صحيفة المثقف

ساطع الحصري وفلسفة الفكرة القومية العربية (1-4)

ميثم الجنابي"أنا عربي صميم. أؤمن بدين العروبة بكل جوانحي،

وأهتم بمصر بقدر ما أهتم بسوريا والعراق" (الحصري)


تقديم عام

ولد ساطع الحصري (من أصول سورية حلبية) في صنعاء اليمن عام 1879 وتوفي في بغداد عام 1968، وما بينهما عاش وعمل في تركيا والبلقان ومصر وسوريا والعراق، في مجال التربية والتعليم. ومن خلالها كان يحقق فكرته القومية. إذ كان على يقين من نجاح الفكرة القومية العربية في نهاية المطاف رغم مسارها المعقد. فقد كانت الفكرة القومية بالنسبة له جزء عضوي من صيرورته الشخصية وكينونته الروحية والفكرية. من هنا كانت شخصيته من حيث حقيقتها وغايتها عربية أولا وقبل كل شيء رغم انتماءه لسوريا ومصر واليمن وغيرها من المناطق. غير أن شخصيته الفكرية القومية قد تكاملت في العراق. وفيه دفن بعد أن اعيدت له الجنسية العراقية قبل وفاته بقليل. إذ جرى سحبها بأثر تأييده للحركة القومية المناهضة للسيطرة البريطانية على العراق. وبهذا المعنى كان الحصري شخصية وطنية عراقية من طراز خاص وعميق أيضا. من هنا الطابع المبتذل للأوصاف التي تطلق عليه من جانب الشيوعيين فيما مضى وبقاياهم الآن، وكذلك من جانب بعض الحوزات الدينية الشيعية والأحزاب الشيعية السياسية الرخوية. فالأوائل يطلقون عليه عبارة "يميني متطرف" و"قومي شوفيني" والثواني يعتبرونه "طائفيا" و"سنّيا متعصبا". وكلاهما يكمّل الآخر بالجهالة والجاهلية! إذ من غير المعروف مضمون "اليميني" و"الشوفيني". فهي اوصاف تتلذذ لها أسماع "اليسار" و"الأممية". وكلاهما زيف سواء بمعايير المنطق والعلم أو بمعايير التاريخ الفعلي والحياة السياسية، وذلك لأنها مجرد أحكام أيديولوجية صرف، شأنها شأن شتائم نسوان المحلة! وفي الوقت نفسه هي نتاج التربية السيئة للشيوعية في العراق، التي ناصبت الفكرة القومية العداء الاعمى. انها تحب الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية السابقة، وتدافع بحمية مبالغ فيها عن تشيلي والأرجنتين وبوركينو فاسو والأقليات الدينية والعرقية الجبلية والمغلقة، وبالمقابل تكره بإفراط لا مثيل له كل ما هو عربي وعروبي وقومي! الأمر الذي يشير إلى خلل عضوي وبنيوي في الذهنية والعقل والنفس والأخلاق. والشيئ نفسه يمكن قوله عن اتهام بعض التيارات الشيعية القديمة والمعاصرة إياه بالطائفية.

لقد كان الحصري وطنيا عراقيا وقوميا عربيا بالمعنى الثقافي العميق، وعقليا وعقلانيا، وعلميا ودنيويا (علمانيا) صرف. وغرابة الأمر هنا تقوم في انه أول وأعمق وأوسع من أرسى أسس التربية العلمية والدنيوية (العلمانية) والوطنية في تاريخ العراق الحديث. وكل أولئك الذين يتبنون الفكرة الدنيوية مما يسمى بأهل اليسار في تاريخ العراق الحديث هم نتاج خططه التربوية ومناهجه الدراسية. إذ لولاه لبقوا في غياهب الرؤية الأسطورية والدينية البدائية والطائفية الجلفة وبقايا العثمانية المتهرئة.

إن كل هذه الأحكام المسطحة وأمثالها التي مازالت واسعة الانتشار في العراق عن ساطع الحصري هي نتاج الجهل بما كتبه وسعى لتأسيسه. بمعنى إنها مبنية على السماع (قيل وقال وسمعت!). إذ كل ما قرأ ولا اقول يدرس بعمق ورؤية نقدية عقلية ما كتبه الحصري، سوف يدرك خطأ وسطحية هذه الأحكام البليدة عنه. فالسماع والنقل هو من صفات الحنبليات القديمة والمعاصرة. كما أنها ملازمة لذهنية الأطفال والجهلة والأميين وأنصاف المتعلمين وأشباه "المثقفين". وهي أمور معيبة وتكشف بقدر واحد عن جهل مريع بحقيقة الإبداع النظري والعملي للحصري من جهة، وتشويه وتخريب دوره التاريخي العظيم في بناء الدولة العراقية الحديثة وأسسها الوطنية المتينة وتربيتها العلمية والدنيوية، من جهة أخرى.

إن افضل وأعظم ما في ذهنية العراق العلمية والأدبية الحديثة وأجياله التي ساهمت في بناء ثقافته الإنسانية والعقلية والعقلانية الحديثة، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، هي ثمرة من ثمار ما وضعه الحصري. لهذا ينبغي لاسم ساطع الحصري أن يسطع في سماء العراق على الأقل بإطلاق اسمه ولقبه على افضل جامعة عراقية حديثة. وهو أدنى وأقلّ ما يمكن أن يقدمه العراق لذكراه وفضله.

***

الفلسفة العملية للفكرة القومية الثقافية

للتاريخ مساره ومذاقه فيما يتعلق بوعي الذات القومي. فإذا كانت المرحلة الأولى لوعي الذات العربي قد جرت من الناحية الشكلية والرمزية من الكلمة إلى العبارة، ومن الشعر إلى الرواية، ومن التاريخ إلى المنطق، ومن الروح إلى الجسد، فإن ساطع الحصري (1879-1968) هو الأول من بين مفكري الفكرة القومية الذين حاولوا ربط كل هذا الإبداع المتنوع في منظومة تعي حدودها السياسية بوصفها فكرة قومية نظرية وعملية. ومن ثم التوليف النظري والعملي الدقيق بين الأبعاد العلمية والأيديولوجية للفكرة القومية. وقد تكون مساعيه لتحقيق "الفكرة القومية" عبر التربية والتعليم الأسلوب الأكثر تعبيرا بهذا الصدد. الأمر الذي أعطى لفكرته القومية طابعا ثقافيا وسياسيا بقدر واحد.

إننا نعثر في تأسيسه النظري للفكرة القومية على توليف خاص للفكرة السياسية والفكرة التربوية في الفكرة القومية. واستمد هذا التوليف من خلال دراسة نقدية للتاريخ العربي والتاريخ العالمي وخصوصية الفكرة القومية الحديثة، وتاريخ الدولة العثمانية وأثرها بهذا الصدد. إذ لا نعثر في كل كتابات الحصري على تأثير مباشر بالفلسفات الأوربية المؤسسة للفكرة القومية. بل على العكس من ذلك نراه يقف في حالات عديدة موقفا نقديا تجاه توظيفها المباشر بالنسبة لتأسيس وتطبيق الفكرة القومية العربية. والحالة الوحيدة، أو الاستثناء الوحيد هو ما قام به من استعمال ايجابي لبعض آراء شوبنهاور ومقارناته في بعض مواقفه[1]. وليست لهذه الأفكار علاقة بتأسيس الفكرة القومية. مما يعطي لنا إمكانية القول، بأن الحصيلة النظرية للفكرة القومية التي سعى الحصري لتأسيسها مبنية من حيث الجوهر على رؤية نقدية علمية تاريخية تتسم بقدر كبير من الواقعية. وليس مصادفة أن يكتب الحصري أحد مؤلفاته التاريخية الهامة عن تاريخ السيطرة العثمانية في العالم العربي.

الدولة العثمانية والعالم العربي

ففي كتابه (البلاد العربية والدولة العثمانية) نعثر على محاولة فهم مقدمات السيطرة التركية العثمانية على العالم العربي ونتائجها الخاصة بالنسبة للفكرة القومية. وانطلق في مجرى تحليله لهذا التاريخ الطويل والكئيب أيضا من أن العالم العربي قد وقع آنذاك بين مطرقتي الأتراك والمماليك. فقد كانت العلاقة بين البلاد العربية والدولة العثمانية حتى نهاية القرن الخامس عشر علاقة مجاملة ومؤازرة. لكن الحالة تغيرت بعد توسع الدولة العثمانية إلى الجنوب حتى البحر المتوسط وجبال طوروس. وفي نفس الوقت استولت دولة المماليك في مصر على كيليكيا. وهنا بدأ الاحتكاك بينهما والنزاع، الذي انتهى بحروب دامية كانت نتيجتها استمرار السيطرة الأجنبية على العالم العربي[2]. وذلك لأنها سيطرة لم تكن محكومة بفكرة الخلافة الثقافية، بقدر ما كانت الصيغة المقلوبة أو المشوهة أو المبطنة للسيطرة القومية (العرقية). مما أدى في نهاية المطاف إلى أن يدفع العالم العربي ثمنها الباهظ على امتداد قرون عديدة[3]. وأشار الحصري هنا إلى أن احتلال العالم العربي من جانب الدولة العثمانية جرى في مرحلة الصراع بينها وبين الدولة الصفوية. وكلاهما كان يتمتع بالصعود والقوة والفتوة آنذاك مع المماليك الذين كانوا في طور الخمول، بأثر تضحياتهم الكبيرة في مجرى الصراع البطولي مع الصليبيين الغزاة.

ذلك يعني، أن الدولة العثمانية استولت على العالم العربي وهو في حضيض انحطاطه. والعالم العثماني في بداية انحطاطه. فقد كانت الدولة العثمانية حسب تحديد الحصري "دولة عسكرية دينية إقطاعية من نوع خاص"[4]. وليس مصادفة أن تستعمل الدين لأغراض سياسية بحت. وضمن هذا السياق يمكن فهم توسيعها وإثارتها للنعرة الدينية المتشددة ولاحقا المذهبية الضيقة، كما هو جلي في ما يسمى بالصراع العثماني – الصفوي (السني - الشيعي). وكتب الحصري هنا يقول، بان "السلطان سليم الأول(1512-1520) عندما قرر محاربة الشاه إسماعيل الصفوي وأمر بقتل جميع الشيعة الموجودين في البلاد العثمانية، استند إلى فتوى صادرة من رجال الدين تعتبر هؤلاء مرتدين عن الإسلام"[5]. وقد كانت تلك فكرة سياسية مطلية بكساء الدين المتشدد والمفتعل. وبالقدر ذاته استعمل إسماعيل شاه الصفوي المذهب الشيعي في مواجهة العثمانيين. غير أن هذا الاستعمال السياسي للدين قد أدى إلى نتائج مختلفة. فقد أنقذ المذهب الشيعي إيران من تدخل وسيطرة التركية العثمانية، كما يقول الحصري[6]. بينما ساعد "التسنن" الملفق بأسطورة الخلافة العثمانية إلى توسيع مدى وعمق الاحتلال التركي للعالم العربي وإنهاك مقاومته الخاصة المتعلقة بإعادة بناء كينونته الذاتية.

وأشار الحصري هنا إلى أن العثمانيين في بداية الأمر لم يعيروا أية أهمية لقيمة الخلافة. ثم اخذوا لاحقا يدركون قيمتها. حيث جرى اصطناع أسطورة تنازل العباسيون لهم. واستعملوها من اجل تقوية نفوذهم وتسهيل حكمهم[7]. والمقصود بذلك تصنيع أسطورة تنازل العباسيين في القاهرة عن الخلافة زمن سليم الأول. وكونها أسطورة مفتعلة هو أنها غير مؤيدة بأي أثر تاريخي مقيد وموثق. و(تاريخ بن إياس) المعاصر لتلك المرحلة الذي أورد كل دقائقها الكبيرة والصغيرة لا يحتوي على أية إشارة لذلك الحدث الذي يرتقي بمعايير المرحلة إلى مصاف الحدث الجلل. كما أنه لا يوجد تاريخ تركي كتب في عهد سليم الأول[8]. ومن هذا المنطلق استنتج الحصري، بأن فكرة الخلافة العثمانية ساعدت كثيرا على استسلام العرب للحكم العثماني، وأخرت كثيرا نشوء فكرة القومية العربية[9].

مما سبق يتضح، بأن تحليل تاريخ السيطرة العثمانية يرمي عند الحصري إلى الكشف عما يمكن دعوته بالمقدمات الروحية (الدينية) للسيطرة التركية على العالم العربي وديمومتها من خلال إبراز تراث وتقاليد التدين المتشدد في خطاب السلطة التركية على امتداد قرون عديدة، وتوظيف الرموز الدينية الكبرى (الخلافة). من هنا يمكن فهم موقف الحصري من الرابطة الدينية، واعتبارها مضرة بالنسبة للفكرة القومية. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن الرابطة الدينية ومكانتها المعنوية الرفيعة في البلاد العربية، قد "ساعدت مساعدة كبيرة أولا على استيلاء العثمانيين على البلاد العربية، وثانيا دوام حكمهم لهذه البلاد مدة طويلة دون تعب كبير"[10]. ولم يغير من ذلك شيئا بما في ذلك المحاولات اللاحقة للإصلاح مثل التنظيمات وأمثالها. بل نجد الحصري يجد فيها الصيغة الأكثر ضررا بالنسبة للفكرة القومية العربية. وذلك لأنها كانت محكومة أولا بنزعة السيطرة والاستيلاء واستمرارها، وكذلك بسبب النزعة العسكرية الذائبة في صلب التقاليد العثمانية.

فقد كانت النزعة العسكرية العثمانية وتقاليدها الخاصة احد أخطر المصادر سوءا في مضمار الخراب العميق للعالم العربي، وبالأخص ما يتعلق منه بالتاريخ السياسي وبناء الدولة العربية الحديثة[11]. أما "التنظيمات" فقد حصلت بعد انفصال مصر. لهذا لم يجر تطبيقها في العالم العربي بصورة متساوية. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أنها اقتبست النظم الفرنسية وغالت في المركزية، فإن ذلك يعني انتقالها من الإفراط إلى التفريط. أما الإفراط بالمركزية فقد اضر ضررا بالغا أولا وقبل كل شيء البلاد العربية. إضافة لذلك أن هذه التنظيمات قد أضرت بالوحدة العربية من خلال إثارة الصراع الديني أيضا. فقد اعتقد الحصري بأن "التنظيمات زادت من ترابط الجماعات المسيحية على عكس المسلمين"[12]. من هنا رؤيته النظرية والعملية القومية الأولى التي وجدت تعبيرها الدقيق في عبارة "فكرة القومية العربية". وكتب بهذا الصدد يقول، بأنه "كان على فكرة القومية العربية أن تتغلب على هذين الاتجاهين في وقت واحد. كان عليها أن تحوّل أنظار المسلمين عن الدولة العثمانية، وأنظار المسيحيين عن الدول الأوربية لكي تجتمع كلمتهم حول العروبة التي تستمد قوتها من اللغة والتاريخ"[13].

الكينونة العربية

انطلق الحصري من أن القومية أصبحت من أهم العوامل التي تؤثر في تطور الدول وتكوّن الأوطان منذ أوائل القرن التاسع عشر[14]. ذلك يعني أنها ظاهرة تاريخية واجتماعية وسياسية جديدة. وإذا كان الحصري يجمع ما يدعوه بالعوامل الجامعة للقومية في كل من الاعتقاد بوحدة الأصل والمنشأ (سواء كان حقيقة أو وهما)، والتشابه في العواطف والعوائد، والتماثل في ذكريات الماضي ونزعات الحال وآمال المستقبل، فإنه رفع عامل الاشتراك في اللغة والتاريخ  إلى مصاف الأصل فيها[15]. لهذا نراه يتكلم عما اسماه بعناصر اللغة الواحدة والثقافة الواحدة، بوصفها الأكثر جوهرية في القومية. بل ونراه لاحقا يضع اللغة في أساس ما اسماه بالحقائق الكبرى للفكرة القومية العربية التي ينبغي الإيمان بها. ووضعها في عبارة تقول، بأن "جميع البلدان التي يتكلم سكانها باللغة العربية هي عربية"[16].

تنبع أهمية اللغة بالنسبة للقومية عند الحصري من كونها أهم الروابط المعنوية. وذلك لأن حياة الأمم تقوم على اللغة، كما يقول الحصري. وبالتالي، فهي روح الأمة وحياتها. أنها بمثابة محور القومية وعمودها الفقري. وهي من أهم مقومات شخصيتها[17]. وإذا كانت اللغة من أهم عناصر الثقافة، فإن ذلك يعني أنها الأعمق جذورا من جميع العناصر الأخرى[18]. كما أن وجوب الاستمساك بالأصول التاريخية للثقافة ينطلق من الاعتقاد القائل، بأن اللغة "هي أهم وأعمق الأصول التاريخية للثقافة" كما يقول الحصري[19]. وبهذا يكون الحصري قد سار هنا بأثر زكي الارسوزي ولكن من خلال توحيد فكرة اللغة والتاريخ بصورة عضوية. من هنا قوله، بأن حياة الأمم بلغتها وشعورها بتاريخها. بعبارة أخرى، إن اللغة والتاريخ هما بمثابة الحياة والشعور، أي الوحدة الحية الفاعلة للوجود. وبالتالي، فإن الأمة هي التي تتمتع بوحدة اللغة والتاريخ بوصفها كيانا حيا.

وليس مصادفة أن يشدد الحصري بهذا الصدد على أن المقصود بالتاريخ هنا هو التاريخ الحي في النفوس، الشائع في الأذهان، المستولي على التقاليد[20]، أي التاريخ الذي يوّحد في ذاته الهموم والآمال والمعايير بوصفها كلا واحدا. من هنا جوهرية التاريخ بالنسبة للفكرة القومية العربية. ذلك لأنه يشكل الأساس لصنع ما اسماه الحصري بأهم عوامل "القرابة المعنوية" عوضا عن "وحدة الأصل والدم"[21]. وضمن هذا السياق يمكن النظر إلى نقده للتسطيح النظري في فكرة السامية والآرية عن القومية. ومن ثم عدم صلاحيتها بما في ذلك من خلال استعمالها منطق اللغة في الموقف من الأقوام والأمم. وذلك لما فيها من انعزال تام عن فكرة التاريخ. من هنا قوله، بأن الانتشار السريع لفكرة السامية والآرية هو بسبب بساطتها وسطحيتها وكذلك لأسباب سياسية وأهواء تلائمها. واستشهد بعبارة ماكس ميولر الشهير بتدقيقاته اللغوية حين قال في معرض رده على هذه الفكرة والتصنيف: "القول بعرق سامي وآخر آري وما شابه ذلك يشبه بقاموس مستطيل الرأس أو نحو قصير الرأس"[22]. ولا يعني ذلك في آراء ومواقف الحصري سوى أن وحدة اللغة والتاريخ هي وحدة حية ذاتية. ومن ثم لها أثرها الخاص في مصير الأمم. لهذا نراه يرد على أولئك الذين حاولوا التقليل من الدور التاريخي الهائل للعرب بالنسبة للحضارة الكونية والثقافة الإنسانية، استنادا إلى فكرة انحطاط السامية وسمو الآرية. كما نراه يرد على من قال بأنه لم يكن دور العرب سوى دور الناقل لا المبدع، قائلا، بأنه "حتى فكرة مجرد نقل العرب للمعارف (رغم سطحيتها) فإنها كافية لأن تجعل منهم أمة من أكبر الأمم التي قدمت للحضارة العالمية اجلّ الخدمات"[23].

إن إدراك القيمة التاريخية للتاريخ الذاتي (القومي) بالنسبة للحصري هو الوجه الآخر للرؤية المستقبلية. من هنا رده النظري على فكرة انعدام "وحدة التاريخ" العربي. ولا يعني ذلك سوى انقطاعه المتكرر. وبالتالي لا يمكن الحديث عن تاريخ عربي موحد. وتوصل إلى أن "وحدة التاريخ" لا تتحقق في تاريخ أمة أو دولة من الدول. وعندما نقول "وحدة التاريخ" فالمقصود بها "الوحدة النسبية والغالبة التي تتجلى في أهم صفحات التاريخ، والتي أوجدت ثقافة الأمة الأساسية، وأعطتها لغتها الحالية وطبعتها بطابعها الخاص"[24]. ويحتوي التاريخ العربي على هذه الوحدة الحية التي يمكن رؤيتها على وحدة لغته وثقافته الذاتية، أي كل ما طبعها بطابعها الخاص. لكن التاريخ العربي، شأن كل التواريخ الكبرى يحتوي، بفعل امتداده وعراقته وتنوعه الهائل وصراعاته وصعوده وهبوطه، على جوانب تجعل من الضروري مهمة إعادة كتابته بالشكل الذي يبرّز وحدته الداخلية، بمعنى إعادة كتابته بطريقة تحتوي بقدر معقول ومتناسب على وحدة القومي والعلمي.

إن البحث عن نسبة معقولة ومقبولة بين القومي والعلمي في كتابة التاريخ عند الحصري ليست إلا الصيغة التي تتوحد فيها الرؤية العلمية الدقيقة ووحدة التاريخ من أجل صنع الأنا المشتركة بمعايير الرؤية الدقيقة والعملية للماضي والحاضر والمستقبل. وضمن هذا السياق يمكن فهم مطالبته بما اسماه بكتابة التاريخ العربي"بعقلية غربية ونزعة قومية"[25]. فهو يشير إلى أن اغلب الكتب التاريخية العربية الحديثة والقديمة أيضا تهتم بخصوصيات حياة الشخصيات (من علماء وأدباء ورجال دولة وغيرهم) أكثر مما تدرس مآثرهم الحقيقية وخدماتهم الفعلية. وبالمقابل نراه يشدد على أهمية فكرة نسيان جزء من التاريخ القومي، التي قال بها البعض في موقفهم من التاريخ القومي. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنه "على كل أمة أن تنسى قسما من تاريخها"، بوصفه الأسلوب الضروري لبلوغ "وحدة التاريخ"، أي الوجه النظري الموِّحد للهموم والآمال. وللتدليل على ذلك نراه يقول، بأن "الوحدة الحقيقية في أمة من الأمم لا يمكن أن تضمن إلا بنسيان قسم من الوقائع التي حدثت لها خلال تاريخها الطويل... وليس المقصود بذلك حذف أخبار تلك الوقائع من الكتب، بل إهمالها وإبعادها من منطقة "الفكر الفعالة"، وإخراجها من عداد "الفكر...." وتغلب التاريخ المشترك عليها"[26]. وهذا بدوره يعني، بأن فكرة "النسيان" هذه هي فكرة منهجية وظيفية جزئية وليست مبدأ شاملا.

مما سبق يتضح، بأن مساعي الحصري لتوحيد التاريخ القومي هو الاستكمال الضروري لوحدة اللغة والتاريخ الجوهرية في تأسيسه للقومية. لهذا نراه يشدد في معرض رده على الاتهامات والنقد الفكري من جانب أولئك الذين وجدوا في أرائه إبعادا للدين من الفكرة القومية، قائلا، بأن نفي تهمة الدينية واللادينية عن القومية يستلزم استكمالها بفكرة أخرى وهي "أن القوميين يعتقدون بوجوب الاستمساك بالأصول التاريخية للثقافة. لكنهم يعتقدون بأن أهم وأعمق الأصول التاريخية للثقافة هي اللغة"[27]. ولا يعني ذلك من الناحية النظرية سوى محاولة تنقية الفكرة القومية من كل العوارض المحتملة عبر إرجاعها إلى أصولها المجردة. كما سعى الارسوزي إلى ذلك أيضا. من هنا مطالبة الحصري بتدريس التاريخ العربي بحيث لا يخضع لاعتبارات الدين والدعاية وما شابه ذلك، بل من اجل "المصلحة القومية"[28]، لما في ذلك من خفي وعلني، مباشر وغير مباشر على المستقبل.

فالتاريخ بالنسبة للحصري ليس ماض ومستقبل بل وكينونة كامنة في فكرة الأثر الفاعل للتاريخ في المستقبل. من هنا نراه يتحدث عما يمكن دعوته بالرؤية المستقبلية المتفائلة. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن المتشاءم يمكنه الرجوع إلى التاريخ بشكل عام ودراسة تواريخ النهضات القومية الحديثة. واستكمل ذلك بفكرة تقول، بأن الأمة العربية وصلت إلى أرقى درجات الحضارة (سابقا) وكانت أقوى منار للعلم في العالم خلال عهد طويل. ولعبت دورا هاما في تاريخ تقدم البشر لم يتيسر مثله إلا لبضعة أمم. ولا يعقل ولا يمكن أن تصبح غير قادرة على النهوض[29].

إن توصل الحصري إلى وحدة التاريخ واللغة الجوهرية بالنسبة للقومية، لم يعن إهمال غيرها من العناصر الضرورية. لكنه حاول أن يجعل منها أصولا في الفكرة القومية أيضا. وقد أكد الحصري على أن القول بأهمية وجوهرية اللغة والتاريخ بالنسبة للقومية لا يعني أنها العناصر الوحيدة[30]. لهذا نراه يضيف إليهما خمسة عناصر أخرى وهي كل من الدين والدولة والاقتصاد والتراب والدم. لكنها تبقى عناصر إضافية، أي ليست جوهرية.(يتبع....).

 

ا. د. ميثم الجنابي – باحث ومفكر

...................

[1] ساطع الحصري: حول القومية العربية. بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، 1985، ص22.

[2] ساطع الحصري: البلاد العربية والدولة العثمانية، بيروت، دار العلم للملايين، 1965، ص37.

[3] إن الحالة التي يشير إليها الحصري تشبه ما يعاني منه العالم العربي المعاصر. بمعنى تقديمه تضحيات كبرى وهائلة عادة ما يستفاد منها الآخرين. فالحصري يشير إلى أن احتلال العالم العربي من جانب الدولة العثمانية جرى في مرحلة الصراع بينها وبين الدولة الصفوية. وكلاهما كان يتمتع بالصعود والقوة والفتوة، بينما كان المماليك في طور الخمول بأثر حروبهم الهائلة والعظيمة مع الصليبيين، أي الحروب التي كان العرب مادتها ووقودها.

[4] ساطع الحصري: البلاد العربية والدولة العثمانية، ص34.

[5] ساطع الحصري: البلاد العربية والدولة العثمانية، ص33.

[6] ساطع الحصري: البلاد العربية والدولة العثمانية، ص41.

[7]ساطع الحصري: البلاد العربية والدولة العثمانية، ص45.

[8] ساطع الحصري: البلاد العربية والدولة العثمانية، ص43.

[9] ساطع الحصري: البلاد العربية والدولة العثمانية، ص46.

[10] ساطع الحصري: البلاد العربية والدولة العثمانية، ص28.

[11] اتخذ الحصري من العراق مثلا نموذجيا بهذا الصدد. حيث لم يبق منه حتى نهاية السيطرة العثمانية غير أطلال خربة في كل شيء. ففيه تنعدم معالم المدنية والحضارة. ويغيب التاريخ. بل حتى المدارس القليلة التي تعد على أصابع اليد (الواحدة) لم تخرّج غير حفنة من العسكريين فقط. والسبب هو أنهم لم يجدوا مخرجا "لتعلمهم" غير الانخراط في سلك العسكرية. وليس مصادفة ألا تجد الحكومة العراقية بين أبناءها في بداية تكوينها غير عدد قليل من خريجي المدارس العالية من غير العسكرية. ومن يستعرض أسماء رؤساء الوزارات الذين تولوا الحكم (1923-1941) يجد أن معظمهم كانوا ممن درسوا في المدارس العسكرية (البلاد العربية والدولة العثمانية، ص86.). وفيما لو استكملنا فكرة الحصري، فإن من الممكن رؤية آثار هذه الحالة على تاريخ كل البلاد العربية التي استحكمت فيها تقاليد العثمانية، بمعنى استعادة دور العسكر في بنية الدولة والسلطة والنظام السياسي، كما هو جلي في تاريخ ما بعد الاستقلال السياسي في كل من العراق وسوريا واليمن الشمالي ومصر وليبيا. بينما تخف هذه الحالة في البلدان التي لم تخضع للسيطرة التركية، مثل الجزائر وتونس والمغرب وشبه الجزيرة العربية والسودان. بل أن تركيا. نفسها لم تتحرر بعد من ثقل هذه التقاليد التي جرى إعادة بنائها بفعل الأتاتوركية وتحويلها إلى "صنم" الدولة القومية والنزعة الدنيوية والغربنة المفتعلة.

[12] ساطع الحصري: البلاد العربية والدولة العثمانية، ص94.

[13] ساطع الحصري: البلاد العربية والدولة العثمانية، ص95.

[14] ساطع الحصري: آراء وأحاديث في الوطنية والقومية، ص14.

[15] ساطع الحصري: آراء وأحاديث في الوطنية والقومية، ص19.

[16] ساطع الحصري: العروبة أولا!، ص11.

[17] ساطع الحصري: آراء وأحاديث في الوطنية والقومية، ص32.

[18] ساطع الحصري: العروبة أولا!، ص182.

[19] ساطع الحصري: العروبة أولا!، ص183.

[20] ساطع الحصري: آراء وأحاديث في الوطنية والقومية، ص32.

[21] ساطع الحصري: حول القومية العربية. بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، 1985، ص76. وقد خصص لذلك كتاب (ما هي القومية) وكتاب (الوطنية والقومية).

[22] ساطع الحصري: آراء وأحاديث في الوطنية والقومية، ص67.

[23] ساطع الحصري: آراء وأحاديث في الوطنية والقومية،  ص62.

[24] ساطع الحصري: آراء وأحاديث في الوطنية والقومية، ص47-48.

[25] ساطع الحصري: آراء وأحاديث في الوطنية والقومية، ص61.

[26] ساطع الحصري: آراء وأحاديث في الوطنية والقومية، ص48.

[27] ساطع الحصري: العروبة أولا!، بيروت، دار العلم للملايين، ط5، 1965، ص183.

[28] ساطع الحصري: حول القومية العربية. بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، 1985، ص88.( طبع للمرة الأولى عام 1961).

[29] ساطع الحصري: آراء وأحاديث في الوطنية والقومية،  ص70.

[30] ساطع الحصري: حول القومية العربية. ص111.

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم