذا يعيدنا مرة أخرى لافتراضنا السابق. أنها لغة ثنائيات تعبر عن حالة فئة أعلى وفئة أدنى، أو لغة تكشف عن هرم تراتبي في المواضع: من بيده السلطة يستعمل مفردات عدوانية تدل على النفوذ والتسلط والسادية. ومن تبقى يلجأ لمفردات منكسرة وخافتة النبرة ومازوشية، تساعده على استيعاب مكانته المتدنية ووضعه المنخفض.

وهنا لا بد من ملاحظة.

مع أن عدد السجناء أكبر بما لا يقاس من عدد السجانين تساوت مفردات النوعين بالتكرار والتواتر، كما لو أن السجن صورة مصغرة عن مجتمع الحرية المزعومة. وهناك أكثر من شبهة تؤكد فكرتي عن فلسفة بولص آدم: أن سجن أبو غريب هو نهاية منطقية لبلده. وفي حقيقة الأمر إن المشاهد الطبيعية المنبسطة، وتلصص السجناء عليها، يدعنا نجزم أن أيام السجن مجرد استعارة أو مجاز. بمعنى أن الوطن كله سجين، وأن جميع الفئات مكتوب عليها أن تتصارع فيما بينها على أساس حاكم ومحكوم فقط. وبهذه الطريقة استطاع بولص أن يعيد تركيب هوية مجتمع متفاوت بالإمكانيات وطبقي ومختلف مع نفسه لكنه يمر بأصعب منعطف في تاريخه. ويمكن أن تفهم من العنوان أن أبطاله على متن الحافلة، وهي بجولة سياحية داخل مربعات الخوف والحرمان والعبث غير الوجودي. أو ما أسميه اللاجدوى الوطنية. 

القصة ورواية الأصوات

تبقى نقطة أخيرة.

لدي عدة أسباب لأتعامل مع القصص على أنها رواية تتناوب عليها أصوات، كل صوت يدلي بوجهة نظره عن موضوع واحد وهو السجن، وعن مشكلة واحدة وهي العلاقة الإشكالية بين الإنسان وواقعه. وبرأيي إذا اعتبرنا أن “جسر على نهر درينا” لإيفو أندرتش رواية، من باب أولى أن نقول نفس الشيء عن “باصات أبو غريب”. كان عمل أندرتش رواية بسبب التقابل الدرامي بين الثابت (وهو الجسر) والمتحرك (وهو تيار مياه النهر). بينما في قصص بولص كان لدينا ثلاثة أركان درامية.

الأول هو المكان الواحد والمساحة المحدودة. فكل الأحداث تتوالى فوق مربع واحد هو الزنزانة أو باحة السجن.

الثاني هو الموضوع. ومع أنه عن بلد في حالة احتقان ومواجهة مع أعداء مفترضين، فهو بجوهره عن الشرط الوجودي لإنسان يقضم نفسه ويستهلك ذاكرته.

الثالث والأخير هو تناوب الشخصيات على القصص. فهي تغيب وتعاود الظهور كأننا في عرض مسرحي، أو نتابع أحداث رواية واحدة، مثل دعير المطرب الذي يلعب دورا في قصة “علاكات تعبان” ثم في قصة “بانتظار الأبوذية” وهكذا..

ولا أريد أن أوحي أن الأسلوب أو الشكل كان مهما. فالأحداث هي التي كتبت نفسها ببساطة. وتصادف أنها متسلسلة بشكل قصص رواية أو أصوات تغطي جزئيات من جو أعتى دكتاتورية مرت بها منطقتنا في تاريخها الحديث.

 

د. صالح الرزوق

...............

* باصات أبو غريب. قصص بولص آدم. منشورات دار نينوى. دمشق. 2020.

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم