صحيفة المثقف

الحمقى

صالح البياتيإجتمع زمرة من الحمقى لتشييع زعيمهم، خرجوا بموكب جنائزي، طافوا به الشوارع ، حتى انتهوا أخيراً الى مكان منعزل خارج المدينة، هناك تحت شجرة كبيرة، انزلوا التابوت، وتحلقوا حوله يبكون، حتى هبط الظلام، فأشعلوا ناراً كبيرة، أضاءت المكان حولهم، قام أحدهم ترجل كلمة رثى فيها الراحل، لكن لحماقته اختلط عليه، فلم يستطع ان يميز بين أعماله الحسنة والسيئة، فكان يذم  الأولى ويمدح الثانية، وقام آخر فنسب اليه أشياء لم يفعلها ابدا.

 صاح احدهم، كل ما قاله هذان الأحمقان هراء، كُفا عن هذه السخافات، ليقرأ علينا من بحوزته وصية المرحوم، لنبدأ بتنفيذها فورا، ولما علموا انه  لم يترك وصية، تحدد طريقة التخلص من جثمانه، كما يقتضي العرف عندهم، ان يختار المتوفى في وصيته اما الحرق او الدفن، لذا احتاروا، وأسقط في أيديهم، إقترح بعضهم ان يدفن تحت الشجرة، واعترض آخرون، وأردوا ان يحرق، وينثر رماده حول جذعها المتين، فهي شجرة مقدسة عندهم، كل فريق اصر على رأيه، وثار جدل عنيف بينهم، كاد ان ينتهي بإشتباك بالإيدي.

 تساءلوا ماذا نفعل، قال واحد ٌ منهم، لنعين منا زعيماً، نفوضه البت في الأمر الذي تنازعنا حوله، وافقوا على رأيه، فاختاروا اكبرهم سناً، وبعد تفكير عميق، تمخض عقل الزعيم الجديد عن  رأي سديد، أمر ان تقطع الجثة نصفين، جزء يدفن، والجزء الآخر يحرق، وجدوه انسب الحلول، لتفادي الخلاف الذي نشب بينهم، وقبل ان يقوموا بتنفيذه ، اختلفوا مرة آخرى، حول أي من النصقين سيحرق، البعض قالوا الجزء الأعلى، وآخرون قالوا بل يجب ان يحرق الجزء الأسفل، انقسموا الى فريقين، كل فريق يصرعلى رأيه ولا يحيد عنه، يبرره ويسنده بالحجج القوية، فالذين أتفقواعلى حرق الجزء الأعلى، قالوا ان في هذا الجزء، يوجد الرأس وفيه العقل، وبدونه يصبح الإنسان إما أحمقاً او مجنوناً، وهو بذلك اشرف أجزاء الجسم وسيدها، والقائد الذي تطيعه أعضاء الجسم كلها بلا منازع ، ولأن النار مقدسة لدينا، لذا لا  نريد تدنيسها بقذارة الجزء الأسفل، وأثبت الفريق الثاني حجته على نفس المبدأ، ان النار ستطهر الجزء الأسفل وتنقيه من القذارة التي فيه، ولما كان الرأس بطبيعته نظيفا أصلا؛ فلا يحتاج إذاً للحرق.

 لم يتوصلو لحل المشكلة، لذا اتفقوا على ان يتركوا الامر الى الغد، علهم يتوصلون لحل يرضي الجميع، شربوا ورقصواعلى قرع الطبل، حتى ثملوا، فأطاحت الخمرة بالقليل من العقل الذي في رؤوسهم، وقف واحد من الفريق الأول، وهو يعتقد انهم اتفقوا على رأي واحد، فقال لننفذ ما أتفقنا عليه، قبل ان تنطفئ النار وتهاجمنا الذئاب فتخطف الجثة، أمسك بعضهم  بالرأس وحاولوا قطعه مع الصدر، وتشبث الآخرون بالرجلين  يسحبونهما نحوهم ، كل جماعة تجره من طرف، كأنهم يتبارون في لعبة جر الحبل، حتى خارت قواهم، وسقطوا على الأرض، أثناء ذلك تصاعد الدخان فملأ المكان،  وتطايرت شرارات الى أغصان الشجرة ، أفزعهم ان تمس النار شجرتهم المقدسة، وخافوا اذا إحترقت، فستحترق الغابة، ولن ينجو أحد منهم، تركوا الميت مسجى على الأرض، ليستنقذوا الشجرة التي إمتدت اليها السنة النار، في تلك اللحظة قبيل الفجر، افاق الميت من غيبوبته، وراح يكيل لهم الشتائم ، ويركل النائمين منهم، يصرخ أيها الحمقى.. اللعنة عليكم،  كدتم تحرقوني حياً. عم الهياج ، ولوا هاربين وهو يلاحقهم باللعنات ويرميهم بأحجار الطريق، بينما كانت الشجرة تحترق، وتضئ كقنديل في عتمة آخر الليل.

 ***

قصة قصيرة

صالح البياتي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم