صحيفة المثقف

كل ذلك الحزن الذي جاء بعد ذلك

صالح الرزوقبقلم: نعومي ألديرمان

ترجمة: صالح الرزوق


“وهل شيدت أورشليم هنا؟”.

وليام بليك

1-

أوسكفورد، إنكلترا، نيسان 1221 م

راقبها (إدريك) في السوق. هناك في المكان الذي رآها فيه لأول مرة. كانت تنتقي الأسماك وتتجادل مع التاجر حول طزاجة بضاعته. إنها على حق هنا في أكسفورد، فالنهر الذي يجري على مشارف المدينة فقط، لا يترك للأسماك أي عذر لتكون غير طازجة تماما. ولكن هذه يغطيها جلد قاتم يدل أنها من موسم أمس. ألقت هذا التعليق المباشر الذي لا يخلو من المرح. وقالت:”وهل أنا عمياء؟. أم بلا يدين لألمس بها السمكة وأرى أنها جافة؟. سأدفع بها ربع بنس لا أكثر".

رد بائع السمك يقول:” سيدتي، لقاء هذا الثمن سألقي بها إلى النهر مجددا آملا أن تعود للحياة”.

ولم ترتدع. قالت:” بل إذا اشتريتها منك ببنس واحد سأكون مثل من يرمي نقوده في النهر!”.

راقبها إندريك من الخلف. كانت ترتدي ثوباً بنياً بياقة بيضاء وسوارين بيضاوين. ومغسول للتو.ومؤخرتها مستديرة و أنيقة. ووركاها عريضان. كان قد وصل حديثا إلى (أكسفورد) قادما من (كوفنتري). ولم يمر عليه هنا أكثر من ثلاثة شهور. ولم يلمس من قبل عش فتاة واحدة. كان شعرها أسود وبشرتها ذهبية مثل القمح. وتساءل كيف يبدو ثدياها، وما لون الشعر الذي بين ساقيها يا ترى.

والتفتت بوجهها ونظرت نظرة جانبية، وهي تمسك بجبينها لتدل على مبلغ سخطها من تاجر السمك. ولم يخيب (إدريك) شكل وجهها. فم واسع، جبين عال، أنف صغير، عين بنية سريعة ونفاذة. وبدأ يفكر ببداية للكلام معها – ربما عليه أن يسألها فقط ماذا ستفعل بالسمكة – وحينما اعتقد أنها فكرت بالانصراف مشمئزة استدارت. ولاحظ البقعة البيضاء المخاطة بمقدمة ثوبها.

2-

"مع الأسف، لم يكن هناك تمييز واضح بما فيه الكفاية بين اليهود والمسيحيين، فقد كان هناك زواج مختلط أو علاقات أقل ديمومة، ومن أجل منع ذلك صدرت تعليمات أن يعلق كل يهودي على واجهة ثوبه مربعا أو رقعة من القماش بطول أربعة أصابع وعرض أصبعين، وبلون مختلف عن بقية ألوان ملبسه”.

(كتابة على تماثيل من حقبة عام 1215 تقريبا)

عندما قرأت ذلك، فصلت الرقعة. وثبتنها على ثيابي وحول جسمي، بحيث تمتد من النحر تقريبا وحتى المعصم. ولا يمكن أن يكون هناك مجال للتستر عليها. وهذه هي الغاية طبعا.

كانت هذه البقع والرموز وحتى القبعات الخاصة باليهود شائعة في أوروبا. وعندما اعتمد راينهارد هيدريتش، أحد كبار مهندسي الهولوكوست، النجم الأصفر مع كلمة يهوذا في الوسط ليحملها يهود الرايخ، لم يكن يخترع شيئاً جديداً. كان يعيد تقليداً قديماً. شيئا معروفا يعود لأيام أوروبا في العصور الوسطى؛ مثل اللافتات والحفلات والنقابات.

3-

لم يتكلم معها إيدريك. وتابعها بعينيه و هي تتابع الشراء - قال لنفسه: تنازل قليلا عن ثمن السمكة ولو بما يعادل نصف قيمتها. لا ضرر في احترام شكل المرأة حتى لو أنها يهودية. كان فتى في العشرين من عمره في النهاية، وربما أكبر قليلا - 22 أو 23. وكان صدرها مرسوما تحت ثيابها المشدودة، ويبدو مستديرا وناعما وشامخا.

ثم قال لنفسه: لكن لا شك هناك ضرر. بالتأكيد هذه الوساوس ضارة.

بدورها لاحظت أنه ينظر إليها، وانتبهت لعينيه، وابتسمت له، إنه ليس فتى سيء المظهر عموما. وربما أصابه الجدري حينما كان عمره 16 عاما وخلف كوكبة من الثقوب والعلامات على أحد خديه. لكن الآخر لم يمسسه سوء. كان أيضا قوي الكتفين والذراعين. ولعله يفكر كيف يمكنه رفعها بذراع واحدة، وكيف ستصرخ وكيف سيعجبه تصرفها ويغريه. رد بابتسامة مماثلة وتابع التفكير: لا تبدو له كشيطانة. ولو لديها قرنان تحت شعرها فهما مخبآن بمهارة فائقة.

أخيرا قال:”موافق على صفقة تلك السمكة”. وانتابه بالغ السرور لكرمه المسيحي ولتجاوبه معها وكأنها امرأة طيبة من أكسفورد مثل الأخريات. لا ضرورة لمعاملتهن مثل وحوش. ثم ها هي تنظر له، بحياد، وتطرف بعينيها.

قالت:”آسفة. أنا لا أكلم المسيحيين. ربما أصبت روحي بالضرر”.

وابتسمت وفي عينيها بريق مشاغب. وكان لخديها غمازتان. غمازتان أسعدتاه. ولم يمكنه إلا أن يتبعها ويسير وراءها في السوق. مع أنه سمع تلميحات من امرأة أو اثنتين مسنتين. في النهاية، ما الضرر من الكلام؟.

سألها أخيرا:"ما اسمك؟" .

قالت:"يهودية. لست بحاجة لي؟".

كانت صريحة ومباشرة ورغب بها بشدة.

قال:"لا ولكن أخبريني. ما اسمك". لم يكن لديه أطماع فوق ذلك.

قالت:"هانا. ابنة أليعازر العلقة”.

وكان مدير إدريك قد نصحه عدة مرات بزيارة الطبيب اليهودي للعلاج. قال:"الطبيب! أنا أعرفه. مساحيقه لتحسين الأمعاء ... فعالة جدا”.

ابتسمت، ابتسامة سريعة وطبيعية، دون افتعال أو إغاظة.

فأردف:"إذا لا بد أن نلتقي مرة أخرى”.

4-

تذكر الأنباء أن اليهود قدموا إلى إنجلترا في العصور الوسطى عنوة على يد وليام الفاتح، على الرغم من أن هناك بعض الأدلة على أن بعض اليهود كانوا موجودين قبل ذلك. غير أنه بالتأكيد زاد من أعدادهم. ومنحهم حماية الملك، وأعلن في عام 1070 أنه "سيتعامل مع أنفسهم وممتلكاتهم كما لو أنها ملك يمينه”. وأصبح اليهود من بين خصوصيات الملك، ولا يمكن لأي أحد أن يؤذيهم دون الإضرار بممتلكاته، ولم يسمح لأي يهودي أن يسافر أو يستوطن إلا بمشيئته.

5-

ركع إدريك أمام تمثال العذراء المباركة في كنيسة بيت أوغسطين المرتبة. وضغط جبهته على أحجار المصلى وتلا صلاته: “"ابقيني بعيدا عن الإغواء واحميني من الشر. أعرف أنه خطأ يا مباركة يا مريم، أعرف أنها سم، وأنها ملعونة، من فضلك امنعيني من الوقوع في حبائلها”.

حتى وهو يتلو هذه الكلمات، فكر بالمتعة التي توفرها، كما لو أن السم ذاته ينقط من بين ساقيها، وطلب أن يساعده المسيح على تجاوز المحنة، لأن الرغبة لا تزال تخنقه.

ولم يكن من الصعب أن يجد سببا ليعود الطبيب. فبناء أوغسطين رطب. ودائما يوجد شخص مصاب بالحمى أو العلل أو بسعال لا يزول، وليس من أخلاقه المسيحية ولا نبالته ولا مزاجه أن يخترق الشوارع الموحلة ليبحث عن علقة للشفاء؟. ومثلما قبل آدم التفاحة، كان يعلم أنه يرتكب خطيئة.

في الغرفة الخلفية القريبة من مخزن والدها، وحينما كان العجوز يمزج المقادير ويطحن جذور الأعشاب، تبادل إدريك وهانا الكلام. اكتشف أنها فطنة وأن الكلام معها ممتع. وكانت قادرة على القراءة- وأدهشه ذلك. وأخبرته أن المرأة اليهودية متعلمة وتقرأ مثل الرجل - وأن المرأة اليهودية في يوم زفافها ربما تتلقى الكتاب المقدس هدية، بنسخة مصغرة وبخط اليد ومخيطة. وتبين له أنه معجب بها. وأنها قابلت نصف الرجال في البيت الأوغسطيني حينما جاؤوا للبحث عن علاج على يد والدها، وتركوا عندها انطباعات تدعو للسخرية والهزء. وأنبأته عن مخاوفها المستمرة على مصير والدها، إن توجب عليها الزواج وتركه وحيدا. وأخبرها عن أبويه في كافنتري - كانا فخورين بابنهما، ابنهما الوحيد، وتنصيبه شماسا، وهما متحمسان للعثور على زوجة مناسبة له.

وهناك، حينما تحول الكلام لصمت وتبادلا النظرات، ودق قلبه داخل صدره واقتربت منه، هناك وهي برفقة والدها تطحن البهارات في الغرفة المجاورة، طبع علها فمها قبلة وطبعت قبلة. ثم ترافقا بنزهة في الغابة الهادئة صباحا وذهبت لجمع النباتات. وبعد أن أنهى صلواته الصباحية التقيا مجددا. وتبادلا الكلام، وأمسكت يده. ورفعتها وأسندتها على سنديانة، فرفع تنورتها ولمسه بأصابعه. وانغمسا باللذة. وكان بمقدوره أن يتابع ولكنها هزت رأسها وضحكت وقالت:

“يجب أن أحتفظ ببعض الفضيلة لليلة زفافي”.

وأصابته الدهشة. وفتنته. وسحرته. وأثارته. هذه الأشياء يجب أن تطفو على الوجه.

قالت:”والآن هل تعتقد أن اليهودية امرأة شيطانية؟”.

وقبلت رأسه. وتابعت:”نحن متشابهون. أخلاقنا وأخلاقكم متشابهة. باستثناء أن أخلاقكم أكثر.. إنكارا منا. نحن نتمسك بطرقنا القديمة، وأنتم تتخلون عنها. وهذا ليس خلافا كبيرا”.

ليساعده الله، حينما ألصق وجهه بأرض المصلى البارد وطلب من العذراء أن تحميه وتغيره، وأن تخلصه من رغبته غير الطبيعية، ليساعده الله، ولكنها ربما كانت محقة.

attends the Baileys Women's Prize for Fiction 2017 at the Royal Festival Hall on June 7, 2017 in London, England.

6-

ابنة خال جدتي وأبناؤها هربوا من الحرب العالمية الثانية إلى مزرعة في شمال إنكلترا. وفي أحد الأيام، شاهدت ابنة خال جدتي زوجة المزارع تفحص رؤوس الأولاد، وتتخلل شعورهم بأصابعها، متلمسة الجمجمة بعظام أصابعها.

قالت زوجة المزارع:”هل حان وقتها؟”.

قالت ابنة خال جدتي:”ماذا؟”.

قالت زوجة المزارع:”القرون”.

لا يزال أولئك الأولاد أحياء - وهم بعمر والديّ.

7-

لكن العذراء لم تفعل شيئا لحمايته. حاول، لبضعة أيام، أن يبقى بعيداً. كانت النار تشتعل في عروقه. كان هناك خطأ ما يأكله، وهو يشعر بذلك. وأخيرا بعد عدة أيام اعترف للقس أنه يرغب بامرأة يهودية. ومن خلف الستارة العازلة تمتم الكاهن أن الشيطان يحاول أن يورط المسيحي الطيب بالغواية، وعليه أن يكرس نفسه للعذراء المباركة. ثم يطلب المغفرة. وفي ممرات الكنيسة عرف أي قس كان يستمع لاعترافه من النظرة الثابتة التي نظر بها له - هو توماس، الرجل القاسي والمؤمن. وخفض إدريك عينيه كي لا يلتقي بنظرة توماس.

في ذلك المساء، فشلت العذراء مرة أخرى في مساعدته أو حمايته. وتعرض أحد الإخوة المتواجدين لنوبة سعال قوية، رافقها صفير عميق لدرجة أن الرجل لم يكن يستطيع التنفس. قال أحدهم – وكأن الشيطان يتكلم بلسانه – "هذا السعال مصدر خطر. يجب على أحدنا ان يذهب للكافر ليحضر العلاج”.

كان الوقت متأخرا، والمطر يهطل بغزارة في الخارج. ولم يرغب أحد بالذهاب.

قال إدريك: “سأذهب أنا، أنا سأذهب إلى الطبيب لجلب الدواء".

شكره لآخرون ومنحه توماس نظرة مظلمة وهزة صغيرة من الرأس. لكن (توماس) لم يتطوع للذهاب بدلاً منه لأن المطر شديد جداً، في نهاية الأمر.

وكانت هانا غاضبة منه في البداية، لأنه غاب عنها لفترة طويلة. وعبرت عن ذلك بالتحدث معه مثل أي عميل آخر. وقالت حينما أخبر والدها بأعراض الرجل المريض:”نعم يا سيدي. الطبيب أليعازر سيحضر العلاج الآن، شراب من العسل والأعشاب. يمكنك الانتظار هنا حتى يصبح جاهزا يا سيدي”.

“هل يمكن أن تنتظري بجواري؟”.

وناح قلبه من فكرة أنه ربما فقدها.

قالت: "لماذا لا، يا سيدي. أنا لا أنتظر مع الزبائن، ولكن فقط مع أصدقائي".

نظر أليعازر لهما بعين شاردة. وقال:"ابنتي. نسيت أين وضعت الأعشاب التي أحتاج إليها لتحضير هذه الوصفة. تعالي وساعديني واتركي هذا الرجل الطيب في سلام".

ردت:"هذا ما أفكر به يا والدي".

وتركاه هناك وحده. ولكن مجرد رؤيتها أثارته مجددا لدرجة أنه لم يتحمل احتمال أنه لن يلمسها الليلة.

بعد فترة قصيرة، فتحت باب الغرفة حيث كان ينتظر على أحر من الجمر، وقالت:”طلب والدي مني أن أقدم لك بعض الطعام أو كوبا من الجعة لنساعدك على مصاعب الانتظار يا سيدي”.

ولم يكن أبوها معها. وقف على قدميه، قبل أن تعترض، أو تتحرك، وقبلها وهو يعتصر بيده صدرها. وبادلته القبلة لبضع لحظات، ثم دفعته بغضب بعيداً. وقالت:”هل هذا كل ما أعنيه لك. عاهرة يهودية تستطيع أن تتحرش بها وأنت بانتظار العلاج؟”.

قال:"لا.لا لا لا”. وانفطر قلبه وهو يخبرها بالحقيقة قائلا: "أنا أفكر بك طوال الوقت. صليت إلى مريم العذراء لكي أنساك ولكن لا لم أتمكن من نسيانك، أنت كل ما أريد". وكرر ذلك مرة أخرى، لأنه لاحظ أول مرة أن هذا ما يعنيه حقاً فقال:"أنت كل ما أريد".

نظرت إليه، وبحث عن علامات الحقيقة في وجهه. وكانت هناك دموع غاضبة في عينيها. وقالت:"لا أستطيع الزواج منك. لا أستطيع الزواج إلا من رجل يهودي. وعلى ما أعتقد أن والدي اختار لي زوجا مناسبا” .

ابتسم وقال:”وهل طلبت منك الزواج؟".

كانت عيناها سوداوين، ولمح لمعة مرحة صغيرة فيهما.

وقالت:"أتوقع أن تفعل".

وتبادلا الكلام. وبحلول الوقت الذي انتهى به تحضير الخلطة، كان خلافهما قد سوي. فهي تريده أيضاً، وهو شيء واضح. ببنيته القصيرة المضغوطة ونعومته ورأسه المتمرد. نعم هذا هو ما تريد بمعنى من المعاني.

نظر أليعازر لهما ثانية وهو يجلب الخلطة. من المستحيل أن لا تلاحظ شيئا من هذا القبيل. وهز أليعازر رأسه بأسف. وقال لإدريك:"هذا ممنوع بموجب قانونك كما تعلم".

وأسعد قلب إدريك أن يسمع أي تعليق حول الموضوع.فهي تريده. وهذا هو كل القانون. وودع هانا بقبلة طويلة في الشارع المظلم والبراق في أكسفورد، كان المطر حكاية منتهية. وكانا يلهثان وهما يفترقان، وقالت له همسا: "كما تعلم مريم العذراء كانت امرأة يهودية أيضا".

ولم يسمع من قبل تجديفا من هذا النوع.

8-

كان اليهود معروفين في الغالب باسم قتلة المسيح. وورد ذلك في العهد الجديد، بالطبع، وهو الكتاب الذي نشر كراهية اليهود من مدينة إلى أخرى، ومن أمة إلى أمة، حتى عم في أرجاء نصف العالم. وأصبح معلوما على نطاق واسع أن اليهود قتلوا الأطفال المسيحيين بالصليب. وأنهم شربوا أو أكلوا دماءهم. ولم يرحم اليهود ملك مثل وليام الفاتح. وأدين اليهود بإصابة ريتشارد الأول بـ"العين الشريرة" أثناء تتويجه، مما أدى إلى مذبحة كبيرة ضد اليهود في جميع أنحاء إنجلترا. وفي عام 1190، قُتل اليهود في كينغ لين، وفي نوريتش، في ستامفورد، وفي كولشستر، وهويتوفورد، وبوري سانت إدموندز، ويورك. وقد أصبحت هذه المجازر،بأقل تقدير، منتظمة إن لم تكن روتينية.

9-

تبقى شيء واحد للقيام به. ولكنها لم تطلب منه ذلك، إنما كانت تعلم أنه يجب أن يحصل. وعلى الرغم من أن أليعازر عرض مساعدته، قرر أنه من الأفضل أن ينفذه بيده. وفي وقت مبكر من صباح أحد الأيام هبط في نهر إيزيس عاريا حتى خضره، ووقف هناك حتى فقد الإحساس بقدميه أو ساقيه أو أي شيء أعلى منهما. ثم خرج بسرعة، ومعه شفرة حادة جدا، وجر قلفته وقطعها بحركة واحدة. وانتشر ألم حارق رغم الخدر أول الأمر. ونزف أكثر مما توقع وشعر بالامتنان لأليعازر الذي منحه مرطبا يرشه عليه. ولمدة أسبوعين اعتصم في غرفته في بيت أوغسطين، وادعى أنه جرح فخذه بعد أن سقط في الغابة. وقد أحضروا له الطعام والماء وشعر من جراء ذلك بالقليل من الذنب لأنه كان يدرك خطته.

ثم هرب من بيت أوغسطين، والحزن يكلله، وهو يقول: إن الرب ظهر له في الرؤية وأخبره أن قدره ليس في أن يكون شماسا وطالباً بل أن يبحث عن مهنة أخرى. وراقب وجهه توماس، وبعض الإخوة الآخرين، بارتياب. ولكن ماذا يمكنهم أن يفعلوا؟. إنه رجل حر، وله عقل يفكر، ويمكنه الذهاب إلى حيث يحب وأن يفعل ما يشاء.

وكان قد قررر أن يذهب إلى منزل (هانا) في الحي اليهودي. وكانت تنتظره. وأخبرها أنه قام بالختان. وهو لا يزال متألماً، لكن الجرح سيشفى. ولا سبيل للتراجع الآن. وحينما كان يكلمها، استولى عليه خوف مهيب، لربما لن تقبل به الآن، وستدعوه للانصراف.

لكنها كانت ترديه فعلاً. وكانت بنفسها تخشى أنه لن يعود إليها، وأنها ستلاقيه في الشارع بعد عدة شهور وسيسخر منها ويناديها يا عاهرة الشيطان وسيكون قد نسي التحاب الذي بينهما. كان كلاهما خائفين. لكن كان الشوق أكبر من الخوف. وقبلته بفمها وكان حبه ألذ من النبيذ. وفي غضون شهر، عندما شفي تماما، تزوجا.

ومرت عدة شهور من السعادة، هذا مؤكد. وكانا في بعض الأيام يستيقظان معا ويمارسان الحب في الصباح برقة بالغة. وكانت تدلك وجهه الذي غطته لحية كاملة. وشرعت تعلمه سبلها ومعتقداتها وأسرار الأعشاب، وكانت تجلس على ركبته ليلقنها علوم القواعد اللاتينية ويخبرها عن كافنتري. ولا يمكننا أن ننكر أنهما أنفقا معا بضعة شهور.

وعلى الرغم منأهمية الكتمان، قام توماس بإفشاء السر لماثيوو، وماثيو تكلم مع سيمون، وسيمون مع روجير، ووصل الكلام لسلطات الكنيسة وبلغ مسامعهم أن مسيحيا اعتنق الدين اليهودي واقترن بامرأة يهودية. وهكذا في صباح أحد الأيام، بينما هانا في النهر تستحم، جاء عشرون من رجال المأمور يحملون الهراوات بحثا عن إدريك. ووجدوه يعمل على وعاء من المساحيق للكدمات. ونادى على الجيران لتحذير هانا، وحثها على الهرب، وفي نفس الوقت قبض عليه الرجال وغطوا رأسه بكيس.

10-

هذه القصة حقيقية، على الأقل في خطوطها العامة. وهي مدونة في عدة سجلات، جنبا إلى جنب مع العديد من المجازر والجرائم الأخرى التي لحقت باليهود في إنجلترا في العصور الوسطى. وخلال الفترة التي كنت أقرأ عنها في المكتبة، دردشت مع امرأة كانت تعمل في المكتبة أيضا. وأخبرتها عن اليهود الذين لقوا الموت بطرق مختلفة في عدة فترات حكم لملوك إنجلترا.

قالت المرأة :” حسنا، عليك أن تفهم هذه الأشياء في سياقها التاريخي".

ورأيت أنني كنت غاضبا جدا لدى سماع ما تقوله. وأجبتها:"لا أعتقد أن الناس نظروا للموضوع في سياقه التاريخي حينما كانوا يتعرضون للقتل. لا أعتقد أنهم قالوا لأنفسهم: حسناً، يجب أن أفهم المجتمع والدوائر الثقافية التي جعلت ذلك يحدث. على ما أفترض أنهم عانوا وماتوا".

وأعتقد أن هذه المرأة شعرت أنني لست شهما بما فيه الكفاية. ولا أمتلك ما يكفي من روح المحبة والكرم المسيحي.

11-

تمت محاكمة إدريك أمام رئيس الأساقفة. وعرضوا عليه الصليب والرب المصلوب عليه. تذكر إدريك طفولته، وهو يركع أمام صليب كهذا، يقبله بشفتيه اللتين قبل بهما هانا مرارا وتكرارا. وهو يريدها الآن وجسده يحن ويتألم ليعانقها. وتخيلها كما يجب أن تكون، في العربة المتنقلة الصغيرة التي يمتلكها عمها، وهي بالطريق إلى لندن، مختبئة تحت الملاءات والبطانيات والتفاح. ربما آمنة. وربما سيراها لاحقا.

قال له رئيس الأساقفة:"عبر عن توبتك، وتخلص من خطيئتك وإلا لن يغفر لك؟".

كان بمقدوره أن يتوب الآن. سيكون الأمر بسيطا. وباستطاعته أن يقول: أنا نادم، وأومن أن الرب يسوع في قلبي. كان بإمكانه أن يفعل ذلك وربما يرحمونه وربما يسمحون له بالانصراف، وربما تحت جنح الظلام يمكنه أن يهرب بعيداً ويبحث عن هانا في لندن ويلف ذراعه حول خصرها ويسمع ضحكتها الناعمة. وربما يسافران بطريقة ما إلى باريس أو أمستردام أو حتى إسبانيا حيث يمكن أن يكونا مجرد رجل يهودي آخر وزوجته اليهودية، وبطنها مزدحمة بأطفال يهود. هذا ما يريده، وهذا شيء بسيط. ولكن يأتي وقت يكون القلب فيه متيقنا أن اللسان يعجز عن أن ينطق بما يفرضونه عليه.

وبدأ يصيح:"لا أريد القانون الجديد الموضوع، فهو بدعة. وأنا مع ما سبقه. ولا أتبع تعاليم يسوع. كان كاذباً مثل والدته ماري – بالتأكيد كانت مستلقية مع رجل، وعندما حملت منه ادعت أن الرب منحها طفلا. أنا يهودي الآن. يهودي مثل الآخرين".

وهذه هي الحقيقة. ألم يذكر إنجيل يوحنا إن"الحقيقة ستحررك"؟.

12-

كان ستيفن لانغتون هو رئيس الأساقفة. وكان هو نفسه موضع خلاف كبير بين روما وإنكلترا -- ورفض الملك جون الاعتراف به رئيسا لأساقفة كانتربري، وأصر البابا إنوسينت عليه. وكانت نتيجة الشجار تجميدا دام خمس سنوات: فقد رفض البابا السماح بالاحتفال بأي ولادة أو زواج أو قداس في إنكلترا. والتجميد واقع سيء عرض أرواح الشعب الإنكليزي للمخاطر، ولا يمكن العودة لتلك الظروف. وأن يهين مسيحي صالح مريم العذراء بهذه الطريقة سلوك يجلب غضب الله - والبابا - على الأرض. ولذلك هناك نهاية واحدة ممكنة فقط.

13-

والسجلات غير واضحة ومتناقضة قليلاً حول كيفية حدوث النهاية. البعض يقول إنه حريق وهذا هو رأي الأغلبية. ولكن رواية ماثيو باريس تروي ذلك بشكل مختلف.

ورد أنه تم طرد ستيفن لانغتون الشماس الإنجليي من الكنيسة لأنه أحب يهودية حبا غير قانوني.

ويخبرنا باريس: إن السير فالكس دي بريوتي، وهو فارس محلي، و"سريع في إراقة الدماء"، غضب من تحول الرجل المسيحي إلى الدين اليهودي، ومن الكلمات التي تحدث بها ضد العذراء لدرجة أنه: انتزعه عن الأرض، وأقسم 'بأنفاس الله!. سوف أقطع الحلق الذي تفوه بمثل هذه الكلمات’، وجرّه بعيداً إلى بقعة سرية وقطع رأسه. كان هذا البائس المسكين مولودا في كوفنتري. لكن اليهودية تمكنت من الفرار، مما أحزن فالكس الذي قال: "أنا آسف لأن هذا المسكين ذهب إلى الجحيم وحده”.

ربما كان الحريق وربما كان السيف. ولكننا نعلم أن الرجل الذي أدعوه هنا إدريك، فاسمه منسي منذ فترة طويلة، مات على يد الكنيسة، وأولئك الذين سعوا إلى حماية شرفها.

واليهودية التي دعوتها باسم هانا، لأن اسمها بالمثل لم يتم تسجيله، هربت. ربما يمكننا أن نتخيلها، هناك، بين التفاح، تبكي على زوجها وهي تسافر بالعربة متنقلة طوال أميال وعرة وغير سالكة حتى بلغت الساحل. وربما مات وهو يعلم أنها آمنة. وربما كانت تحمل مستقبلها في رحمها. حيث حياة جديدة تتحرك فيه. وربما كان يعرف هذا عندما مات. ربما. ربما.

***

 

.......................

*عدد من التفاصيل التاريخية في هذه القصة مأخوذة من كتاب روبن مانديل “ملك اليهود”.

نعومي ألديرمان Naomi Alderman روائية بريطانية من إسكوتلاندا. تعيش في مدينة باث الإنكليزية. من أهم أعمالها: القوة (رواية خيال علمي)، إنجيل المنافقين، الدرس، وسوى ذلك....

هذه االقصة نشرت لأول مرة في نيو ستايتمان (أيار / 2012).

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم