صحيفة المثقف

دراسة في عوالم نصوص: عالم النساء الوحيدات (2)

حيدر عبدالرضاللكاتبة لطفية الدليمي.. بنية تداخل الحكي في النص الآخر من التأويل المضمر

الفصل الثالث ـ المبحث (2)


 

توطئة:

يجدر بنا ونحن نعاين عوالم نصوص الملحق الآخر من رواية (عالم النساء الوحيدات) أن نتساءل بدءا: هل علاقة النص الروائي في دلالات مضمون الرواية قد انتهت حقا في حدود نهاية حكاية رواية عالم النساء الوحيدات؟ وإذا كان هذا الأمر فعلا هو ما يحدد نهايات موضوعة الرواية وحكايتها كوحدة دلالية مستقلة في ذاتها فما وظيفة القسم الآخر من نصوص (هو الذي أتى / أخوات الشمس الوحيدات / ليلة العنقاء / عشاء لأثنين) فهل من المصادفة أن تلتحم هذه الفصول مع حكاية الرواية داخل ذات الشكل من المعالجة الثيماتية المحددة في موجهات مداليل عالم النساء الوحيدات؟ . سوف نتعامل مع هذه النصوص المتعاقبة وثيمة الرواية، رغم أنها متغايرة في الشخوص وأسماء الأماكن وأحوال الأزمنة والعنوانات النصية، ولكنها متوحدة تحت يافطة مدلولية مخصوصة من عوالم النساء الوحيدات، لذا فهي ليست قصصا قصيرة في أي وجه من وجوه المعنى المخصوص في بناء وأسلوب وسياق واداة فن القصة القصيرة، لأنها ببساطة لا تتفق مع مؤطرات بنى ومتون العوالم القصصية القصيرة ذات الزمن المضغوط والمكان المحدد والشخصية التي تهيمن على جميع أفعال الفضاء القصصي القصير، بل نقول أنها روايات قصيرة أن صح التعبير، وذلك نظرا لإتفاقها مع فضاءات وادوات الفن الروائي القصير تحديدا، ما جعلنا نتعامل وإيها كسرديات نصية مقاربة في التداخل مع دلالات ونسق رواية عالم النساء الوحيدات .

ـ مرويات الراوي المشارك واستباقية الوحدات .

بهذا الأعتبار من القراءة المبحثية لهذا الفرع من تجربة المعاينة النقدية لدينا، سوف نتناول مكونات السارد / الراوي، المشارك في النص، كمحورية تتمثل وتتماثل بعلاقة الشخصية ـ نهاد ـ تجاه مواقع المكان والزمان والشخوص في النص، بادىء ذي بدء تعرفنا الكاتبة لطفية الدليمي على لسان حال المؤلف الضمني / الراوي، بمعروضية تفاصيل مؤهلات وكيفيات كتابة هذا النص الذي هو قصة خاصة بحكاية المحور المركزي المشارك في النص: (هذه القصة ليست سوى  ــ قصة حب ـ  وما هي بالأسطورة أو الخرافة، وأنا أرويها لكم لا أنتظر منكم أن تصدقوها، حسبي أنني عشتها / والقصة بعد هذا لا تخص أحدا سواي . / ص83 النص) وبهذه العتبة الأستهلالية من النص تضعنا الكاتبة الدليمي أمام خيارات في غاية التماثل الإيحاء واللعبة السردية المؤولة من المعنى الآخر من تأويل المعنى، وصولا منها إلى عتبة عنونة بأسم نهال حيث تبتدأ من خلالها الوظيفة المسرودة الذاتية لحياة شخصية النص: (كلما دخلت متحفا كان يحدث لي هذا الأمر الغريب: دوار وضيق في الصدر وانبهار في الأنفاس يتبعه خدر يسري من أسفل الرأس إلى الظهر والأطراف .. أجل كان يحدث لي ذلك ثم تبدأ يداي بالارتعاش ويتسارع نبضي وتجتاحني موجة من الحرارة . / ص83 النص) وفي سياق تصعيد الحكي من جهة السارد المشارك، تواجهنا مستويات تبئيرية خاصة تذكرنا بأجواء نصوص الفنتايزيا والأدب العجائبي، منها إلى مختزلات الفضاء الأغترابي المغلق بوحدات الشخصية الذاتية مع عوالم تداعياتها المتخيلة في دلالات الواقع المعاش تحولا معادلا .

1ـ الفضاء النصي بين تحولات الزمن وتشيء الرؤية:

و يثابر السارد المشارك على سرد وإلتقاط جزئيات غرائبية من فواصل الفضاء النصي الممتد إيهاما في مسافة مجردة من الزمن الميثولوجي المحفوف في شواهد الأمكنة والحالات الاسترجاعية المخصوصة من زمن المصدر والمرجع، لذلك كانت لوظيفة السارد المشارك المتمثل بنهاد الباحثة في علم الآثار، استحضارا لتلك العلاقة القديمة بزميلها جواد والذي كان هو الآخر متخصصا في علم الآثار السومرية: (وقبل ثلاثة أيام حدث الشيء نفسه وأنا أزور المتحف مع طالباتي، بعد أن انقطعت عن التردد عن هذا المكان طيلة ثلاث سنوات وبضعة شهور .. كنت مترددة في الدخول لكنني تماسكت ومضيت، وما هي إلا برهة حتى بدأت أحس بأعراض الدوار .. فأخذت أترنح وأزداد نبضي وتقطعت أنفاسي وبدأت أقاوم / ثم أسندت رأسي وظهري إلى سطحه الأملس .. بعد قليل أحسست بشيء من الراحة وأنعشتني برودة الرخام الناعمة الملاصقة لوجنتي / كنت مغمضة العينين ولربما تنهدت عندما أحسست بالرخام الصقيل دافئا من حرارة وجهي ونظرت إليه .. كان أشبه بثوب ساتان لؤلؤي ترتديه أم مجهولة ألوذ بها من عذابي . / ص84 النص) يبدو أن الفضاء الخارجي في هذه الوحدات من النص ذا مرجعية خاصة وحيثيات فضاء الأنوثة لدى الساردة المشاركة، إذ أنها تشعر بذاتها أصبحت مع ملمس الرخام الأثري متفاعلة ومسترخية، وهذا الأمر هو صفة تشيؤ معالم المرجع الأثري مع معطى واقع الأنوثة المحاصرة داخل فضاء واقعها الذاتي المغلق، وتنبعث من تفاصيل العلاقة مع الذات والمكان حالة خاصة من المضاعفة والهيمنة والأستذكار لذلك العشق القديم، وبذلك أصبحت الساردة المشاركة تصاب بالدوار والغبطة وضيق الأنفاس بمجرد دخولها قاعة الآثار السومرية القديمة، وهذا الأمر ما جعلنا نشعر بأن الساردة المشاركة تقدم لنا في النص كل تلك المبررات العاطفية والنفسية حيال شعورها عند دخولها قاعة المتحف واستنشاق تلك الروائح القادمة من رخام التماثيل والجدران والقطع الأخرى من واصلة الذاكرة الرابطة مع ذكرى عوالم زميلها جواد: (منذ سنوات وأنا أتجنب زيارة المتحف ــ لأن الدوار والخدر يحلان بي كأنهما اللعنة كلما رأيت الهياكل العظمية وأواني النذور التي يعلوها أوكسيد النحاس الأخضر والتماثيل المستغيثة من أسر الحجر .. ومرة أخرى افتتنت الفتيات بتلك العقود الرائعة التي كانت تتزين بها كاهنات أور المترفات .. عقود هي هدايا الملك لمحظياته العابدات منظومة من خرز الذهب والفضة واللازورد والعقيق .. وبهرتهن براعة الفن، من دون أن يخطر ببالهن ما وراء ذلك الجمال من تفاصيل خفية: من حب وبغض وغيرة وسحر ومكائد والآم ونبوآت . / ص85 النص) وهذا الفضاء الذي يتبأر عن طريق رؤية الساردة المشاركة تخصيصا، يفصح لنا عن أسرار ما وراء السرد المتشيء في علاقات الحاضر المكاني والزماني والمشهدي، امتدادا نحو وثوقية مرجعية عالم الساردة المشاركة إلى ما وراء جمال الظاهر من فضاء رخام التماثيل وسلاسل وقلائد اللؤلؤ التي ترتديها تلك الأوثان النصفية والجزئية، ولكن يبقى السؤال هل الساردة المشاركة هي من ضمن جملة رواة الأزمنة والأمكنة السحيقة في النسق والمحور التحقيبي؟ أم تراها امتدادا في علاقة السارد الخارجي والداخلي أو المتعدد من المسرود؟ وبذلك تلوح لنا موجهات المسرود نحو علاقة انفصالية مشهدية ممكنة بين الفضاء الداخلي للساردة الشخصية وذلك الطرف الموارب من الفضاء الخارجي المتصل وحدود وقائع متخيلة وإيهامية في مسار وظيفة النص: (أقتربت مني أحدى الفتيات وقالت: ـ ست نهال وجهك شاحب أنت متعبة، أتحتاجين لشيء؟: ـ لا بأس .. علي .. لا تشغلي نفسك بي ... أذهبي وتمتعي بزيارتك .. طرفت عينا الفتاة وتوهج خدها، ثم سرت في صوتها رجفة الانفعال وهي تهمس بأسمي من جديد: ست .. نه .. ال .. ـ أذهبي يا سميراميس لا تقفي هكذا أمامي، أذهبي لئلا تسمعي من الأخريات ما يكدرك: ـ أأحضر لك شيئا تشربينه، أم أنك بحاجة إلى دواء؟ . / ص85) .

2 ـ الفضاء الخارجي بين مسافة العلاقة السردية والمسرود المتمحور:

يشكل الفضاء الخارجي في وقائع ومرويات السارد المشارك ما يحملنا على الاعتقاد القرائي بأن السارد المشارك راح يطرح في الوحدات النصية ثمة تطلعات مفتقدة في مجال المسرود الحاضر من الفضاء الداخلي في عوالم الشخصية لذا نجد عندما تتحاور شخصية الفتاة الطالبة مع الساردة المشاركة، تباغتنا لغة غريبة في الحوار / الكولاج، وكأن ما قالته الساردة المشاركة بوصفها الأستاذة في علوم الآثار إلى الفتاة الطالبة ما يشكل بذاته خروجا عن مسار طبيعة الملفوظ في مرمى موضوعة التحاور: (أذهبي يا سميراميس؟ / اختلجت شفتا الفتاة ومدت يدها الصغيرة إلى كتفي، مستها بسرعة ثم سحبت يدها بخوف . / ص85 النص) ما حدث في الواقع لزمن ملفوظ الأستاذة، هو ذلك التماثل مع موجات وخصوصية عقلها الباطن الذي سلخ حقبة طويلة من زمنها في دراسة الآثار السومرية، ومدى تشبعها بثقافة هذه العصور، ما راح يعكس في الآن نفسه طابعا نفسيا وعاطفيا في عوالم خلفية ذهنها المشرب بثقافة هذه العصور وبكافة تفاصيلها وطباعها المشبعة بأسماء الملوك والجواري والرقع الرقمية الطينية والطلاسم السحرية، وصولا إلى أنها كانت تتشبه بذلك التمثال العائد إلى جوديا حاكم لكش بشخصية زميلها وخطيبها جواد الذي كان مختصا بدراسة العصر السومري وبخاصة حول أسرار الملك جوديا في رسالته العلمية: (كنا ندرس معا في قسم الآثار، ونملك أكفا لها قابلية لمس الزمن، تتلمس نصوص أسلافنا المدونة على الحجر والفخار بينما تتوقف حدقاتنا على مدى ساعات عند نص سومري لا نعرف أهو رقية سحرية أم قصيدة حب / وبعد تخرجنا اختار جواد العصر السومري الحديث موضوعا لأطروحة الماجستير وحدد عصر ـ جوديا ـ حاكم لكش وبدأ بدراسة رقمه الطينية وتماثيله وما تبقى من معابده في لكش / وجمعت المادة الأولية لأطروحتي عن أشكال عبادة ـ إينانا ـ عشتار السومرية في بلاد الرافدين .. وبدأت وطأة الدوار والخدر كلما دخلت المتحف أو مكتبته .. وأنصرف جواد إلى جوديا وصارا يتسامران مثل أي رجلين، ويتبادلان الود والطرائف والوعود والأسرار . / ص90 ص 91) بالضبط على هذا النحو من التماثل والتمثيلات وجدنا تمظهرات آليات العلاقة الخارجية الموظفة ما بين (الفضاء الخارجي / الفضاء الداخلي) وما تتوزعهما من مسافة مركبة من علامات التماثل والتجسيد في أدوار المحاور والمنظورات الاستدعائية من جهة الساردة المشاركة، كشخصية محورية تحافظ على موقع تمفصلات حاضرها المعاش وتسترق من خلاله إلى استرجاع مجسدات العلاقة الإيهامية بجواد وعوالم مملوكات جوديا، وجواد وجوديا هما موقعان منظوران من قبل حلمية السارد الشخصية، وذلك عبر موقع استمالاتها إلى ذلك الزمن الاسترجاعي ـ تعديلا ـ في حدود تفاصيل حياتها الراهنة كباحثة في علوم الآثار، وهذا الأمر بدوره ما جعلها تنظر إلى تمثال جوديا والساعات وجميع المقتنيات الأخرى في قاعة المتحف، كجهات موضوعية دالة تربطها بجواد خطيبها، علاقة متمحورة في ذاتها وإلى أقصى درجة من درجات الهستيريا والهلوسة أو الانفصام الشخصي إلى حد ما في مركب ذاتها: (ولاحظ الجميع حالات هذا المرض اللعين الغامض . والنوبات الحادة التي تنتابني وأنا أتحرك داخل قاعات المتحف ومكتبته . / ص91).

3 ـ رحيل جواد عبر الأزمنة والسارد المشارك في غيبوبة الوحدة:

لهذا الفرع من مبحثنا المركزي، ثمة دلالات أكثر سيميائية وخاصية العلاقة ما بين المحور المركز نهال والشخصية جواد، فيما قد تحولت علاقة الأثنان إلى علاقة رسمية بحكم كون جواد قد طلب يد نهال كزوجة من والدتها، وقد تحقق الأقتران برابطة الخطوبة الرسمية، ولكن الإشكالية الكبرى في حياة الشخصية الساردة نهال ظلت مأزومة بسبب تركها لإطروحتها في الماجستير نظرا لذلك المرض اللعين المزامن لأحوالها، مع انشغال خطيبها جواد عنها في البحث والتنقيب في كل متاحف المدن عن أسرار الحاكم جوديا: (قال: نهال، أنا مضطر إلى السفر سألاحق ـ جوديا ـ في متاحف الدنيا وعند ما أنجز عملي وتناقش رسالتي نتزوج . / ص93 النص) نحن إذن حيال شواهد غرائبية مكرسة في ملامح مأزومية صورة المرأة المسكونة بفواصل فراق والوحدة، وتلك التي لم يقدر لها العيش في شرائط ومشروطية السعادة الكاملة كزوجة . أن الكاتبة الروائية لطفية الدليمي، أرادت من وراء نصها السردي هذا، التقاط طرائق متفردة من صياغة عذابات المرأة الوحدة، وفي محاولة منها إلى بناء مرجعية شعورية خاصة تتعلق بامتداد عصور عذابات المرأة ذاتها وكيفية وصولها إلى أعلى مراحل من سوء الحظوظ والطالع والنصيب، رغم تفوقها وكفاءة دورها الناشط في مسلة الحياة . وتبعا لهذا ننظر إلى كيفية وقوع مصير المحور الشخوصي نهال، كساردة مشاركة في النص، بعد أن فارقها جواد قتيلا في الحرب: (قبل أن يباشر عمله في قسم السومريات بالمتحف كانت الحرب المروعة على حدودنا الشرقية قد دخلت عامها الثاني فأخذوا جواد إلى جبهة الكوت .. قال: ـ نهال نتزوج في الربيع، في أول نيسان عيد ـ أكيتو ـ رأس السنة العراقية القديمة،آخذك إلى معبد قديم / وفي لحظات كثيرة يختلط وجه الرجلين أمامي وتمتلكني الحيرة: كيف سيتدبر هذا الرجل أمر حياتنا المقبلة وهو جوال بين الأزمنة .. بعد الحرب تحول الرجل إلى صوت، وشجرة، وطائر، وغيمة، أصبح عاشقا شفافا وحزينا . / ص98 ص99 النص) أن شعرية الوظيفة في الخطاب المسرود، أخذت على عاتقها توظيف وكشف المسكوت عنه ما بين السطور وصولا إلى تلك القصدية الشعرية في مفردات استعارية عميقة قوامها مشحونا بالحيرة والقلق والتساؤل عن معنى الحب والحرب والحلم المسكون في مجرى الزمن المجهول، تتضح من خلال الأحداث المسرودة في الحكي، أن جواد كان قبل موته قد سلم إلى نهال مسودة أطروحة الماجستير الخاصة بدراسة الحاكم جوديا: (نهضت وتابعت نشر أطروحته وفي الذكرى الأولى لرحيله صدر الكتاب ـ جوديا أمير لكش وعصره الذهبي ـ أخذت النسخة الأولى وذهبت إليه، كنت قد زرعت خلال أشهر صمتي حديقة صغيرة حول قبره من شجيرات الآس والجوري وكنت أخشى أن أهمس له بشيء: هذا اليوم سأحدثه بكل ما يعني لي وسأنصت إلى صوته: سينهض صوته، إنني أسمعه: أسمعه . / ص101) .

ـ تعليق القراءة:

في الختام من عتبة (تعليق القراءة) لدراسة مبحثنا نقول أن عنوان نص (هو الذي أتى) أستعارة من ملحمة كلكامش على حد ما ذكرته إحالات الكاتبة في نهاية النص . وهذا الأمر بدوره ما جعل القيمة العنوانية كعلاقة توالدية متخيلة، أخذت تشخص حدود التقابلات المرجعية في وظيفة الحكي المسرود بشاهدة ولادة الصورة الرمزية المترتبة بين الذات الساردة وذلك النص الآخر القابع ما بين زمانين وفضاءين، وعلى هذا النحو وجدنا فضاء الفقدان المشخص للذات الساردة والآخر يشكلان علاقة حميمة نقية، ولعل أهم خصيصة في محكي النص هو ما جاءت به المجاورة في العلاقة السردية بذاتها اقترانا بذلك المعطى التشكيلي السابح في المناصات المرجعية الفاعلة من بنية تداخل محكيات النص الآخر من التأويل المضمر في خصوصية التبئير النصي المكين .

 

حيدر عبد الرضا

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم