صحيفة المثقف

أن تعيش لتحكي (3)

كاظم الموسوياختتم الروائي الكولومبي العالمي جبراييل جارثيا ماركيز (6 آذار/ مارس 1927 - 17 نيسان/ ابريل 2014)  الجزء الاول من مذكراته، بكتابة رسالة رسمية إلى حبيبته، مارسيدس بارشا، (مارثيدس) لسؤالها عن علاقتهما واخبارها عنه وانتظار جوابها لاتخاذ القرار المصيري!، والذي رسم مستقبلهما، وعاشا بعد الزواج، اجمل سنوات العمر، اكثر من ست وخمسين سنة سوية، من عام 1958 حتى 17 أبريل/نيسان عام 2014، رواها فصولا وسردها حكايات. "عند نزولي من الطائرة اخذت (ورقة) واحدة زرقاء سماوي، وكتبت أول رسالة رسمية لمارثيدس الجالسة أمام باب بيتها في الساعة السابعة صباحا، بفستانها الاخضر كعروس بلا عريس، وشعرها كسنونو غير واثق من نفسه، دون أن تنتبه لمن ارتدت فستانها مع طلوع النهار (ص496).

كانا طفلين عندما التقيا عام 1941، هي في التاسعة من عمرها، وهو  في الرابعة عشرة من العمر، وتعلق قلباهما "من أول نظرة واول لقاء" وكأنهما يقرآن مستقبلهما.  وعاشت معه أيامه مبدعا ومثقفا عضويا إنسانيا له اسمه ومكانه في المشهد الثقافي والسياسي في بلاده والعالم، ومثله عمرت سبعا وثمانين سنة، وإدارت مؤسسته، بعد فراقهما، رحيله الاخير. وحين توفيت في البيت نفسه الذي سبقها برحيله فيه، نعتها مؤسسته، التي ادارتها، واسمها  "مؤسسة جابرييل جارسيا (جارثيا) ماركيز للصحافة الإيبرية الأمريكية الجديدة"، معلنة أن مرسيدس بارشا "توفيت في منزلها في مكسيكوستي، (2020/08/15) حيث استقرت مع (جابو) ( كنية جبراييل جارثيا ماركيز المحببة له) فيه منذ 1961. وجرى الحديث عن أصول عربية لها، من ابويها اللذين هاجرا من الإسكندرية إلى كولومبيا وعملا في محل صيدلة، كمهنة أبي غابو. وهناك حصل اللقاء. (وكذلك مثل الترجمة العربية للاسماء اختلف حول اصول بلدها، ولكن اتفق على عروبتها).

اعترف جابو أن مرسيدس بارشا هي الحب الكبير في حياته وملهمته وموفرة مناخات العمل لابداعه، لاسيما في كتابة روايته "مائة عام من العزلة،" التي استغرقت كتابتها مدة 18 شهرا. وعبّر جارسيا بامتنان عن تحمل زوجته الكثير قائلا، "عندما نفد المال لم تقل شيئا. ولا أعرف كيف نجحت مرثيدس بجعل الجزار يعطيها اللحم والخباز الخبز والمالك انتظار تسعة أشهر حتى استطعنا دفع الإيجار". ورهنت حلقة الزواج من أجل تسديد ثمن بريد مخطوطة القسم الثاني من رواية مائة عام من  العزلة للطبع، واهدى لها روايته الشهيرة، الحب في زمن الكوليرا، التي نشرت عام 1985 .

كشف جابو عن حبه لمرسيدس وارتباطه منذ أصبحت في السادسة عشر من عمرها،  وحين تقدم لها وافقت دون تردد، وعندما عاد غابو إلى وطنه، بعد أن أنهى عمله، كانت مرسيدس تنتظره بفارغ الصبر، وبعد أيام قليلة من لقائهما مرة أخرى، بدأ المحبان في التخطيط لكل شيء، بدءا من حفل زفافهما، الذي تم في21 آذار/ مارس 1958، والعيش سوية بدون كتابة رسائل وتبادلها، وليقضيا عمرا ممتعا لهما.

في رسالة الوداع الأخيرة، التي كتبها الاديب ماركيز، ونشرها على موقعه على الانترنت، وهو على فراش المرض اللعين، معلنا إعتزاله عن الحياة العامة، واستئذانه من قرائه ورفاقه ومحبيه وزملاء مهنته، ودع فيها محبوبته، رفيقة العمر، كاتبا فيها: "لو كنت أعرف أنها المرة الأخيرة التي أراكِ فيها نائمة لكنت ضممتك بشدة بين ذراعي ولتضرعت إلى الله أن يجعلني حارسا لروحك.. لو كنت أعرف أنها الدقائق الأخيرة التي أراك فيها، لقلت «أحبك» ولتجاهلت، بخجل، أنك تعرفين ذلك. هناك دوما يوم الغد، والحياة تمنحنا الفرصة لنفعل الأفضل، لكن لو أنني مخطئ وهذا هو يومي الأخير، أحب أن أقول كم أحبك، وأنني لن أنساك أبدا".

 وبمعين الحكمة وخبرته الثقافية كتب: لو شاء الله أن يهبني شيئا من حياة أخرى، فإنني سوف أستثمرها بكل قواي .. ربما لن أقول كل ما أفكر به لكنني حتما سأفكر في كل ما سأقوله. سأمنح الأشياء قيمتها، لا لما تمثله، بل لما تعنيه. سأنام قليلا، وأحلم كثيرا، مدركا أن كل دقيقة نغلق فيها أعيننا تعني خسارة ستين ثانية من النور .. سوف أسير فيما يتوقف الآخرون، وسأصحو فيما الكل نيام ..". وهو يدرك أنه يتمنى: "لو شاء ربي أن يهبني حياة أخرى، سأبرهن للناس كم يخطئون عندما يعتقدون أنهم لن يكونوا عشاقا متى شاخوا، دون أن يدروا أنهم يشيخون إذا توقفوا عن العشق .. للطفل سوف أمنحه الأجنحة، لكنني سأدعه يتعلم التحليق وحده .. وللكهول سأعلمهم أن الموت لا يأتي مع الشيخوخة بل بفعل النسيان".. ويعترف بصراحة: "لقد تعلمت منكم الكثير أيها البشر .. تعلمت أن الجميع يريد العيش في قمة الجبل غير مدركين أن سر السعادة يكمن في تسلقه.. تعلمت أن المولود الجديد حين يشد على أصبع أبيه للمرة الأولى فذلك يعني أنه أمسك بها إلى الأبد. تعلمت أن الإنسان يحق له أن ينظر من فوق إلى الآخر فقط حين يجب أن يساعده على الوقوف .. تعلمت منكم أشياء كثيرة! لكن قلة منها ستفيدني، لأنها عندما ستوضب في حقيبتي أكون أودع الحياة". وينصح بشجاعة وجرأة: " قل دائما ما تشعر به وافعل ما تفكر فيه .. لأن الغد ليس مضمونا لا لشاب أو مسن. ربما تكون في هذا اليوم المرة الأخيرة التي ترى فيها أولئك الذين تحبهم. فلا تنتظر أكثر، تصرف اليوم لأن الغد قد لا يأتي ولا بد أن تندم على اليوم الذي لم تجد فيه الوقت من أجل ابتسامة، أو عناق، أو أنك كنت مشغولا كي ترسل لهم أمنية أخيرة .. حافظ بقربك على من تحب، أهمس في أذنهم أنك بحاجة إليهم، أحببهم واعتن بهم، وخذ ما يكفي من الوقت لتقول لهم عبارات مثل: أفهمك، سامحني، من فضلك، شكرا، وكل كلمات الحب التي تعرفها. لن يتذكرك أحد من أجل ما تضمر من أفكار، فاطلب من الرب القوة والحكمة للتعبير عنها. وبرهن لأصدقائك ولأحبائك كم هم مهمون لديك".

تقدم كلمات الوداع الأخيرة لمثقف عضوي، عاش حياته مع زوجته وولديه وسرد حكايات أسرته وتاريخ بلدته وشعبه ووطنه، واشتبك في صراعاته السياسية وتحولاته، وفاز بالجوائز العالمية واشتهر اسما مبدعا، تخلده اعماله... كل هذه تقدم دروسا وعبرا لمن يريد أن يستفيد من حياته وأيامه ويبني عليها سجلا اخر من حياة لا تتكرر دائما أو تعود مثلها. وليعيش ليحكي أو يروي ..

 

كاظم الموسوي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم