صحيفة المثقف

المسرح النسويّ: المسرح في المؤنث والمذكر

"هابل" Hubble هو أسم التلسكوب الفضائي الذي يتجول في الفضاء الخارجي ويلتقط صوراً وإشارات عن المجرّات الكونية الأخرى خارج المجرة التي يقع فيها كوكب الأرض. وفي ذات الوقت يتجول المسبار الفضائي بين الكواكب ويبعث صورا دقيقة عن المريخ ويلتقط أحجاراً من سطحه تسمح للعلماء بإستنتاج إمكانية وجود ماء هناك، أي إمكانية وجود، أو إيجاد، حياة. في الأسفل من هذه الصورة، أي هنا، على سطح هذه الأرض، التي تتنفس الحياة منذ ملايين السنين، تنتشر الحرائق بين غابات العالم من أندونيسيا، وكاليفورنيا وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا الى الجزائر مروراً بالبرازيل ونعجز عن إخمادها قبل أن تأكل هذه الحرائق مئات بل آلاف الهيكتارات من الأشجار. وعلى ذات الأرض التي يعيش فيها مختلف أجناس البشر، نعجز عن تحييد القوى التسلطية والقمعية التي تتحكم بالعلاقة بين الرجل والمرأة. أي العجز عن فهم الآخر وإشاعة السلام.

المسرح، بكل أبعاده وأشكاله، يعكس هذا الفضاء من التناقضات والعجز الإنساني. وهو لم يتوقف عن تسليط الضوء الباهر على المشاكل الإنسانية المتنوعة، وجودياً، وإجتماعياً، وإقتصادياً، وسياسياً برؤىً تشوبها المرارة أحياناً، والسخرية في أحيان أخرى، ولكن دون فقدان الأمل. أما المسرح النسوي، فهو وسيلة، لقلب المعادلة التي تتحكم بالعلاقة بين الرجل والمرأة. ولكن من أجل فهم ذلك سيتوجب التساؤل فيما إذا كان هناك أساساً مسرح رجالي قبل هذا النسوي؟ وما هي الأسباب التي أدت الى نشوء المسرح النسوي.

من المعروف بأن المسرح كان في بداياته اليونانية قد أقصى المرأة كلياً من المسرح، فقد كان الرجل هو من يقوم بتشخيص دور المرأة في التراجيديات الإغريقية، واستمر هذا الحال لقرون أمتدت الى بدايات عصر التنوير. حيث حدثت ثورة ثقافية وإجتماعية وتنويرية هائلة، في القرون الوسطى، مما ساعد على إدماج المرأة لأول مرة في التاريخ "كمغنية" عندما ظهر فن الأوبرا لأول مرة.

مع مرور الوقت، برزت أشكال متعددة للمسرح. ومع توسع المسرح في اتجاهاتٍ مختلفةٍ في المواضيع وفي الصيغ الفنية ، ازدادت أهمية وجود المرأة في المسرح أيضًا. بل وأكثر من ذلك، فليس هناك أدنى شك في أن المرأة تشكل كياناً عضوياً في المسرح اليوم ،  فهي تعمل في جميع وظائف المسرح من كتابة النص الدرامي، الى السينوغرافيا والإخراج الى التمثيل مروراً بكل الاعمال الفنية والإدارية التي يتطلبها العمل المسرحي. وقد برعت المرأة في كل ما يجعل النص المسرحي عملاً فنياً وإبداعياً مدهشاً ومتكاملاً. في حين ان  التاريخ الطويل الذي إجتازته المرأة من المعاناة والصعاب سوف لن يكون من الإنصاف إختصاره ببضع كلمات. بل من المؤسف حقاً أن المسرح، تاريخيًا، كان غير عادل مع المرأة. وعلى الرغم من ذلك ، كان هناك الكثير من النساء اللواتي، بفضل عشقهن للمسرح، وتفانيهن، وتضحياتهن أصبح المسرح اليوم كما نعرفه مختلف تمامًا عن بداياته اليونانية، مسرح تقف فيه المرأة ككاتبة، وكمخرجة، وكممثلة، وكناقدة، وكفنيّة وكإدارية، أي ككل كامل في المسرح.

من أين جاء المسرح النسوي إذن؟ ولفهم ذلك، سيتوجب العودة الى الحركة النسوية في الغرب، فمن رحمها خرج المسرح النسوي. إن الحركة النسوية تسعى، بالمعنى الواسع والعام، إلى لفت الانتباه الى الأدوار الحيوية للمرأة داخل حركة المجتمع، كما تسعى الى تحقيق المساواة للمرأة في عالم أستأثر فيه الرجل تاريخياً بالسلطة في المجالات السياسية، والاقتصادية والاجتماعية وانعكس ذلك أيضاً على العلاقات الإنسانية بين أفراد المجتمع وبين أفراد العائلة.

مرّت الحركة النسوية عموماً، وبإختصار شديد، بثلاثة مراحل بدءً من القرن التاسع عشر. وقد ركّزت الحركة في تلك الفترة بشكل أساسي على الحقوق القانونية في المقام الأول مثل حق المرأة في التصويت وحقها في التملك والملكية. أما المرحلة الثانية من الحركة النسوية فقد ترسخت في أوائل الستينيات من القرن الماضي، والتي أستندت، أيديولوجياً، على كتابات سيمون دي بوفوار المحرّضة ضد السكون المجتمعي والداعية لتحرير وإستقلال المرأة خاصة في كتابها الذائع الصيت "الجنس الآخر" بجزئيه، الأول والثاني.  وقد ركزت مطاليب هذه المرحلة على أوجه عدم المساواة في الحياة اليومية، مثل الحياة الجنسية، والأسرة، والحقوق الإنجابية، والحق في الإجهاض، وحقوق المرأة في مكان العمل. وبهذا تكون الحركة النسوية قد إتسعت وتطورت خلال المرحلة الثانية. أما المرحلة الثالثة فقد تعززت خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي، حيث شكّل مؤتمر المرأة في بجين (بكين) وما صدر عنه، الأنطلاقة الحقيقية والقاعدة القانونية الصلبة للحركة النسوية في العالم (مؤتمر الأمم المتحدة الرابع حول المرأة المنعقد في سبتمبر/أيلول عام 1995 بحضور 180 بلداً وحضور حوالي 2500 "منظمة غير حكومية"، غالبية هذه المنظمات كانت نسائية وحديثة التكوين. علماً بان مشاركة هذه المنظمات سمح لها ولأول مرة في تاريخ الأمم المتحدة). تطورت المرحلة الثالثة النسوية وأتسع أفاق عملها صعوبة وتعقيداً، وصارت تعتمد إلى حد كبير، في عملها، على التقاطع والتنقل فيما بين القطاعات التنموية المتنوعة، وخاصة القطاعات التي على تماس بالحياة اليومية للمجتمع. ثم بدأت بترويج أن فكرة العرق البشري والجنس والطبقة الأجتماعية والقدرة المالية، كلها تتقاطع وجميعها تصب في الكل.

من هذا الرحم وِلِدَ المسرح النسوي خلال السبعينيات. وهو بلا أدنى شك كان قد إستفاد من ثورة 1968  في باريس.  وهو يسعى، أي المسرح النسوي، إلى سرد قصص وهموم النساء، وإبراز المرأة كشخصية رئيسية في العمل المسرحي، ومقاومة تهميش المرأة. ثم بدأ المسرح بإستخدام مصطلحات الحركة النسوية من مثل العمل على زعزعة "النظرة الذكورية" في المجتمع. على أن النظرة الذكورية ضمن هذه "الإيديولوجيا"، هي الفكرة العامة القائلة بأن العالم يُنظر إليه فقط من منظور الرجال، وأن هذه النظرة تجعل من النساء، بشكل عام، "كأشياء" جمالية مستحبة أو "كمواضيع" مثيرة للرغبة الجنسية. وانا أجد في هذا الفهم كثير من النمطية السلفية سواء بالصورة التي أُسقطت على المرأة او بالمصطلح ذاته وأعني "الذكورية". لأنني مدرك تماماً بأن هذه المفاهيم وهذه اللغة لا تملك إلاّ أن تمهد للتباعد وليس للتعايش المجتمعي.

إن من أهم بعض سمات "المسرح النسوي" هي العمل من أجل زعزعة وإلغاء "المنظور الذكوري"، ولعمل ذلك يقوم المسرح النسوي بالتمرد على المسرح ذاته، فهو يحاول التفرد بمحاولة تغيير مضمون وشكل الاعمال المسرحية. فمثلاً من حيث المحتوى، ركز المسرح النسوي على ما يلي:

- عرض مفهوم الجنس والعلاقة بين الجنسين، وغالبا ما يعكس الأدوار فيما بين الجنسين أو يقوم بالسخرية منها.

- يروي قصص شخصيات تاريخية مؤثرة، غالبا ما كان يتم تجاهلها. 

- يشدد على رواية قصص الإجحاف التي لحقت بالنساء الذين تعرضوا للقمع والاضطهاد.

- يوجه النقد الشديد للأنظمة السياسية والاجتماعية التي ماتزال تُمارس إضطهاد المرأة.

أما من حيث الشكل، فيتحدى المسرح النسوي جميع جوانب عملية الإنتاج، بدءً من هيكلة الحبكة المسرحية إلى عمليات التمثيل والتمرين (البروفة). وتشمل بعض سمات المسرح النسوي، في هذا الجانب، ما يلي:

- من الناحية الشاملة للعرض المسرحي، يحاول المسرح النسوي السماح للممثلات بالتقاطع فيما بينهن وذلك بإعطائهن الفرصة، أحياناً، في سرد قصصهن الشخصية، ضمن القصص التي يتم سردها وطوال عملية البروفة.  

- العمل على أسس تعاونية، لأن المسرح النسوي يرفض السلطة الهرمية المعمول بها في المسارح، وذلك من خلال إداريون  يحاولون تمكين ممثلاتهم من التدخل في حوار النص، وتعديل حبكة الرواية، والسماح لهم بوضع الاختيارات الاخراجية النهائية.

- إتباع هياكل سردية بديلة - فالمسرح النسوي يرفض السرد التقليدي، وغالباً مايختار السردية المفتوحة النهايات أو الدائرية التي تعود الى البدء أو العرضية التي تتدخل في وسط حكاية أخرى مختلفة.

- التمحور حول موضوع المرأة، يضع المسرح النسوي الشخصيات النسائية في مركز الحدث ، وغالبا ما يستخدم مجموعات من الممثلين عوضاً عن البطل الواحد الواضح.

بطبيعة الحال أنتج "المسرح النسوي" مفاهيمه وشكله من أدوات النقد النسوي التي تتوافق ومجموعة السمات المذكورة أعلاه. ولكني كنت فيما تقدم أستعرض مفاهيم واشكال ولمحات المسرح النسوي كما أُسس لها في المجتمعات الغربية. أود هنا ان أنتقل الى مجتمعاتنا العربية المختلفة والتي يوحدها القمع والقهر والتخلف والبطالة وهواجس الحرية. والمرأة العربية في مركز كل ذلك داخل هذه المجتمعات. للمرأة في المنطقة العربية قضية بدون شك، قضية تتمحور كل تشعباتها حول الاستقلالية والحرية، ولكن هل الرجل، في خلايا المجتمع المتنوعة، هو أكثر حرية؟ يجب ان نفهم بان القضية أساسية جداً ومشتركة. وبان معاداة الرجل او البحث في مفاهيم تزويرية كمفهوم "الذكورية" سيعزز من النظرة المتعصبة واللاأخلاقية، الموجودة أصلاً ضد المرأة. تلك النظرة التي تجعل من المرأة ليس بكائن أنساني مدرك ومتكامل ومستقل، بل كأنثى تثير الإعجاب جمالياً وتؤجج الرغبة الجنسية.

في البلدان العربية، حيث القهر والألم والحزن والفرح كما التفاؤل والامل والتشاؤم واليأس لا يفرق ايأ منهم بين رجل او امرأة، فغالباً ما يكون مصدر القهر و مصدر العبودية واحد.  لذلك فإن كان للمرأة معركة، فهي بالضرورة معركة مشتركة مع الرجل ضد التسلط القسري والقمع واستلاب الحريات. ولمحاربة واجتثاث النظرة الدونية التي يحملها بعض الرجال في مجتمعاتنا للأنتقاص من مكانة ودور المرأة، فليتوجه إذن عمل المرأة، بمشاركة الرجل، بصورة دؤوبة من أجل تحرير "عقلية الرجل". ذلك الرجل الذي كبّل المجتمع عقله لقرون طويلة. وبتحرير عقلية الرجل، تتحرر المرأة من معظم المطبات.  بهذه المعركة المشتركة، تكون أهداف حركة المرأة قد بلغت وبات عليها العمل مع الرجل لتحقيق مبدئي العدالة والمساواة. ثم العمل على إلغاء كل أفكار ومشاريع الأقصاء، والالتزام بالمشروع الإنساني الكبير في الشروع بالحلم الإنساني بمجتمع موحد كبير على الرغم من اختلاف الثقافات والأديان واللغات.  مجتمع موحد عبر إختلاف المسافات.

وحين نعود الى المسرح، سيكون هناك عدد من التساؤلات الشرعية، من قُبيل مالذي أقترفه المسرح بحق المرأة لكي يُختزل بالنسوي؟ أو لموازاته بالنسوي. أو هل يضيف المسرح النسوي بالسمات التي ذكرتها أعلاه الى مسيرة المسرح؟ أنا أعتقد بأن التصنيفات المسرحية "الهامشية" تظلّ، على إمتداد مسيرتها، هامشية، على الرغم من نبل الأفكار التي تحملها، هذا لان هذه التصنيفات لم تُحاكم وجودها ولم تتساءل عن شرعيته. والمسرح النسوي هنا مثال على ذلك. ثم أن هذا التصنيف يسيئ الى المبدأ الأساسي الذي يحتمي به المسرح النسوي وهو حقوق المرأة، ذلك أن تجزأة حقوق الانسان الى حقوق أصغر من مثل حق المرأة، وحق الطفل، وحق المهمشين وغير ذلك الكثير، هو بالحقيقية تجزأة للمبدأ الأساسي، او الحقوق الأساسية  وأعني بذلك مجموعة مبادئ حقوق الانسان. ان هذه التجزأة لاتخدم إلاّ السياسيين الفاشلين وللمرحلة الآنية فقط. ثم أن تصنيف المسرح النسوي يرتبط فكريأ بالإقصاء وتهميش الآخر، وجعل نظرة المسرح تتمحور حول مركزية "الأنا الأنثوية Egocentric “، لنا ان نتذكر بأن المسرح أفرز شخصيات نسائية هامة للغاية سلباً، أو إيجاباً من بينها أنتيجون، وأليكترا، وفيدرا ثم الليدي ماكبث، وأفيجيني، وبيرنيس، ونورا، وهيدا جابلر، والآنسة جولي، يرما، وبرناردا ألبا، وكليوباترا، وريّا وسكينة وغيرهن الكثير. إن المسرح بكل أشكاله الفنية والجمالية كان رائداً بطرح ومعالجة هذه المواضيع بطريقة، على الأقل، تسمح للجمهور بأن لا يرى الواقع كما أعتاد أن يراه قبل إرتياد المسرح.

إود أن أتساءل هنا، هل يمكن فعلاً نقل مفاهيم محورية من الحركة النسوية الغربية مثل "النظرة الذكورية" الى داخل هذه المجتمعات العربية دون التسبب في هياج الفتاوي المتشددة.  الفتاوي التي تتحكم ببرلمانات وسياسات البلدان العربية. ثم ان الأشكال المقترحة في العمل المسرحي النسوي والمذكورة أعلاه، تبدو، الى حد بعيد، مناقضة تماماً للمهنية المسرحية، ولا أجادل في الأشكال الجمالية التي يبدو لي انها تنحني كثيراً الى السذاجة. لنتذكر ان في المسرح العربي برزت شخصيات نسائية فذة أرست قواعد لمسرح إنساني بأساليب متنوعة من الفن الواعي والجمال الراقي. فهناك فاطمة عيد وسناء جميل وسميحة أيوب، نهاد صليحة من بين عشرات المبدعات في مصر، وكذا الحال في العراق زينب وناهدة الرماح وفوزية عارف، وفي تونس رجاء بن عمار، جليلة بكار وزهيرة بن عمارة، ومن المغرب ثريا جبران ومن الجزائر صونيا ومن لبنان نضال الأشقر، ورندا أسمر، وشادية زيتون ومن الأردن سوسن دروزة ولينا التل ونادرة عمران، وغيرهن الكثير ومن سوريا حنان قصاب حسن وميري اليأس، وغيرهن عشرات السيدات اللواتي لم يتوقفن عن بناء مسرح إنساني جاد، بل وساهموا بشكل فعال في ثقافة بلدانهن. سيدات من جميع البلاد العربية.

وفي الختام، يبدو لي، إن المسرح النسوي، غارقاً بالديماجوجية. فهو يحاول إكتساب الشعبية من خلال إستغلال العواطف الشعبوية، والتحيز ضد الرجل وإثارة الكراهية، وأعتماد السطحية في أثارة موضوعات أساسية تخص القوانين وتشريعات البلاد دونما أثر فاعل على مستوى التغيير المطلوب. كما أن الأعتماد الفكري والسلوكي على بقايا تمردات الستينيات، من القرن المنصرم، مثل البيتلز والهبيز وبقايا شذرات من ثورة 1968 الباريسية، سبغ المسرح النسوي بالهامشية، حيث أن الفكر البشري تسارع في عمقه وفي قدراته على تفهم الآخر ضمن مجتمات متوحدة بإختلافاتها وبتنوعها.  أعتقد بأن ظاهرة المسرح النسوي تشبه الى حدّ بعيد ظاهرة كسوف القمر. الظاهرتان تتمتعان بالقدرة على الادهاش وبجماليات من نوع خاص.  غير أن الظاهرتين تشكلان إستثناءً في مجرى الحياة اليومية وليس القاعدة.

 

علي ماجد شبو

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم