صحيفة المثقف

بلاغة السرد في قصة "من العيون قفة"

منذر الغزاليللكاتبة التونسية زهرة خصخوصي

مدخل إلى البلاغة النوعية:

تنقسم البلاغة العربية إلى ثلاثة أقسام:

علم البيان، التشبيه والاستعارة والكناية....

علم المعاني الخبر والإنشاء...

علم البديع: المحسنات اللفظية والمعنوية، السجع، الطباق، المقابلة....

"الصورة الشعرية ما فتئت تحظى بمكانة كبرى في دراسة النصوص، في حين أغفل النقد الأدبي دراسة الصور في النصوص السردية... إن الصورة التي يتناولها د. محمد أنقار، وحلقة تطوان، هي صورةٌ سرديّة... بمعنى أن أنقار يؤسس دعائم البلاغة السردية... الصورة الروائية (السردية) هي صورة لغوية تخييليه وإبداعية وإنشائية تتشكل في رحم السرد، وتتفاعل مع مجموعة من المكونات التي تشكل الحبكة السردية. ومن ثمّ يمكن الحديث عن صورة الموضوع، وصورة اللغة، وصورة الفضاء، وصورة الشخصية... وغيرها من الصور التي تستنبط من داخل النص السردي... تتمثل جدة هذا المشروع في تأسيس بلاغة جديدة تسمى بالصورة الروائية، أو بلاغة الصورة السردية، أو البلاغة النوعية."( *)

بلاغة العنوان

العنوان هو العتبة الأولى التي تواجه القارئ ، والذي كشف عن قصد منه، بنية النص، أو يضع إطاراً تخييلياً لدى القارئ ويفرض أسئلة تحاول تأويل معناه، ودلالته، وبالتالي الوصول إلى فهم دلالة النص، أو المساعدة في فهمها، من خلال محطات متعاقبة أثناء القراءة، يقف فيها القارئ، محاولا الربط بينها وبين العنوان. قد يصل إلى غايته في إحدى تلكم المحطات، وقد لا يصل. وقد يصبح العنوان، بصفته حقلاً دلالياً منفرداً، حقلاً للتأويل يتعاضد مع النص بأكمله في فهم المعنى الكلي الشامل.

من العيون قفّة... هو تناص مع مثل شعبي، كما أوضحت الكاتبة في هامش أسفل النص. بلاغة العنوان تأتي من تناصه مع المثل الشعبي، في هذا التناص يستعير ليس فقط  لغة المثل، بل يختزل، كما المثل الشعبي تجربة حياتية، مرّت عليها العصور الطويلة ورسختها في أذهان الأجيال المتعاقبة.

وبلاغة هذا العنوان تأتي أيضا من انزياحه الدلالي حيث هو صورة مبنية على الكناية، قفة العيون هي الكثرة التي تحاول أن تعوّض فقداً للنظر، وشوقاً للرؤية، لا تطفئه عينان اثنتان.

بالإضافة إلى ذلك الغموض الذي يغلف العبارة بغلالة شفيفة، لا تحجب ولا تكشف؛ غير أنها تبقي القارئ معلّقاً بخيط أملٍ وفضولٍ لذيذ لمسح كنه ذلك العنوان.

بلاغة الفضاء السردي(المكان والزمان)

1- بلاغة المكان القصصي:

"كلّ الأدراج خاوية…ترتطم يدها بالخشب البارد أنّى مدّتها، فتعود إليها موجوعة حانقة، ثمّ تعاودها الرّغبة في عناء البحث من جديد لتغرق في الفراغ"

بهذا الفضاء المكاني الغامض والمفتوح في آن، تفتتح الكاتبة القصة. خواء من جهة، وفراغ من جهةٍ أخرى... ولا شيء واضح أو محدد.

"فجأة أضحيت أتسمّر مكاني أخشى بالسّقف ارتطاما، أخشى بالجدار اصطداما، وتضيق حولي الدّائرة"

بهذا الوصف الشاعري الحامل لتأويلات لا تنتهي، يتوضح الفضاء المكاني قليلاً؛ لكن دون أن يحده أو يحدده أي جوار مكاني آخر، سوى سقف تخشى أن ترتطم به، وجدارا تخشى أن تصطدم به... وهذا الوصف الشاعري الحامل للتأويلات يزيد من بلاغة المكان، فليس كل سقف هو سقف مادّي، وليس الجدار جدا را من حجر.. لكننا نمضي مع الكاتبة في رحلة اكتشاف لحدود المكان...

"تمدّ يدها بحذر إلى يمينها، تتحسّس الفراغ، تحاول العبور إلى مكتبها المحشور في الزّاوية، آخر ملجأ لأسرارها الشّحيحة". صورة تتلوها صورة، وغموض يقود إلى فراغ...

وأخيراً، يكتمل بناء المكان القصصي بهذا السطر الذي يقع في منتصف القصة تقريباً... "طرقات خفيفة على باب الغرفة تنتزعها من تلك الأريكة البالية ومن متاهة الذّاكرة". لكن مع اكتماله ما زال المكان صورة شاعرية، ليس مجرّد بيت، وليس مجرّد باب، ولا أريكة.. هو مكان مفعم بالسحر، بالذكريات، والفراغ المحيط.. صور شعرية أساسها التشبيه والاستعارة والكناية، استثمرت الكاتبة البيان لأقصى طاقة ممكنة في رسم مكان غير محدود، رغم أنه محدّد، يصلح أن يكون أي مكان، الجدار والسقف، والباب، كلها عناصر تصلح أن تكون مادية مكونة لمكانٍ مادي محسوس ومحدود، وفي الوقت نفسه تصلح أن تكون أي مكان، ولا مكان... هو مكان اصطلاحي، كوني، حامل لكل تأويل ممكن من القارئ... هو الوطن في أحد تجلياته. هو الحياة في تجلٍّ آخر... هو كلّ ما يراه القارئ، أيّ قارئ، كل ما يحتاج أن يتمثله.

يكفي أن نقرأ إحساس البطلة بالمكان، بهذا المونولوج الشاعري الجميل:

"وتضيق حولي الدّائرة.

تضيق وتضيق وتضيق…

ولا ضلع في الدّائرة يسندني.

لا ضلع في الدّائرة…”

2- بلاغة الزمان القصصي:

كما بنية المكان في القصة، جاءت بنية الزمان، شاعرية منفتحة على التأويل مالكة للإيحاء...

أول مرة نلتقي بالزمن في سيرورة الحدث بهذا الوصف: "أوّاه…كم سنينا مضت تلتهم السّنين".

نعلم أنها سنين... وهذا كل شيء.

"كان خريف..."

"وكانت الشّمس في خفر تقبّل ثغر الغروب "

"الشتاء مذ ذاك الخريف ما أتى"

زمن القصة في السرد جاء في الزمن الماضي، أما الزمن الحاضر، زمن الحدث المرتبط بالمكان القصصي، فلا خبر عنه، كأنه لا وجود له في خارطة الزمن... أو كأنه كلّ الزمن.. كل لحظة، لا اسم لها. إذا كان الزمن في ذاكرة يقين توقف عند ذاك الخريف، فلأنّ الكاتبة، وعن قصد لا تريد أن يأتي الشتاء... لأنّ الشتاء يجلب الربيع، ولا ربيع يأتي بعد الحروب... هكذا يخبرنا النص، في إحدى قراءاته.

يتعانق المكان والزمان، بصور بليغة، تؤدي إلى الضياع، والضيق، والعدم... إلى انعدام الإحساس بالزمن. في الناحية الخلفية للصورة، نقرأ الهروب من الزمان، من العمر المقيّد بحياة كأنها دائرة تضيق وتضيق.

بلاغة الشخصيات

يقين، وحلمي. هما شخصيتا القصة الوحيدتان.

بلاغة الشخصيات القصصية تتبدّى في ناحيتين.

الناحية الأولى: اسم الشخصية، وتعاضد الاسم مع جنسها.

يقين هو اسم الشخصية المؤنثة، الذي يوحي بالثقة المطلقة، بالإيمان المطلق. المعنى المعجمي للاسم يقين هو: العلم الراسخ و المعرفة الحقة.

واسم الشخصية المذكرة هو حلمي، المنسوب إلى الحِلْم. وهو : الصبر والأناة مع القدرة والقوَّة، والعقل .

اليقين والصبر، الإيمان والعقل... في القراءة النسقية مع موضوع النص تكون قيمة الاسمين وأهميتهما. إذا كان المكان يوحي بالضيق، والزمان يوحي بالعدم، والخاتمة عماء مع عجز، فالعدم والضياع والعجز هو ضياع لليقين، والصبر، والقدرة، والعقل... هو ضياع للحياة الإنسانية بقطبيها المذكّر والمؤنث، لينتج عن ذلك العقم والجدب. أو ينتج مجتمعاً تائهاً عاجزاً، منحرف الخطى، أعمى البصر... والبصيرة.

بلاغة السرد

الحدث، من حيث البنية، جاء وفق خط زمني متكسّر متقطع، يمضي إلى الأمام في استرجاعاتٍ عديدة حملها على عاتقه مونولوجٌ هو قطعٌ شعريةٌ، أو نظراتٌ فلسفية:

“كم أجدني في قصر مداي قد استطلت !

كم أجدني في ضيق مداي قد اتّسعت !

فجأة أضحيت أتسمّر مكاني أخشى بالسّقف ارتطاما، أخشى بالجدار اصطداما، وتضيق حولي الدّائرة.

تضيق وتضيق وتضيق…

ولا ضلع في الدّائرة يسندني.

لا ضلع في الدّائرة…”

يلاحظ القارئ بسهولة استثمارها للطباق: قِصَر – استطالة؛ ضيق – اتساع.

والرمز: الدائرة

والكناية: لا ضلع في الدائرة يسندني.

بالإضافة إلى بلاغة تكرار المفردة: تضيق وتضيق وتضيق؛ والتنويع في الأسلوب بين الخبري والإنشائي

أو:

"“أوّاه…كم سنينا مضت تلتهم السّنين

وأنا أنتظر معجزة الإياب…

قالوا “مات”…

لم قالوا ” قد مات”؟

لمَ ذريتني لقمة للشتات…؟

أنّى ذريتني وعانقت الغياب…؟

كم سنينا مضت…؟ كم ذريتني مضغة في فكّ السّنين… !”

وكذلك يجد القارئ تلك المتعة البيانية باستغلال تقنيات اللغة الشعرية، من ناحية التنوع الأسلوبي بين الإنشائي والخبري، إضافة إلى التكرار، والإيقاع. بل وطبوغرافيا رسم الأسطر على الورقة، والتقطيع إلى مقاطع على غرار قصيدة النثر.

بلاغة الحدث

الكاتبة لم تأت بالحدث جاهزا مقيّداً، ولم تكتف بالتقطيع الزمني؛ إنما بنت الحبكة على أعمدةٍ بيانية متفرّقة، إما بشكل وصفٍ بليغ، غاية في الجمال، مكتنز بالتراكيب البيانية من ترميز و مجاز واستعارات متنوعة.

"ويقين تمسي ذوباً في كفّ الوصال، ذوبا من حنين كم جمّدته بيض اللّيالي تعقلها مذ ذاك الخريف".

" كانا معاً، تحت جدار البيت يقصّان الخشب قطعا لمواقد الشّتاء

والشتاء مذ ذاك الخريف ما أتى…

كانا يقطعان الخشب المتيبّس، وفي رحم يقين قد شُدّ إلى المشيمة بذار فرح للرّبيع"

 أو جاء بعرضٍ حواريّ، كأنه، لجمال بيانه، مناظرةٌ شعرية:

"تهمس: ”الحمد لله أن ظللت حيّاً سليما”

يتمتم: ”ما أدراك أيقين؟

ألا ترين جزز الشّيب من هول أنياب الأسى؟

الشّيب راية الألم، راية الوجع الدّفين…

وكم أثخنني مساء ذاك الخريف وجعاً! ثمّ ألا ترين سا…”

“الوجع سيّاف الفرح يا عبارتي الهائمة…

الوجع، واحرّ قلباه، سيّاف الأوينات الحالمة…”

 كأنها تضمّ حبات لؤلؤ في خيط من حرير، لا يظهر جمال صنعته إلا بعد اكتمال عقد خيطه...

هكذا جاءت بنية الحبكة في القصة: مروجاً، أو بقعاً من الزهور، أو بركة ماء شفافة؛ كلُّ عنصرٍ جميلٌ بذاته؛ لكنّ جماله لا يكتمل إلا في اكتمال الحبكة وخاتمتها، تلك الصورة التي تفيض أسىً وفلسفة:

"يضمّ حلمي زوجته إليه ويمدّ رجله إلى الوراء ليغلق الباب. فجأة تدوّي قرقعة: تاك، تاك: تكككك”

تصرخ يقين:” ما هذا…؟”

يردّد حلمي:” لا تجزعي، هي عصاي أتّخذها ساقا وبها أغالب الوهن…”

تشهق يقين فزعا ممّا سلبتها السّنين…

جزعا ممّا يحجبه عنها العمى، تشهق يقين…

تهمس:” لأراه… ربّاه، قفّةَ عيون”.

بلاغة الموضوع

حبكة القصة غُزِلت على موضوع الحرب، وأثرها على الأنسان والمجتمعات، وما تخلّفه من دمار لبنية الأوطان وبنية الإنسان معاً.

غير أنّ البناء الجيّد للحبكة، واختيار الاسلوب والصور السردية، وتوظيفها التوظيف المناسب استطاع أن يرتفع بقيمة النص من قصةٍ عاديةٍ فردية إلى قصةٍ إنسانية، وكونية شاملة.

الحبكة انبنت على رجل وامرأة، تفرّقهما الحرب، وتفقدهما ابنهما المنتظر، يلتقيان بعد أن فقدا الأمل باللقاء، فيكون الرجل مبتور الساق، وتكون المرأة عمياء.

لأنّ الرجل، في ثقافتنا المحلية، وفي الذاكرة الجمعية للإنسانية، هو المسؤول عن السعي للرزق، لأن الرجولة قوّة وصبرٌ وأناة، فإنّ بتر ساق بطل القصة يعني التوقف عن السعي، العجز، وفقدان القدرة.

ولأن المرأة هي العين الساهرة على الأبناء، المراقبة لشؤون الأسرة الحانية العطوف... لأن الأنوثة جمال وحنان وثقة بالقوة مستمدّة من قوّة (بعلها)، فعماها هو فقدان الأسرة البصر والبصيرة، الحنان والرأفة، وانهيار الثقة بالقوة.

الأسرة هي المجتمع الإنساني، بذكره وأنثاه، بقوته ويقينه وجماله واكتماله، والحرب تحوّل المجتمعات إلى كتلٍ من بشرٍ عاجزين، فاقدي البصيرة، فاقدي الحلم والجمال.

خاتمة

الصورة السردية، في استثمارها الجيد آن الكتابة، وفي قراءتها قراءة واعية، تؤدي مجموعةً من الوظائف من الناحية الجمالية، وفي تحسين البنية السردية من حيث التكثيف وآلياته وتقنياته، وفي بناء الحبكة بناءً متماسكاً، وبناء الشخصيات وإعطائها الدلالات الأوسع التي تنتقل بالحدث من حدث بسيط آنيّ، أو فردي إلى تجربةٍ إنسانية شاملة، تجعل النصّ أيضاً كونياً في تجلياته وقراءاته.

أما شعرية اللغة فتتبدى في ارتفاع مستوى البيان والبديع، باستغلالٍ كامل لطاقة اللغة، وتوظيف وهج البلاغة وقدرتها في احتواء الحدث والسير به نحو الذروة والتنوير الختامي، بعدد من التراكيب والصور البديعة، التي تعيد إحياء البلاغة العربية التقليدية، بتجديد عصري، يمثل حداثة سردية خاصة، في بناها المختلفة.

وهذا النّصّ "من العيون قفّة" مثال للبلاغة السّرديّة صورا ولغة.

 

منذر فالح الغزالي

بون 23/12/2020

..........................

(*) د. جميل حمداوي (أحد تلاميذ الدكتور محمد أنقال)

..........................

مِنَ العيون قفةٌ(*)…

قصّة قصيرة بقلم لأديبة التونسية زهرة خصخوصي

كلّ الأدراج خاوية… ترتطم يدها بالخشب البارد أنّى مدّتها، فتعود إليها موجوعة حانقة، ثمّ تعاودها الرّغبة في عناء البحث من جديد لتغرق في الفراغ…

تجمع أشلاء حيرتها وتنتصب واقفة.

"كم أجدني في قصر مداي قد استطلت !

كم أجدني في ضيق مداي قد اتّسعت !

فجأة أضحيت أتسمّر مكاني أخشى بالسّقف ارتطاما، أخشى بالجدار اصطداما، وتضيق حولي الدّائرة.

تضيق وتضيق وتضيق…

ولا  ضلع في الدّائرة يسندني.

لا ضلع في الدّائرة..."

تمدّ يدها بحذر إلى يمينها، تتحسّس الفراغ، تحاول العبور إلى مكتبها المحشور في الزّاوية، آخر ملجإ لأسرارها الشّحيحة.

يئنّ الدّرج المنخور تحت قبضتها وهي تسحبه إليها، يُشرق وجهها بابتسامة ظفر، تسحب لفافة قطن، تتحسّسها كأنّها رضيع في قماطه، تفكّ عقدة صغيرة تلفّها، ثمّ تضمّ كفّها عليها كأنّها عصفور تخشى فراره.

ترفع كفّها واللّفافة القطنيّة، تقرّبها من وجهها، تتشمّها، فيغزو خدّيها توهّج فرح طفوليّ.

تضع في فمها حبة اللّبان المرّ وترتمي على أريكة باهتة الألوان، ألوان ما اغترفت منها نظراتها منذ الصّعقة والشّهقة وطوفان الشّتات…

حبّة اللّبان المرّ شهد يمحو لبرهة من الزّمن علقم الحياة الذي تكابده…

حبّة اللّبان المرّ حلوى الذّاكرة، فاكهة مجلس أمّها الحنون، تمائم العرس في كفّ الصّبايا، وباقة ورد في قفّة السّوق الأسبوعيّة…

وكم باتت حبّة اللّبان، في عتمة خطى يقين،  مشاعل لمتاهات الحكاية ...!

وكم صارت يقين تعشق كؤوس حبّات اللّبان !

طرقات خفيفة على باب الغرفة تنتزعها من تلك الأريكة البالية ومن متاهة الذّاكرة.

تتّبع صدى الطّرقات…

تسوس الطّرقات خطاها.

بصوت كالرّجيف تسأل:” من…؟”

صوت هامس رهيف يأتيها من خلف الباب: "يقين…؟"

يهتزّ قلبها لصدى الصّوت الهامس الرّهيف، تعضّ على شفتها، تشدّ قبضتها على فستانها، وتسند رأسها على الباب كالخدرة مردّدة:”من…؟ من أنت؟”

ويفترّ ثغرها بالضّياء،  كأنّها ترى ابتسامته النّضّاحة عذوبة وهو يجيب:" أنا حلمي … زوجك أيقين، افتحي الباب."

تأسرها رعدة تجتاح كامل جسدها حتّى لكأنّها تسمع أسنانها تصطكّ.

"أوّاه…كم سنينا مضت تلتهم السّنين

وأنا أنتظر معجزة الإياب…

قالوا “مات..."

لم قالوا "قد مات”؟

لمَ ذريتني لقمة للشتات…؟

أنّى ذريتني وعانقت الغياب…؟

كم سنينا مضت…؟ كم ذريتني مضغة في فكّ السّنين... !"

تزداد حدّة الطّرقات، وحلمي خلف الباب ينادي:" أيقين افتحي الباب، أيقين..."

يزغرد المفتاح في أكرة الباب، وتفيض أنهار العناق.

ذات الرّائحة الحبيبة تؤوب إليها والصّوتَ الحبيب، والجسمُ النّحيل ذاته، كعهده، في العناق رحيب، وكثير من البكاء الغريب الغريب…

ويقين تمسي ذوبا في كفّ الوصال، ذوبا من حنين كم جمّدته بيض اللّيالي تعقلها مذ ذاك الخريف.

كان خريف…

والأخبار هلّلت لانتهاء القتال، الحرب لملمت أوزارها، تركت للرّياح أن تكنس أوراق الأزيز، أن تضمّد جراح الغيمات حتّى تعشق وجه الشّتاء…

وكانت الشّمس في خفر تقبّل ثغر الغروب.

كانا معا، تحت جدار البيت يقصّان الخشب قطعا لمواقد الشّتاء.

والشتاء مذ ذاك الخريف ما أتى…

كانا يقطعان الخشب المتيبّس، وفي رحم يقين قد شُدّ إلى المشيمة بذار فرح للرّبيع…

قال:” أسمّيه جمالا”.

قالت:” أسمّيه ربيعا”.

لكنّ قصفا جائرا شوّه ذاك الجمال، أجهض ذاك الرّبيع، وبسط رداءات الخريف على كلّ الخطى، واستيقظت يقين على جسد يخنقه البياض، على بصر يخنقه الظّلام، على خبر يقول: "زوجك ضمّه موكب الأموات..."

تتخلّل أصابع يقين شعر زوجها، تبتسم، تهمس:” الحمد لله أن ظللت حيّا سليما”

يتمتم:” ما أدراك أيقين؟

ألا ترين جزز الشّيب من هول أنياب الأسى؟

الشّيب راية الألم، راية الوجع الدّفين…

وكم أثخنني مساء ذاك الخريف وجعا ! ثمّ ألا ترين سا…”

تلذعه سياط نشيجها، يبتعد عن حضنها قليلا، يمسح بكفّه دموعا حرّى  وهو يهمس بصوت رجيف : "زال الخريف أيقين… ها قد عدت، ها نحن نجتمع من جديد…

مواجعُ الفقد تذبّها ساعة الوصال.

المواجعُ ريح يكسر أمواجَها دوامُ الحال من المحال، و لله الحمد أن ما دامت حال… "

يشتدّ النّشيج، يحتضنها حلمي من جديد، لكنّها تسحب نفسها منتفضة وهي تصيح: ”أعماني ذاك المساء يا حلمي… إنّي عميت.”

يتأمّل الزّوج عينين لا تريانه، يشرق فؤاده بالنّحيب، يعقل سيّاف الفرح لسانه.

"الوجع سيّاف الفرح يا عبارتي الهائمة…

الوجع، واحرّ قلباه، سيّاف الأوينات الحالمة…"

تكنس العينان المعتمتان ابتسامته وإشراقات النّظرة المشتاقة.

يتفحّص زوجته الضّريرة فلا يرى غير الأسى.

مشارط الآه تنقضّ على الفؤادين العليلين بلا رحمة.

يضمّ حلمي زوجته إليه ويمدّ رجله إلى الوراء ليغلق الباب. فجأة تدوّي قرقعة: تاك، تاك: تكككك”

تصرخ يقين:” ما هذا…؟”

يردّد حلمي:” لا تجزعي ، هي عصاي أتّخذها ساقا وبها أغالب الوهن… ”

تشهق يقين فزعا ممّا سلبتها السّنين…

جزعا ممّا يحجبه عنها العمى، تشهق يقين…

تهمس:" لأراه… ربّاه، قفّةَ عيون*"

 

زهرة خصخوصي/ تونس

..............................

(*) إحالة على مثل تونسي ترجمته إلى الفصحى هي:” والأعمى يتمنّى قفّة عيون”

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم