صحيفة المثقف

إعادة إحكام سؤال المنهج في الفقه الحضاري عند مالك بن نبي

نابي بوعلي"إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11].

مقدمة: رغم الفارق الزمني بيننا وبين ميلاد مشروع مالك بن نبي حول "شروط النهضة" إلا أن أفكاره ظلت تزحف إلينا متحدية الزمن، لتتصدر الواجهة مع تجدد الهم الحضاري، نظرا لما تحمله من تساؤلات عميقة حول شروط النهضة ومشكلات الحضارة والمعاناة الحضارية، وشروط البناء الحضاري الإسلامي الجديد.. فكيف ننتقل إلى صفحة جديدة من التاريخ؟ متى ندخل نادى الأمم المتقدمة في أفق المستقبل؟ من أين نبدأ النهضة وما شروطها؟

إن هذه التساؤلات تفرض علينا في نظر مالك بن نبي إعادة إحكام سؤال المنهج من أجل تشخيص المرض الذي ظل المجتمع الإسلامي يتألم منه منذ قرون، إذ اكتفت محاولات الإصلاح بالحديث عن أعراض المرض بطريقة مجتزئة ولم تتناول حقيقته، ولم تنفذ إلى صميم مشكلة أزمة النهضة بشكل جذري. إن الصياغة الجديدة للمنهج تضعنا أمام تحدي مواجهة أسئلة عميقة بخصوص شروط النهضة وأدواتها لاستئناف المشروع الحضاري.

إن غرضنا ليس الدفاع عن منهج مالك بن نبي في الإصلاح وغاياته التي يرمي إليها، وإنما أن نفحص التحول الحاصل في موقفه بخصوص المنهج الذي سلكه للتنظير لشروط النهضة في التاريخ انطلاقا من مكتسبات العلم بحكم تكوينه العلمي وهو ما شكل تحولا حاسما في الفهم الجديد لشروط النهضة، إذ رأى أنه قد حان الوقت لأن تتحرك الأمة بطرق إيجابية وعلى أسس علمية وعملية جديدة بما يخدم قضاياها حتي تأخذ مكانها في عالم الشهود لأنها صاحبة رسالة في التاريخ.

  سوف أتناول في هذا المقال إشكالية أساسية، تتمثل في إعادة إحكام سؤال المنهج في الفقه الحضاري من خلال كتاب مالك بن نبي الموسوم بـ" شروط النهضة"، استنادا إلى فرضية أن تغيير المنهج يدخلنا بالضرورة في تصادم قوي مع الواقع لكي نعيد تشكيله من جديد.

وتكمن أهمية هذا الموضوع في التأكيد على حق المسلمين في بناء حضارة خاصة بهم خارج دائرة الحضارة الغربية، وهذا لا يتعارض مع السنن الكونية التي تجعل الحضارة تداول بين الشعوب دون احتكار ودون فرض النماذج الحضارية الأخرى على الحضارة الإسلامية، خاصة مع تصاعد نبرة الخطاب الغربي الذي لم يستطع تصور حضارة خارج إطار حضارة الغرب. وهذا التفكير السنني في بناء الحضارات الذي يقدمه مالك بن نبي يكون قد يفيد في صياغة مقاربات جديدة أكثر فاعلية لتحقيق النهضة، وهي مقاربات تساعد في تركيب رؤية واقعية وموضوعية عن مقصدية الإنسان المستخلف.

1 - عن سؤال النهضة

يعتبر مالك بن نبي من أبرز المفكرين المسلمين الذين انشغلوا بالفكر الحضاري بالمعنى الفلسفي بعد ابن خلدون، وقد تمثل فلسفة التاريخ وفلسفات الحضارة لدي أغلب الفلاسفة الغربيين المعاصرين من أمثال هيجل وماركس وتوينبي واشبنجلر وكسرلنج...، وعمل على هندسة فكرة الاقلاع الحضاري في رحلته الفكرية التي كرس من خلالها جهوده لمشكلات الحضارة ووجهة العالم الإسلامي في تشخيص الأزمة الحضارية، وإمكانية النهوض بالعالم الإسلامي وإدخاله نادي الأمم الحية، حتى يتجه العالم الإسلامي إلى وضعه الطبيعي.

خاض مالك بن نبي نقاشا واسعا ومعقدا يغذيه الطموح الذاتي للتحرر من التخلف والاستعمار، لأنه كان يحمل هموم الأمة الجزائرية بكل إخلاص وتفاني، وعمل من أجل إدراك المقاصد وبلورة مشروع نهضوي مستقبلي لأمة أصابها التآكل من جميع الجهات، وصار حضورها التاريخي يتراجع أمام تقدم الأمم الأخرى. وحتى ولو انصبت دراساته على وضع محدد هو الجزائر، إلا أنها تعدت في أبعادها الإنسانية حدود الجزائر والعالم العربي والإسلامي إلى آفاق واسعة من العالم.

يرى مالك بن نبي أن الأمة الإسلامية تواجه تحديا خطيرا، ولا خيار لها أمام التحدي إلا رفعه، ولا بديل لها عن التحضر كحتمية تاريخية ووجودية. وفي ظل التدافع الحضاري، يكون من حق المسلمين، بل ومن واجبهم البحث عن أسباب الحضارة ومسالك التحضر، وأن يكون لهم مشروعا حضاريا كباقي الحضارات الأخرى، وخاصة المشروع الحضاري الغربي الذي يسعى إلى الهيمنة على الحضارات الأخرى وابتلاع باقي الثقافات في جوف ثقافة واحدة، تلتهم في طريقها كل ما تجده مختلفا عنها ومخالفا لها. في هذا المناخ الفكري والسياق التاريخي المليء بالتناقضات ولد مشروع "شروط النهضة" بإيمان قوي ووعي بما يجري واستشراف لمستقبل الأمة ووجودها بين الأمم، وهو مشروع فكري يطرح على المسلم أعمق الأسئلة وأكثرها خطورة،  تلك الأسئلة التي تحمل في ثناياها هموما نهضوية تحيل بقوة على الواقع والتاريخ، والتي لا تزال تحتفظ براهنتيها وتنتظر الإجابة.

 لذلك يندرج مشروع مالك بن نبي في إطار السؤال المعرفي المتعلق بإشكالية النهضة وشروط البناء الحضاري الإسلامي الجديد، الذي طرحه رواد النهضة والإصلاح لمعالجة الوضع الاجتماعي والحضاري العربي القائم، وضرورة تغييره نحو الأفضل، لأن هذا الواقع لا يعكس آمال وطموحات ورسالة الأمة الإسلامية، وظل هذا الهاجس مدار اشتغال الفكر العربي المعاصر، وظلت المحاولات تصب في إطار سؤال مركزي، هو سؤال النهضة.

يختصر سؤال النهضة عمق الأزمة الحضارية عند المسلمين ملخصة في السؤال الأسطوري: لماذا تخلف المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ وفي هذا المضمار قدّم مالك بن نبي اجتهادات لتفسير مشكلات الحضارة كغيره من المفكرين العرب الذين تحركوا لتجديد الخطاب التاريخي العربي بعد صدمة الحداثة، وتوسعت هذه الحركة النقدية مع مالك بن نبي ليعيد للمسلم كامل وظيفته في البناء الحضاري حيث نجده يختلف عنهم في التناول المنهجي الذي تميز بالروح الدينية وقوة التحليل العلمي في رحاب فلسفة التاريخ، فقد لاحظ أن الجهود السابقة لم تؤثر بقوة في حركة التاريخ، ولم تحرك طاقات الأمة وتحررها، مما يفرض إعادة قراءة هذا التاريخ منهجيا في ضوء مختلف. ولا يتم ذلك المسعى في نظره إلا من خلال استيعاب حركة التاريخ، ووعيها، بمعنى البحث عن دور ووظيفة الفكر في التاريخ. إن التاريخ في نظره لا يسير بطريقة عفوية كما يعتقد البعض، بل تحكمه قوانين محددة تقوده نحو غايته النهائية. وسؤال النهضة يضعنا أمام المشكلات، فكيف فرضت النهضة نفسها كرهان على الفكر العربي، وكيف تعاطي معها ذلك الفكر؟

ظهر مالك بن نبي رائدا لقراءة الحضارة، متأملا في ظاهرة التخلف والتدهور التي أصابت الأمة الإسلامية والتي استولت عليها الأفكار الأشد عداء للحداثة بالرغم من أنها تحاول النهوض منذ زمن بعيد، متسائلا كيف نرسم طريق المستقبل؟ وكيف نفعّل الطاقات الجامدة؟ وبعد مراجعته للسجلات السابقة " اكتشف قصور الفكر الإصلاحي النهضوي المرتبط بالإسلام وفشله في حل مشكلة النهضة، التي هي في أصلها مشكلة حضارة وليست مشكلة تخلي عن الدين"( بوبكر،ج.(2012) مكانة مالك بن نبي في الحركة الاصلاحية في العالم الاسلامي:254). وهنا بالنسبة للإسلام يقلب مالك بن نبي السؤال منهجيا من الصيغة التقليدية: هل يوجد في الإسلام ما يمنع الإنسان المسلم من التحضر ومسايرة وهج الحضارة إلى الصيغة التالية: هل يوجد في الإسلام أشياء ما تدفع بالمسلم إلى الحضارة؟

 ويجيب أن التاريخ يشهد بأن الاسلام بنى حضارة طيلة ثمانية قرون، وهذا البناء الحضاري الإسلامي هو الذي مثل الجسر الذي عبرت عبره الحضارة إلى زماننا الحالي، أي العصر الجديد، ولولاه لبقيت الإنسانية في العصر القديم جامدة ولم تتقدم أبدا. فالدين عملية ضرورية لبناء الحضارة" ففي الدين توجد عوامل الحضارة وأسباب النهوض، والأمر يعود إلى فهم الدين والتعاطي معه، فالتخلف مثل التحضر يحل بالمسلم وبغير المسلم، والإسلام عامل تحضر إذا تمكن المسلمون من تحريكه نحو الإقلاع والبناء الحضاريين وإلا كيف نفسر تخلف المسلمين وتقدم غيرهم. فالإسلام ليس مجرد شعارات ترفع ونسك تقام وشروح تبرز محاسنه وتفند أقاويل ودعاوى خصومه وأعدائه، بل الأمر يتعلق بالمنهج الإسلامي المتبع من طرف المسلمين في التعاطي مع الواقع والحياة عامة"( بوبكر،ج.(2012) مكانة مالك بن نبي في الحركة الاصلاحية في العالم الاسلامي:254).

 لقد ظلت حركة الإصلاح تعالج مشكلة التخلف انطلاقا من رؤى وأمزجة شخصية وبطريقة جزئية دون تناول المشكل في كليته، ولذلك رأى مالك بن نبي أن الرأي الشخصي أو المزاج أو المهنة غير قادرة منهجيا وعلميا أن تقدم تحليلا موضوعيا في مجال يسيطر عليه الجانب الذاتي، وعلى سبيل المثال فقد" رأي رجل سياسي كجمال الدين الأفغاني: أن المشكلة سياسية تحل بوسائل سياسية، بينما رأي رجل دين كالشيخ محمد عبده أن المشكلة لا تحل إلا بإصلاح العقيدة والوعظ …الخ على حين أن كل هذا التشخيص لا يتناول في الحقيقة المـرض بل يتحدث عن أعراضه"( بن نبي، م(1986) شروط النهضة:41).

 لقد اتخذ مالك بن نبي مسارا عكسيا في الاشتغال على سؤال النهضة بعد أن اكتشف نقائص منهجية وسمت حركتي الإصلاح والنهضة اللتين تناولتا الواقع بطرق جزئية سياسية...إدارية...عقلية...دينية ...تربوية...ايديولوجية... من دون الوقوف على علة المرض، فقرر إعادة إحكام سؤال المنهج، يقول مالك بن نبي" هذه الدراسات تعالج الاستعمار والجهل هنا، والفقر والبؤس هناك، وانعدام التنظيم واختلال الاقتصاد أو السياسة في مناسبة أخرى، ولكن ليس فيها تحليل منهجي للمرض، أعني دراسة مرضية للمجتمع الإسلامي بحيث لا تدع مجالا للظن حول المرض الذي يتألم منه منذ قرون"( بن نبي، م(1986) شروط النهضة:40).

ومن هنا صارت المسألة الأساسية التي تشكل الشغل الشاغل لمالك بن نبي تتمثل في السؤال: كيف نبدأ النهضة؟ كيف تنهض الأمة الإسلامية من جديد؟ وما شروط هذه النهضة المنتظرة؟

من هنا تأتي دعوة مالك بن نبي لتصالح الذات مع التاريخ والالتحام به، من خلال القضاء على أشكال الغربة والاغتراب، وابتكار أنماط جديدة من التفكير الحر البناء، التي سيقودنا حتما إلى معرفة القوانين الأساسية التي يخضع لها تاريخ الإنسان، حتى لا نظل شعوبا مراهقة قاصرة تحتاج إلى غيرها دائما، لا تعرف مرحلة الشباب ولا مرحلة الرجولة، وهو ما يدل بما فيه الكفاية على أن هذا التاريخ الذي نحياه اليوم، قد انحرف عن مساره الطبيعي، وهو بالتالي تاريخ الغياب عن المسرح العالمي والتدافع الإنساني.

لقد صار من الضروري في نظر مالك بن نبي أن ينتصر الإنسان العربي نفسيا وفكريا وثقافيا، وأن يعالج أمراضه من الداخل بالاعتماد على الذات، حتى لا يبقى حالما وهو في حالة اليقظة وما أصعب أحلام اليقظة المنحرفة، ولا بد عليه أن يقتنع بإمكانية تحويل التاريخ تحويلا مفيدا، بعد أن يمتلك المقومات الضرورية لذلك، وفي مقدمتها وعي الصيرورة التاريخية من خلال أبعاد الفكر المختلفة.

2 - أبعاد الأزمة الحضارية:

من الطبيعي قبل الحديث عن النهضة وشروطها لا بد من تحديد معالم أزمة الحضارة في العالم الإسلامي، فالأمة الإسلامية تعيش وضعا مأزوما يتجلى في الحصار والتهديد والتقسيم والتهميش والعدوان المباشر عليها. والملاحظ أنه في الوقت الذي تستفحل الأزمة عندنا وتتعمق، ينجح الغرب في إقامة هوة ويوسعها على الدوام بيننا وبينه ويطوقنا من كل جانب ويحاول إغراقنا أكثر فأكثر في مستنقع التخلف ليهم بالسيطرة على العالم. أمام هذه الصدمة شرع الفكر العربي يشخص ملامح الأزمة المركبة التي يعيشها في شكل تبعية للقوى العظمى، فالمجتمعات العربية تتخبط في دوامة من المشكلات وتبحث عن نفسها في خضم الصراع، وضيعت الكثير من الفرص والوقت لتحقق لنفسها هامشا من الأمن على كل المستويات.

إلى جانب ذلك تعيش أزمة داخلية هي أزمة العلاقة السياسية بين الحاكم والمحكوم وإشكالية تجديد النظم السياسية،  من دون أن ننسى حضور السلطة الكاتمة للأنفاس والمراقبة للخطاب والمهيمنة على كل شيء لاعتقادها أن الحقيقة تتجسد فيها وحدها استنادا إلى ايديولوجيات هرمة. ومن دون الوقوف على علة المرض السياسي في المجتمعات الإسلامية الذي ظل ينتج ويعيد إنتاج ذلك الكائن المغترب عن العالم ويرسم مصيره وتاريخه منذ لحظة ميلاده حتى لحظة فنائه ويكرس منطق التأزم التاريخي، فإن الطريق إلى النهضة يبقى شاقا وطويلا.

إن الغرب عرف النظام الديمقراطي وبلور رؤى سياسية تقوم على حكم الجماعة وتطوير الفضاء العمومي وتوسيع هامش الحريات الفردية والجماعية وضمان الحد الأدنى من حقوق الإنسان وإشاعة ثقافة المواطنة، بينما العقل العربي لم يعرف هذا النظام، بل عرف أنظمة تقوم على قدسية الحاكم وتفرده المطلق، حتى صار التاريخ العربي في معظمه يدون بأسماء الملوك مثل العصر الأموي والعصر العباسي، ويتأسف على استمرار هذه الظاهرة" وما زالت هذه العقيدة الوثنية التي تقدس الأشخاص لا زالت منتشرة في بلاد الإسلام"( بن نبي، م(1986) شروط النهضة:158).

وهنا يلح مالك بن نبي على ضرورة الانتقال من ممارسة البطولة إلى صناعة تاريخ الشعوب.

ثم أزمة التحديات الخارجية التي تعمل على إجهاض كل مسعى نحو التقدم والازدهار حتى تبقى المجتمعات العربية في دائرة التخلف التي يزجها الغرب فيها حتى يتحول الفرق بيننا وبينه إلى عجز حضاري دائم. ففي كل محاولة وفي كل منعطف تاريخي تصطدم الأمة العربية بقوة غاشمة تجهض أي محاولة للنهوض الحضاري، وأخيرا فقدان الرؤية الاستراتيجية الشاملة لتغيير الواقع وذلك من خلال إشراك كل الفاعلين وأهل الاختصاص من أجل انتشال الأمة من وضعية التخلف. فتجاوز حالة التخلف يكون بالنقد العقلاني والوقوف على الأسباب الحقيقية الموضوعية والتاريخية زيادة على امتلاك المعرفة العلمية الجديدة التي تسهم في بناء مشروع تنموي نهضوي متكامل في أبعاده الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية.

3 - من شروط النهضة إلى بناء المشروع الحضاري:

قبل تحديد مفهوم الحضارة وشروط النهضة عند مالك بن نبي، نتوقف عند فكرة مركزية أصيلة شغلت مساحة واسعة من تفكيره، وهي فكرة "القابلية للاستعمار"، والتي يمكن اختصارها في قولنا" لا يوجد استعمار إلا حيث يوجد مُستعمَر"، وكيفية الانتقال من القابلية للاستعمار وتكسير قيوده إلى رحاب النهضة والحضارة التي يؤدي فيها المسلم رسالته.

يرى مالك بن نبي أن "هذه الملاحظة الاجتماعية التي تدعونا لأن نقرر أن الاستعمار ليس من عبث السياسيين، ولا من أفعالهم، بل هو من النفس ذاتها، التي تقبل ذّل الاستعمار، والتي تمكن له في أرضها"( بن نبي، م(1986) شروط النهضة: 31).

لقد أفرد لهذه الفكرة جانبا كبيرا من التحليل والنقد والاستنتاج لفك ألغازها في إطار معالجة الاستعمار والشعوب المستعمرة. يرى مالك بن نبي من خلال تحليل المعامل الاستعماري الذي يوجه مصير الفرد، أن الاستعمار لا يتسلط إلا على الشعوب الضعيفة، لأن المستعمر الطامع يستثمر في التخلف، فلم يحدث تاريخيا أن تعرض شعبا قويا للاستعمار، وهذه إحدى بداهات سنن التاريخ التي ينبغي أن يعيها المسلم، فحيثما يكون الانحطاط يجلب الاستعمار بالضرورة، الذي هو نتيجة حتمية وطبيعية للانحطاط الحضاري. وبالمقابل، وحتى لا نكون مستعمرين يجب أن نتخلص من ظاهرة القابلية للاستعمار. لا يمكن فك عقدة القابلية للاستعمار وغيرها من ملامح الأزمة المركبة التي يعيشها المسلمون إلا بتغيير المحتوى النفسي والعقلي والثقافي للإنسان، والتغلب على المشاكل التي تمهد لقدوم الاستعمار وتفكيك بنيتها، وتفعيل الأفكار بالتوجيه والاستغلال الفاعل وإعادة صياغة الثقافة الإسلامية وعناصرها الأربعة: الأخلاقية، الجمالية، المنطق العملي، والجانب الفني. إن المشكلة لا تكمن في الاستعمار في حد ذاته ولكن في من تتسع نفسه لتقبل ذّل الاستعمار، وهنا يكتشف مالك بن نبي المعامل الداخلي في مقابل المعامل الاستعماري الخارجي في الفرد الذي يقبل على نفسه الاستعمار، ولا يتحرر الإنسان من ذلك ليرفع عن نفسه مظلمة القابلية للاستعمار إلا برفع شعار" أخرجوا المستعمر من أنفسكم يخرج من أرضكم". وذلك بتفكيك عناصر الخوف وبقايا عصور القهر والظلام والقضاء على النقائص التي تعتري الشعور وتخليصه منها.

إن الشرط الأول للنهضة هو ضرورة محاربة استمرار الاغتراب الثقافي في وعي الفرد والتحرر من فكرة القابلية للاستعمار التي هي محك ثقافي يكشف قدرة الوعي على العودة إلى الذات بادراك التمايز والتغاير عن الآخر، وما لم ندرك هذه الحقيقة سنظل نسير عكس حركة التاريخ الطبيعية وسننه الكونية" إن جوهر المسألة هو مشكلتنا العقلية، ونحن لا زلنا نسير ورؤوسنا في الأرض، وأرجلنا معلقة في الهواء، وهذا القلب للأوضاع هو المظهر الجديد لمشكلة نهضتنا"( بن نبي، م(1986) شروط النهضة: 36).

4 - مفهوم الحضارة عند ملك بن نبي

من جملة الاهتمامات التي انصبت عليها دراسات الإنسان تاريخيا بصورة عامة، هي محاولة فهم وتعليل عوامل التطور والتقدم، وأسباب الانحطاط والتخلف التي تصيب الحضارات المتتالية التي شيدها الإنسان، وهل هناك قوانين موضوعية تتحكم في قيام الحضارات وزوالها؟ ولماذا هناك تقدم حضاري؟ ولماذا هناك تخلف حضاري بالمقابل؟ من يحرك التاريخ ويصنعه؟ إلى غير ذلك من التساؤلات الكثيرة.

 وفي ضوء ذلك، شرع مالك بن نبي في بلورة مفاهيم نظرية جديدة لفلسفته، ووضع الحضارة في شكل معادلة رياضية، بتركيب ثلاثي الأبعاد (الإنسان، التراب، الوقت) تحكمها الفكرة الدينية التي تمزج هذه العناصر وتفعّلها، وتمنحها الديناميكية في إطار مجتمع حي متفاعل باستمرار، ليؤسس نظرية من منظور الظاهرة القرآنية ومركزية القرآن الكريم، يؤكد من خلالها على أن الفكرة الدينية كعامل اجتماعي تسهم في تحريك التاريخ وتوجه مساره المستقبلي" إننا نجد في القرآن الكريم النص المبدئي للتاريخ التكويني"إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِم"( بن نبي، م(1986) شروط النهضة: 49 ) هذا النص الذي لا يؤكده مبدأ الايمان الديني فقط، ولكن يدعمه اختبار التاريخ وصيرورته، كما يؤكد أن موطن المعجزة يكمن في النفس التي دل عليها القرآن الكريم، لدفعها إلى محراب الإيمان الذي يمنحها مبدأ الشعور بضرورة التغيير ويدفعها إليه، لأن الدين فكرة محورية في بناء الشخصية، لتتجه لبناء مشروع نهضوي متكامل في أبعاده الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية والإنسانية بعد العودة إلى فكرتها المؤسسة التي شكلت ميلاد حضارتها الأولى في النموذج الأصلي الذي قطعت صلتها به بسبب الانحراف التاريخي وجهل السنن. 

استند مالك بن نبي إلى ترسانة قوية من المفاهيم وظفها في سائر كتاباته وبناء نظريته في فلسفة الحضارة، ومن بين تلك المفاهيم مفهوم الحضارة، فماذا تعني الحضارة عنده؟

 الحضارة في نظره هي ضرورة حياتية لكل شعب، ووجود شعب بدون حضارة هو أشبه بالعبث في التاريخ، لأن من شروط المجتمع البشري أن تكون له حضارة، فالجماعات التي تعيش دون غاية فهي تعيش في زمن ما قبل الحضارة ولا تؤدي وظيفة وجودية. وما لم يفقه الإنسان حقيقة قيام وأفول الحضارات فسيظل يتخبط في دوامة مشكلاته، ويعيش الضنك الحضاري. ثم إن الحضارة إبداع بشري خالص، يتوقف على حصيلة تجارب الشعوب وجهودها عبر الزمن عندما ينتج الإنسان الأشكال الراقية للحياة، وبإمكان أي شعب أن يصل إلى درجة التحضر عندما يخرج من طور التكديس إلى طور البناء، وهنا يفند مالك بن نبي أكاذيب الاستعمار الغربي، الذي كان يدعي أنه يحمل معه للشعوب المستعمرة ملح الحضارة، لأن الحضارة لا يكمن استيرادها وإن كان يمكن استيراد منتجاتها والانتفاع بها.

5 - ركائز النهضة بوصفها مشروعا ذاتيا:

تنبني النهضة على فعل الإبداع، وركائزها متداخلة ومتكاملة في نظر مالك بن نبي، فهي تمثل عالم الأفكار، وعالم الأشياء وعالم الأشخاص، ويعتقد أنه آن الأوان لنتحرك ونستيقظ من السبات ونبني حضارتنا بتشييد ذاتي، واستقلال هوياتي، يضمن لنا الخصوصية في إطار الكلية والكونية والتنوع الثقافي مع الآخر، وإلا فسيحكم علينا التاريخ حكما قاسيا، ويتركنا في برودة قاسية جدا تتواصل فيها المعاناة الحضارية. ولكي نعرف شروط النهضة، يجب علينا أن نحدد مكاننا من دورة التاريخ، لأن استيراد الحلول شرقا وغربا هو مضيعة للوقت وإطالة للداء، وبالرغم من ذلك يبدو أننا نعمل على تكويم منتجات الحضارة الغربية أكثر مما نفكر في بناء حضارة ذاتية خاصة. ولكن ليس بمجرد الحديث عن شروط النهضة تتحقق النهضة، فهو يدرك أن تحريك مجتمع خضع لنوم طويل، وسيطرة استعمارية غاشمة، ليس بالأمر اليسير، فالمجتمع حديث اليقظة لا تزال عليه آثار التخلف. لقد عملت رواسب الماضي وأطره وأبنيته فيه عملها، وكاد أن يستسلم للتخلف لقرون من الزمن، واستولت عليه فكرة التخلف والعقلية التراثية الفجة، ومن ثم لا بد أن يخضع لعملية تغيير جذرية شاملة للإنسان العربي الذي يحمل روح الهزيمة بين جوانحه ويعيش على بقايا أفكار لم تعد تستجيب لمشكلات العصر والتطور، ومستلب في مظهر حداثة مغدورة ومغشوشة، لم يساهم في بنائها ولا يستفيد من إمكانياتها الفعلية. ولفك الارتباط بين مظاهر التخلف وبين مرحلة النهضة، لا بد من المرور بمرحلة انتقالية تفصل بينهما، فظاهرة التخلف لم تخص بها الأقدار المجتمع الإسلامي وإنما هي ظاهرة تصيب كل المجتمعات ولذلك ينبغي أن نتخلص من عقدة التخلف التي ليست من قدرنا وحدنا في هذا العالم.

6 - أفق المستقبل في ضوء الايمان الديني:

لا يمكن العبور إلى المستقبل واسترداد حرية العالم الإسلامي دون تشخيص الحاضر، يؤكد مالك بن نبي على القرآن وأهمية الدين بالنسبة لبناء الحضارة ضد الالحاد والمادية، ويركز على فكرة التجديد بالدين، وليس تجديد الدين. تلتقي فلسفات التاريخ عند الرؤية المستقبلية والمصير في إطار جدلية الإنسان والحضارة، بين التكديس والبناء لأن الأمة لا تزال بين أحضان وثنية الجهل وغياب الوعي وسوء تقدير للقوى المحركة والدافعة في التاريخ حتى ليكمن القول أن المريض قد استسلم لمرضه وقبل التعايش معه.

 بين التكديس والبناء وجدل الإنسان والتاريخ يكشف لنا قانون قيام وأفول الحضارات من أين نبدأ النهضة، وكيف تبنى الحضارة، استيعاب التركيب الديناميكي لثلاثية الوقت والإنسان والتراب في وسط ينتج حضارة وهو الوسط الديني المركب للفكرة في حالة حياة وتحويلها إلى مشروع، وتفعيل الأفكار من خلال التوجيه والاستغلال الفاعل فالذي ينقص المسلم منطق الفعل والحركة، وإعادة صياغة الثقافة الإسلامية وعناصرها الأربعة: الأخلاقية، الجمالية، المنطق العملي والجانب الفني، وهي التي تحدد اتجاه الحضارة ورسالتها في التاريخ.

والإنسان المستخلف في فكر مالك بن نبي يعي التفكير السنني في بناء الحضارات، وفلسفة الحراك الحضاري، والإرادة الحضارية واستحضار الهمة، والتحديات التي تواجهه.

بالإضافة إلى المشكلات المعرفية والمنهجية السابقة التي آثارها مالك بن نبي، فإنه آثار أيضا مشكلة المرأة التي لا يمكن اعتبارها مستقلة عن الرجل، فالاثنين يشكلان مشكلة الفرد في المجتمع من المنظور الاجتماعي. إن البحث عن المنهج الأسلم هو الذي دفعه إلى إثارة المشكل، حيث قلل من أهمية الدراسات التي نصبت نفسها للدفاع عن حقوق المرأة باعتبارها مخلوقا ضعيفا مهضوم الحقوق والتي تطالب بتحريرها، بأنها ليست دعوات صادقة، ولا يمكن للمرأة المسلمة أن تتقدم بمجرد تقليد ظاهري للمرأة في الغرب. بل يجب أن ننظر إلى الرجل والمرأة من خلال حاجة المجتمع إليهما معا. 

لا يغيب عن نظر مالك بن نبي أن هناك معوقات تقف أمام النهضة، منها تعاظم الرؤية الطرقية الصوفية التي رسخت الدروشة، وتراكم سنين التخلف، وغياب الوعي، مركب النقص، آفة التقليد القاتل، فقد القدرة على التحدي الحضاري، عدم استيعاب مرونة الواقع من حولنا...، ولذلك تقتضي نظرية التغيير تعميق الوعي والشعور الإسلامي في كل المسلمين بضرورة محاربة الوعي الزائف الذي يكرس الروح الانهزامية لديهم. وفي نفس الفكرة يرى حسن حنفي أن عدم الاهتمام بحياة الشعوب ومراحل تطورها المختلفة، يجعل الحقيقة سجينة التاريخ الرأسي، دون الاكتراث بالتاريخ ألأفقي بين الماضي والمستقبل "وغياب التاريخ الأفقي في الفكر الإسلامي أدى إلى غياب كل نظرية في التقدم التاريخي يكون محورها الإنسان في تفاعله مع واقعه الاجتماعي والسياسي، لذلك سيطرت العقلية الإيمانية التي تربط الله بالإنسان في دائرة الأخلاق والإيمان المحض بعيدا عن جدل الواقع والتاريخ"( قادة، ج،(2005) نحو فلسفة جديدة للتاريخ العربي عند حسن حنفي، حروف الحكمة العملية:50).

إن الخلاص من ورطة التخلف الحضاري يكون بوعي بخطورة الانحطاط وضرورة تجاوزه بامتلاك إرادة الحضارة من خلال الوعي الحقيقي بضرورة الخروج من حلقات التخلف، لنتحكم في زمام حركة التاريخ و توجيهها مع ما يتناسب وحضارتنا وقيمنا وثقافتنا تحريرا للإنسان الذي يتألم.

وعلى الرغم من أن مالك بن نبي يعتقد أن من يقوم بالمقارنة بين العالم الإسلامي والأوروبي يجهل قانون الدورة الحضارية، وهذا أشبه بالسجين الذي يطلب من سجانه أن يسلمه مفاتيح السجن ليتحرر منه، فإننا نرى أن الخطاب العربي  قد تبلور متأثرا بالحضارة الغربية التي تقاطعت معه بفعل المد الاستعماري، وإذا ما حاولنا اختزال تلاقي أفق الجانبين في قضية مركزية، فإنه يمكننا أن نتحدث عن مشروع النهضة العربية في الواقع وفي الفكر العربي.

يمكن القول، أن مسألة تغيير المجتمعات وتطورها تاريخيا تأتي بقوة الفكر، والتاريخ يشهد أن أوروبا قد تطورت بفضل إسهامات تطور الفكر الفلسفي والسياسي والاقتصادي، ابتداء من عصر الأنوار، أو ربما قبل ذلك، وهي المرحلة التي مهدت للثورات البرجوازية وفي مقدمتها الثورة الفرنسية التي شكلت منعطفا حاسما في تاريخ أوروبا، فلقد انشغل كبار المثقفين والمفكرين الأوروبيين من أمثال هوبز وروسو وهيجل وكوندورسيه وغيرهم بأكبر القضايا المطروحة على الساحة آنذاك في مجتمعاتهم. وكانت حصيلة أفكارهم ونظرياتهم المحرك الأساس للتحولات العميقة المتلاحقة، التي شهدتها أوروبا في مختلف الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

وهكذا كانت أسماء الفلاسفة تاريخيا تتصدر قائمة العمالقة المؤثرين في تاريخ الإنسانية الباحثين عن خلاصها وتخليصها من أشكال الخرافة والوعي الزائف وصنوف التخلف والتبعية. لا قيمة للفكر ما لم يرتبط بالواقع ويعبر عنه ويلتحم به، ويرسم للمجتمع تطوره نحو الأفضل في الحاضر والمستقبل. إن وظيفة الفكر هو البحث عن البدائل الممكنة القادرة على دفع المجتمع نحو التطور والعمل من أجل تقدم الوعي بالواقع والعمل على تجاوز عناصر تأخره، وتفعيل حركة الإبداع الذاتي للأمة، عوض الاستسلام للأقدار الوهمية، التي تحبط كل عزيمة، وتقيد كل إرادة مخلصة وطامحة للتغيير نحو الأفضل.

يلاحظ علماء الاجتماع والانثروبولوجيا وجود اختلاف في درجة وعي الشعوب بتاريخها، فهناك شعوبا عملت على الاستفادة من تاريخها ولم تتقاعس، ووظفته في الاتجاه الصحيح أثناء يقظتها، لتجاوز آلامها وتحقيق آمالها وأحلامها، وهناك شعوب أخرى ولت ظهرها لتاريخها، وتنكرت له، فتنكر لها بالمقابل، وأضحت تعيش على هامش الزمانية. حتى ليمكن تقسيم الشعوب من هذا المنظور إلى شعوب حارة وباردة" إن المجتمعات البشرية قد استعملت بأشكال متفاوتة زمانا ماضيا ربما كان بالنسبة لبعضها كناية عن وقت مهدور. وإن بعض المجتمعات كان يلتقم اللقمة مزدوجة ويقطع الأشواط أزواجا بينما كان غيرها يعبث ويتسكع، هكذا... التمييز بين صنفين من التاريخ: تاريخ تقدمي، اكتسابي، يراكم اللقمة تلو اللقمة والاكتشاف تلو الاكتشاف لكي يبني حضارة عظيمة، وتاريخ آخر لا يقل استخداما للمواهب، لكنه يفتقد للهبة التأليفية التي يمتاز بها الأول"( ستروس، ك. ل(1990)، الإناسة البنيانية: 305).

 الخاتمة:

إن كتاب "شروط النهضة" يلخص جهد مالك بن نبي الفكري الذي كان يرمي إلى إحداث النهضة في العالم الاسلامي، ويعبر عن صرخة مفكر هاله وضع الأمة الإسلامية التي تكاد تخرج من التاريخ  وتخشى خطر الإقصاء التاريخي، رغم أنها ليست من المجتمعات الطبيعية الساكنة، بل هي من المجتمعات التاريخية، التي يمكن أن تجدد شكل وجودها في التاريخ. وتعود إلى الحياة من جديد، التي يستأنف فيها كل شعب دوره ورسالته ويبدأ تاريخه من خلال امتلاك ما يسميه مالك بن نبي إرادة الحضارة.

ولعل أحسن توصيف لجهد مالك بن نبي في كتابه "شروط النهضة"، هو ما كتبه عبد الصبور شاهين قائلا: "الدراسة التي يقدمها بن نبي كأنشودة بهيجة يحي بها كوكب المثالية الذي يسجل فجر الحضارات منذ العصور المظلمة ولكن هذه الأنشودة هي ثمرة عقل يحاول فتح آفاق عملية للنهضة العربية والإسلامية"( بن نبي، م(1986) شروط النهضة: 8).

ولكن بالرغم من هذه المحاولة الرائدة، فإن مالك بن نبي لم يكن أكثر حظا من غيره، بل هو يشترك في هذا الامتياز الحزين مع بقية المفكرين العرب الذين لم تجد أفكارهم من يتفاعل معها في زمانها لتمنح الوجود حيوية وديمومة، وبالتالي بقيت على مستوى الخطاب ولم تنجح في نقل المجتمع إلى مستوى الطموح الذي يراود مخيال النخبة المثقفة، بعدما عجزت النخبة السياسية عن تحقيقه على أرض الواقع رغم التضحيات الجسام التي دفعتها الأمة، والتي لا تزال تدفعها.

ولقد أدلى من جهته عبد الفتاح مورو بشهادة عن مالك بن نبي يشيد فيها بجهوده التي سبقت زمانها قائلا:" هؤلاء المفكرون الذين ينظرون بعيدا ويسبقون أوقاتهم يُستهزأ بهم ولا يتحملهم الناس ويجدون أنفسهم غرباء في أوطانهم وأعظم غربة هي عندما يوجد الإنسان في قوم لا يفهمونه".

ثم أخيرا دخلت أفكار مالك بن نبي وأطروحاته في إطار الشروحات وإعادة الشروحات في شكل من أشكال التكديس الذي كرس جهوده الفكرية لمحاربته، دون أن يحدث تراكما معرفيا حول نظريته في الحضارة وشروط النهضة تدفع بالمجتمع الإسلامي قدما إلى الأمام بدل النكوص الحضاري. كما أننا لم نجد شخصية أو مؤسسة علمية أو إرادة سياسية تركّب ما جاء به مالك بن نبي ليبقى الفكر العربي يعاني حيا وميتا. فليس هناك تقدما ملموسا على صعيد الممارسة. وهذا الوضع ينسحب على جميع المشاريع الفكرية المتلاحقة لأهم رواد التجديد الفلسفي، النهضوي والثقافي في العالم العربي حيث ظلت بعيدة عن أن تزلزل التخلف الذي اشتد تماسكه وتمسكه بالمجتمعات الإسلامية، وتأجلت الدورة الحضارية والاستئناف الحضاري الذي تنبأ به المفكرون المسلمون، فهل وجد التخلف عندنا بيته ومستقرّه النهائي؟

ومع ذلك يبقى خطاب مالك بن نبي خطابا إشكاليا يبشر بقطيعة مع الوعي المفقود لتتجاوز الأمة ليلها المظلم وتستقبل فجر يوم جديد. فمتى يولد الجيل الذي يفصل بين عهد التخلف وعهد المدنية ومتطلبات التجديد الحضاري تحقيقا لروح التاريخ الذي يوجد في المستقبل أمامنا، وننتقل إلى صفحة جديدة من التاريخ، حينما تدق ساعة البعث لتعلن عن قيام حضارة جديدة؟ لأن من سنن التاريخ التي لا يجب أن تغيب عن البال" أن الحياة تدعونا أن نسير دائما إلى الأمام"( بن نبي، م(1986) شروط النهضة:159).

 

د. نابي بوعلي

جامعة معسكرـ الجزائر

............................

المصادر والمراجع:

1 - بن نبي، مالك.(1986) شروط النهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين، دمشق، دار الفكر.

2 - بوبكر، جيلالي.(2012) مكانة مالك بن نبي في الحرة الاصلاحية في العلم الاسلامي، مجلة عصور الجديدة، مخبر البحث التاريخي، جامعة وهران، م 2، العدد5، .245-261.

3 - جليد قادة.(2005). نحو فلسفة جديدة للتاريخ العربي عند حسن حنفي. في كتاب الحسين الزاوي، حروف الحكمة العملية،(47-62) الجزائر، رياض العلوم للنشر والتوزيع.

4 - ستروس، كلود ليفي.( 1990). الإناسة البنيانية، ترجمة حسن قبيسي، ب ط، لبنان، مركز الإنماء القومي.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم