صحيفة المثقف

قراءة نقدية في رواية: في ديسمبر تنتهي كل الأحلام

حيدر عبدالرضاللكاتبة السعودية أثير عبد الله النشمي

تجليات الفاعل السارد بين متواليات المضمر وغياهب الأنموذج الآخر

توطئة:

أن ما يثير اهتمام القارىء الروائي في عوالم روايات الروائية السعودية أثير عبد الله النشمي، هي محاور ووظائف روايتها موضع بحثنا (في ديسمبر تنتهي كل الأحلام) عبر ذلك الأنموذج المقترن في غياهب المعلن والمصرح من بنية مدار التمكين السردي، فالبعض من المواقع الشخوصية من الرواية، أخذت تقدم لنا ذاتها في صيغة من الحكي المقارب في خطية نمو تصاعدي واسترجاعي، فيما أخذ البعض منها متمسكا بوظيفة الجنوح في خفايا التواصل والانقطاع من ذروة الكشف واللاكشف في موثوقيات متخيل النص .

ـ الوحدات السردية وتمظهرات الخلفية الروائية

في مستهل العتبة الأولى من النص، يكشف لنا الضمير السارد عن جملة كيفيات ومبررات ومميزات تلك الشخصية الأكثر نزوعا في ملفوظها الكينوني والدلالي عن باقي شخوص الرواية . فالشخصية هذام هو أحد شخصيات الرواية المركزية والأكثر إيغالا في محكيات أحوال وأخبار الرواية، لذا نجده غالبا ما يشكل في ذاته، ذلك الفاعل المتكفل بوظيفة الحكي، نقلا عن خطاب موضوعة النص بكافة تعلقاتها التأشيرية واللاتأشيرية . فيما تبقى وحدات الحكي بادئا في الرواية، كحال يقوم السارد المشارك بتقديمها كمقدمة تمهيدية تتحدث عن تلك المرأة المسماة (ولادة) وكأنها مظهرا مصاغا في مستوى من المهيمن على تفاصيل حياة الشخصية هذام: (تدهشني كثيرا هذه المرأة .. تدهشني فوضويتها في الحياة جنوح مشاعرها .. واللاشيء الذي يربطها بأي شيء أو أحد .. لست أعرف إن كان هذا هو ما يغريني بها .. ما أعرفه جيدا هو أنها امرأة استثنائية . / ص11 الرواية) وعلى هذا النحو من التدقيق في موجهات الفضاء المغلق للمرأة، تتكون لدينا دوافع عن تلك الشخصية ولادة الصابئية، كحالة قريبة من النمو المضمر بالنسبة إلى توالد مواقف الرواية الأخرى في كل مكشوفية ومحورية بينة . غير إن حديث السارد عن فضاء هذه الشخصية الأنثى، تنبثق في سيرورة متوترة ومتماثلة إلى مظهر ومدلول (الفضاء المغلق) الذي من شأنه عدم الكشف عن مواقف هذه الشخصية بصورة الحضور الممنوح جهرا في مركب السرد . وعندما نتمعن في كمال هذه الشخصية التي غلبت لب الشخصية الساردة في النص (هذام) نجدها شخصية ذات مواضعات حادة في الذكاء والحنكة الحجاجية، وصولا منها إلى ذلك الأنموذج الذي لا يتاح في متناول اليد والطلب دائما، بل إنها امرأة زئبقية مشرنقة في كوامن وجودها العصي على اللمس المادي والزمني من قبل هذام، وهذا الأمر ما جعلها في حدود الكيفية الاستثنائية في أمر مطالب الشخصية هذام نفسه: (أعرف أن هناك ما يربطنا ما يبقينا مشدوهين إلى بعضنا بعضا على الرغم من مرور كل هذه المدة .. هناك انقلاب عنيف , جنوح صارخ .. أحلام محرمة، ولغة ثائرة تجمعنا .. أنا وهي الجانحان بشدة، الثائران بغضب، المتمردان بلا حدود .. الباحثان عن شيء لا يدركانه بلا خريطة ولا خريطة ولا أدنى فكرة / كيف أحبها بكل هذا العنفوان من دون أن أعرف عنها شيئا ! .. وكيف لا أعرفها عنها شيئا وأنا أعرف منها وبها كل الأشياء . / ص13) ويعتبر الفضاء المغلق في العلاقة السردية ما بين ثنائية (الأنا / الآخر) بمثابة الولوج إلى التفاصيل المسكوت عنها في مبئرات هذه الشخصية السرانية، وينتقل السارد في الحديث عنها طويلا، وبطريقة بادئة للإنكسار والاحباط والهزيمة أحيانا في مركب ملء فجوات غياباتها عنه وإلى فترات غير محسومة من زمن الإقرار السردي في الرواية: (كلانا يفضل أن يبقى الآخر شهيا بغموضه، مثيرا بكونه مجهولا .. كلانا أحب هذه اللعبة، وغرق في الآخر حتى النخاع بل هذا الكم من الشغف والحب والتوق .. بلا ماهية تميزنا .. ولا قانون يحكمنا .. ولا أسماء نعرف بها . / ص13) .

1ـ سلطة الآخر وحتمية المتخيل:

و بسبب الجهر بالعوامل السلطوية التي مارسها الآخر الأنثوي في حق أنسانيته المفرطة، غدا الشخصية هذام كعلامة وظاهرة لإسترجاعات الأفعال والمواقف مجرى في التغييرات الأحداثية التي أولت به إلى أقصى غايات (حتمية المتخيل) في مسببات تفكيك واقعه الشخوصي العنيف بحدة ألم التقصي والبحث في خيوط التداعيات الاسترجاعية من زمنه السردي المطروح حاضرا: (حينما جئت لندن حول قرابة التسعة عشر عاما .. جئتها هاربا من كل شيء .. من أن يشارك عشرات الأشخاص في صنع قراري رغما عني .. غادرت الرياض في قمة الغليان السياسي والعسكري .. أثناء حرب الخليج وقبل تحرير الكويت بقرابة الشهرين شعرت وقت ذاك بأن القومية والقبلية والدين ما هي إلا أكاذيب، أنا الذي كنت قوميا حتى النخاع ! . ص33) على هذا النحو من الأفكار والمواقف والأداة، تعرفنا على الشخصية هذام ومنذ بداية حياته في الحب والكتابة ونبذ موروث الأفكار الأولية الناتجة عن قيم الاحاسيس الشخصانية المتحررة لديه وحتى حكاية حبه الأول ولقاءه بزميلته ليلى في الصحيفة: (مرور ليلى لم يكن في حياتي عاديا، أعرف اليوم بأن لقاءنا قد غير مجرى حياتي كليا .. معرفتي بها أدت إلى أن أكون ذلك الشخص الذي أصبحته الآن، الاصطدام الذي حدث بيننا منذ اللحظة الأولى التي إلتقينا فيها في أحدى أروقة الصحيفة . / ص34) طبعا الروائية عبدالله النشمي كحال قريناتها من الأديبات في الخليج، تسعى في أحداث هذا الجزء من روايتها، إلى إثبات أحقية حقوق المرأة بالموازاة مع حقوق الرجل، وهذا الأمر كثيرا ما وجدناه راسخا في رواية الأدب النسوي في الخليج والسعودية بخاصة، وهذا الأمر ما قاد الأحداث السردية نحو سلسلة من النزاعات الجسيمة في محاولة المرأة إلى إثبات مساحتها القانونية والاعتبارية في بنية المجتمع السعودي: (شعرت بأنها بحاجة لمن يساند حقها في المشاركة بالحياة قبل العمل الصحفي .. فدافعت عنها في أجتماعنا الأول حينما أشار أحد زملائنا بصورة غير مباشرة إلى أن المرأة التي تغادر منزلها لتزاحم الرجال في أعمالهم لن تكون إلا امرأة من أثنتين، فأما أن تكون ساقطة، وأما أن تكون مسترجلة والعياذ بالله ! . ص37) وتبعا لهذا تخبرنا الأحداث في الرواية، عن كيفية خسران الشخصية هذام كل صداقاته مع أقرانه من الرجال العاملين في الصحيفة، ولكنه تمسك بعلاقة مثالية مع ليلى وكان امتدادها خلق حالة جديدة في شخصية هذام، ما جعلته شخصا متوغلا في عوالم المطالعة للثقافات والمعارف الفلسفية، وإلى حد ما يمكننا الأشارة حول تطورات العلاقة ما بين الأثنين، حيث لم تكن محض دوافع شهوانية بل إنها علاقة منزهة من الانحدار نحو رذائل السلوك والأخلاق العامة والخاصة: (لم تكن كأي علاقة بين رجل وامرأة في مجتمع كمجتمعنا، لم تجمعنا الشهوة ولا الحب في البداية، الحياة هي التي جمعتنا، تساؤلاتنا .. شكوكنا .. أحلامنا .. إلا أنني أحببتها كثيرا .. كنت أشعر بأنني أغرق في بحرها تدريجيا يوما بعد يوم حوارا تلو الآخر . ص42 الرواية) .

2 ـ بلاغة الفقد والفقدان في ديسمبر:

توافينا في السياق النصي انطباعات الفقدان نذيرا يمتلك منه الشخصية نهاية المطاف حيوية علاقته المتبادلة مع ليلى، ولكن هناك يبقى ذلك الحائل في إتمام عملية الزواج ما بين الطرفين . يخبرنا السارد المشارك عن قضية إستحالة عقد الزوجية ما بين هذام وليلى، وذلك يعود إلى اختلاف المفكرة العائلية ما بين الأثنين دليلا على تزايد الحس القبلي على عادات وسلوك العوائل المتخاصمة فيما بينها أو المتفارقة فيما بينها طبقيا، وهذا الأمر ما أحدث كل الاستحالة على حدوث الوصل ما بين الطرفين: (لم تكن ليلى تناسبني ـ قبائليا ـ وقضية القبائلية هذه هي المأزق العاطفي الأكبر الذي لن يتمكن أحد من الخلاص منه إن وقع فيه .. هذه القضية لا حل لها مهما أمطرت السماء من المعجزات .. لكن الحب يجعلنا نتمسك بسراب الامكانية، بوهم المعجزة . / 34) تتداعى الصور بالأحداث مع السفر المستحيل في رسم قناعات كل من الاثنين مع بعضهما البعض في التوحد بصوت المقاومة وبمصارعة رفض وشجب إتمام حلقات هذا الحب من أطراف عائلة هذام وعائلة ليلى، ربما كان أصدق الانسحاب من طرف هذام عن مدار حبه لليلى، بعد وصوله إلى خيار الهزيمة إزاء ذاته وسحقها مرات ومرات، لأجل بدء حياة موفقة لليلى مع حياة أخرى لرجل آخر تتوافر فيه شروط الملاءمة القبلية المزعومة: (أدرك جيدا بأن تركي لليلى لم يشفع لي كثيرا عند عائلتي، لكنهم حاولوا أن يدعوا ذلك حتى لا يخسرونني، فتعاودني فكرة الزواج السابقة / طلبت مني ليلى أن أتناسى ما حدث، وأن نتعامل مع بعضنا كصديقين . / ص46) وبعد هذا الفاصل الموحش من دوافع خيبة تحقق الزواج بين الأثنين، توافينا الأحداث اللاحقة من الحكاية الروائية، عن فكرة ليلى وصديقاتها في إقامة انتفاضة نسوية، تطالب بحقوق المرأة السعودية في قيادة السيارة، وقد تجر هذه المظاهرة حالات أكثر تعقيدية على مصيري هذام وليلى وباقي صديقاتها في التظاهرة، لدرجة وصول الأمر إلى حجز كل من كان في المظاهرة في مخفر الشرطة: (لم يفعلوا شيئا يا هذام، اتصلوا بأولياء أمورنا .. وجاءوا لاستلامنا وكأننا طفلات أو سفيهات . / ص59) وآخر ما يصلنا من نهاية مطاف العلاقة بين ليلى وهذام، ذلك الحوار الصادر من جهة ليلى، جاء بعد خيبة هذام من عدم استطاعته تصوير المظاهرة على شريط فيديو الكاميرا خوفا من سيارة الشرطة التي داهمت سيارتهم التي كانت تقودها ليلى حينذاك في التظاهرة: (متى تتحرر من حالة الجبن هذه يا هذام .. صدقني لا معنى لحياتك إن كنت ستعيشها مكبلا بالخوف والضعف والتقليدية ! . / ص61) .

ـ المبنى الروائي وتداعيات السياق النصي

إن عملية القراءة إلى مسار السرد في رواية أثير عبد النشمي موضع بحثنا، لعله يعاين حجم التداعيات في مبنى ومتن السياق النصي في مستوى التخييل ومبذولات العلاقة التبئيرية في وحدات النمو السردي، لذا فإننا وجدنا أغلب اللحظات الفاعلة في مشاهد الرواية، تتركز في أتون مرحلة مواقف الشخصية هذام في لندن، إلى جانب علاقته الهالكة والمتلخصة في سر وأسرار الشخصية ولادة، كما أن مجمل علاقات الشخصية هذام بصديقه جهاد وزوجته مادلين، كانت بمثابة حلقات من التأثيث والتشكل في مسرى المبنى من حكاية الرواية، ولذلك فهي تبقى في مجمل خلاصتها كحالة إطارية من مؤطرات الصورة السردية من فضاء النص الروائي: (مادلين وجهاد لم يكونا بالنسبة لي مجرد صديقين، كانا بالنسبة لي العائلة بالغربة والانتماء والمرجع الوحيد الذي أود إليه .. في بيتهما أشعر أنني في بيتي، أعرف مكان كل شيء . . وكل شيء في بيتهما يعرفني . / ص87) وعلى هذا الأساس تبقى علاقة هذام بجهاد ومادلين، كوظيفة تعويضية في حلقات الغربة عن أجواء الوطن والتفاعل مع مدارات فقدان حميمية الدفء الأسري .

1 ـ تمويه فضاءات الآخر الشخوصي والغور في تفاصيل الأسترجاع:

هكذا علمنا من خلال مشاهد الأحداث بقرار هذام بالسفر إلى لندن مقيما بعد أن حاز على عقد عمل في صحيفة لندنية، فيما أصبحت تفاصيل الشخصية ليلى تراوده كتداعيات من أحلام تلاقي مراتع التذكر والذاكرة، تحفظ صورها ومثيلاتها من أحداث الماضي، لإثبات أفق من الزمن التقاسمي، المتنامى بين محصلة التكوين الفاصل الزمني وتواتر غايات المسرود العرضي من التشخيص الوصفي لأحداث الرواية . كما لا يخفى على القارىء تفاصيل لقاء هذام بمعشوقته ولادة، التي كنا تطرقنا إليها بادىء ذي بدء في العتبة الأولى من دراسة مقالنا، والآن هو دورها في سياق معاينتنا الحالة، خصوصا وأنها ذلك المكمن الذي غدا ينجذب إليه هذام وبكل محمولات وخلفيات عاطفته وهواجسه المقبلة عليها وبأكثر من علامات الهوس والجنون في الحب: (لا تزال الخيبة تملأ نفسي على الرغم من مضي عقدين مررت أثناءهما بمئات الخيبات ! .. وقد تكون ليلى امرأتي الأولى التي لن أنساها يوما .. لكن حبيبتي المجهولة التي جاءتني فبراير 2009 حب عمري بلا جدال ! .. ولا أعرف أن كان مجيئها في فبراير هو استحضار لقناعاتي السابقة، أم أن العشق فعلا لا يولد إلا في فبراير الملتهب .. شهر العشاق .. لكن الكآبة بدأت تتسرب إلى نفسي مبكرا .. أشعر بالخوف يخنقني أكثر كلما أقتربنا من نهاية العام، شيء ما ينبئني بأنها ستختفي في ديسمبر . / ص63) لا شك أن التفاصيل المثيرة في مسار الأحداث المتعلقة على صعيد تلك المرأة الخارقة تذكرنا بأجواء قصص وروايات العملاق الروسي إيفان توروغنيف، ولكن الاختلاف ما بين العالمين، هو إن دلالات الحبيبة في قصص الروسي توروغنيف كانت غير محددة وغير خاضعة لمجالات من التقاويم الزمنية، أما الحال في شخصية هذام وحبيبته كانت محددة ضمن التجهيز الزمني الذي من شأنه خلق حالة تبدد لموقعية موضوعة الحب تماما . على أية حال نعود إلى هذام وإشكالية افتتانه بتلك الجميلة على حد تعبير الرواية، ولا يخفى على القارىء بأن الكاتبة عبد الله النشمي، قد أجادت في تصوير مظاهر العشق والحيرة والقلق والتيه جراء انقطاعات تلك الأنثى الأخاذة في مجيئها إليه في المكان المخصص للمواعد بينهما . وقد لا يتعلق الأمر هنا بخصوص حالة رغبوية ملحة من لدن هذام أو ولادة عندما يجمعهما ذلك النزل والله أعلم، بل أن الحب بينهما أضحى علاقة نادرة ومنزهة عن منظومة الافراغ والتحميل وتفاصيله العقيمة: (من يصدق بأن رجلا مثلي، رجل قدري .. بات يقضي لياليه باكيا على أريكة مشربة بعطر امرأة لا يعرف حتى أسمها .. الأريكة التي أصبحت كهفي منذ إن نامت عليها هي، منذ أن تلطخت بأحمر شفاهها وتشعبت برائحتها / من قال بأن الحب يمنحنا الحياة ؟! الحب يجتث الاستقرار منا / وأنا احتاج لأن أطمسها من حياتي كليا، أحتاج لأن أنتزعها من تأريخي / لكنني أدرك جيدا بأنني لن أقدر يوما على أن أفعل هذا .. هذه المرأة عندما جاءت .. جاءت وهي تدرك بأنها ستخلد في داخلي، جاءت وهي واثقة بأن مثيلاتها لم يوجدان يوما . / ص103 ص104) ولنتأمل قليلا في علاقة عناصر (المؤلف الواقعي ـ المؤلف الضمني ـ السارد المشارك) لنواجه أولا وضعية المؤلف الضمني في النص السردي وبموقعه في الاستباقات التي من شأنها تأويل المستقبل الخطي للنص، وحقيقة الأمر أن الاستباقات السالفة للمؤلف الضمني عالجت نمو الحكاية وأشرفت على تأويل النص وإعادة أكتشافه من قبل السارد العليم، ومن هذا المنطلق صار السارد المشارك يترك للقارىء حرية اسقاط الدلالات التي يراها ملائمة في مساحة موضوعة الرواية، ولا شك أن استرجاعات بعض الأحداث تعود إلى المؤلف الضمني، حتى أنه ليكشف لنا عن جوانب خفية من شخصية ولادة، ضمن زمن صوت السارد المشارك الآخذ بزمام السرد إلى الوراء حيث موقف اللقاء الأول بينهما: (ضننت بأني نسيت هاتفي المحمول في مكتبي .. فخرجت منها مسرعا .. كان الجو ماطرا ولم أكن أحمل مظلة معي فركضت تحت المطر، وعندما ظهرت لي فجأة من شارع جانبي صغير . فاصطدمت بها بقوة .. تناثرت أشياؤها على الأرض وكاد كل منا أن يقع لولا أننا تمسكنا وساعدنا بعضنا بعضا على الثبات . / ص114) وقد تعددت مهام المؤلف الضمني برسم مبررات حالة التصرف الشخوصي من قبل الشخصية هذام وبما يلاءم حالة المكان والطقس، كمعادلان في موضوعة صدفة اللقاء الأول بين هذام المرأة . وهذا النوع من البعد العاطفي والنفسي في طقوس الاصطدام الأول، هو بمثابة القدرة التي قام بها المؤلف الضمني / السارد المشارك على تفعيل آلية الانجذاب والتكيف ما بين الطرفين، بخاصة وأن قابلية المكان والطقس باتا شكلان مغايران في تحقيق سرانية الولوج من كلتا الطرفين في أتون الغالب من المؤثر والتأثير .

ـ أبعاد مشكل المكان وتضاعيف حالات المتخيل

المكان الفني يحتل في ذاته أهمية خاصة في تشكيل أواصر وعلاقات الأطراف الشخوصية في المواقف وجملة أرتباطات المساهمة التفعيلية لإغراض خلق حالات التثوير العاطفي: (لملمة أغراضها وأنا أعتذر وهي تجيبني بالانجليزية لا بأس لا عليك ! أنا أيضا لم أنتبه إليك .. استوقفتني الكتب التي كانت تحملها بالانجليزية لنيتشه .. وملحمة جلجامش بالعربية .. عندها رفعت عيني إليها، والتقت عيوننا فشعرت بالحياة تجتاحني .. خيل إلي أنني أشعر بروحها تغادر جسدها وتتلبس جسدي .. ظللنا قرابة الدقيقتين نتأمل بعضنا بعضا على الأرض وتحت المطر من دون أن يرمش لنا جفن .. سألتها بدهشة وبالعربية: ـ أألتقينا قبلا ؟ أجابتني بعينين لامعتين: ـ أظن بأننا فعلنا ؟: ـ متى ؟ ـ في عصر ما: ـ أتؤمن بالكراما ؟!: أظن بأنني بت أؤمن بها . / ص114ص115) وينحو البعد العاطفي والنفسي في الأحداث الروائية، منحى مغايرا ومتطورا، خصوصا بعد تبادل أحاسيس الحب من طرف هذام إلى هذه المرأة التي لا تحسب مشاعرها الغامضة في الحب، وشيئا فشيئا تبدأ مسرات اللوعة باللوعة، واللهفة واللهفة مقابل فعل لهبة مغتصبة من طرف الشخصية الصابئية ولادة: (أخذت أتأملها تحت عامود الإنارة الذي كنا نقف بجواره .. بشعرها الأسود المبلل .. وعينيها السوداوين اللتين كانتا تجاهدان للبقاء مفتوحتين تحت إنهمار المطر / وخلف ظهرها حقيبة جلدية سوداء خاصة بحمل آلة الكمان . / ص115) في الواقع أن الرواية حافلة ومحفوفة بالحوار والمشاهد الخاصة بتوطين حلقات التتابع في علاقة محاور الرواية، كما أنها وفرت إلى مساحة مؤول التلقي ذلك التنوع المتقن من أسلوبية فضاءات العبور والانقطاع من محور العنونة المركزية الدالة في ديسمبر تنتهي كل الأحلام .

ـ تعليق القراءة:

تتبين في رواية (في ديسمبر تنتهي كل الأحلام) تلك الخلاصة الزمنية النذيرة بانتهاء حكاية كل حب وكل عشق في مكونات السياق التقويمي لهذا الزمن من نهاية كل عام ولماذا كان هذا الزمن مخصوصا لإيقاف وقتل هذه المعادلة الحلمية للحب أساسا ؟ نستدل في نهاية الرواية عن رحيل العازفة محبوبة هذام المموهة بعد نهاية حفلة موسيقية إلى رحيلها خارج لندن مع الفرقة، وهذا التوقيت الزمني سيظل بمثابة الإقرار بأن في ديسمبر تنتهي كل حكايا العشق: (حاولت في الكتابة، حاولت أن أبتدىء مقالي أو أن أنتهي من روايتي لكنني لم أتمكن من كتابة أي شيء،وعندما أمسكت المنشور المخصص للحفلة الموسيقية صدمتني صور أندريه ريو وصورة ولادة بفستان أسود يملأ الأعلاان بصورة تراجيدية مثيرة كتب في الأعلان: الفنان الهولندي أندريه ريو ترافقه الفنانة الهولندية ولادة رافد يودعان لندن بحفلة موسيقية يحييانها في آخر أيام الأعياد . / ص147) وعلى هذا النحو من المفارقة الفنية والعضوية تنتهي حكاية الرواية بعد نهاية أعماق قصة الحب في ذاكرة الصوت الوجداني الداخلي والخارجي للشخصية هذام: (وفي طريقي  شاهدت امرأة تعزف الكمان على ناصية الشارع، وقفت أستمع إلى ألحانها وأنا أفكر في التي عزفت أحزانها وغابت . / ص181) وفي هذا السياق من النص الروائي الختامي، تكون قد حققت الكاتبة أثير عبد الله النشمي ذلك الأنموذج الذروي في أقصى درجات خطوطه الامتدادية في قلب الدراما الحاكية، ولعل رواية (في ديسمبر تنتهي كل الأحلام) أكثر ما تنفرد به أعمال هذه الروائية العربية في سمات الأفق الروائي المتفرد في الصلات المتواترة والمتقاطعة، وهذا بدوره ما جعلنا نلمس أمتزاج صوتي المؤلف الضمني والسارد العليم معا ولا يتراجع منا ذلك الوعي والاحساس بالجدوى النأي والانفصال والإحباط من الشخصية الروائية، إلا وينصب في تفاصيل معنى سحرية المخيلة وبكافة هواجسها المستقرئة لإبعاد مواطن حسية رهانات الكتابة الروائية المحدثة في تجليات الفاعل السارد وهو ما بين متواليات المضمر من غياهب الأنموذج الآخر ومتعلقات الكيان الزمني المأزوم من النص الروائي .

 

حيدر عبد الرضا

باحث وناقد عراقي

 

  

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم