صحيفة المثقف

طقوس الحب المقدس

نبيل عبدالامير الربيعييقول علماء اللغة أن العرب اشتقوا مصدر (العشق) من طبيعة نبتةٍ تنمو في بواديهم هي (العَشَقَة) نبتةَ نحيلةُ الساق تشبه نحول المحبَّ. ومن طبيعتها أنها تتعشّقُ الشجرةَ فتلتفُ عليها كالتفاف المحيَّنَ مع بعضهما. وقال ابن دريد: زَعَم ناسٌ "إن العشقةَ هي (اللبلابةَ)، وزعم الزجَّاج أن اشتقاق العاشق منها.

أما لغة القُبلة لدى شعوب العالم، لم نجد شعباً من شعوب العالم لا يولي هذه العملية اهمية كبيرة، فهي تعني لغةُ الأنسَنَةِ والتعاطف ورمز التوحيد والترابط، بواسطتها يستطيع الواحد أن يظهر مكنون اعماقه من العواطف الجيّاشة، وبها يمكنه أن يُعبر للآخرين عن عديدٍ من الدلالات التي تعنى عنها الكلمة.

ونذكر من جملة الشعوب القديمة التي استخدمتها بشكلٍ واسع أهل بابل، فقد جاء في النصوص المسمارية أن العوائل البابلية كانت تُقبلُ أحدهما الأخرى عندما تلقى تحية الصباح.

وتورد نصوص التوراة مجالات عديدة تتخذ فيها القُبلة كتعبير عن حالة اجتماعية معينة، كقُبلة الولد لوالده أو والدته أو حميّه أو الوالد والوالدة لأولادهما واحفادهما. وقُبلة الأقرباء والاصحاب وقُبلة ذوي المرتبة الواحدة للصداقة أو التظاهر بها. وقُبلة المختلفين رتبةً على نوعٍ من التنازل أو الوقار، وجعلت القُبلة احياناً كعلامة على المصالحة.

وكان المسيحيون الأوائل يحيّون بعضهم بالقُبل وهي (قُبل السلام)، وعندهم ما يسمى بالقُبلة المقدسة ولا تزال باقيةً في تقاليد الروم الكاثوليك، كأن يُقبل أسقف كاهناً جديداً وهو نفسه كان قد قُبل عندما كُرس لمنصب الكهنوت. وكان من تقاليد الفرسان في العصور الوسطى تقبيل بعضهم عند منحهم اللقب.

وقد تستخدم (قُبلة الأنف) عندنا في العراق ولكن ليس أنفاً بأنف بل أنفاً بخدَ، حيث يقوم الواحد بعد المصافحة بوضع انفه على خدَ الشخص الآخر ويستنشق بقوة. وإذا كان هذا الآخر ممن يألف هذه العادة فأن الاثنين يتبادلان التحية بتبادل الاستنشاق.

وقد ظهر في الدراسات أن هذا النوع من التقبيل مألوف لدى الساميين الاوروبيين (أي اليهود)، ولدى الشعوب في الجنوب الشرقي من الهند حسب ما ذكرته الموسوعة البريطانية.

نجد في الكتاب المقدس – الذي يضمُ بين دفتيه التوراة والانجيل – ذكراً لأنواع عديدة من القُبل معززة بوقائعها التاريخية أو غاياتها الاجتماعية أو الدينية. ونظراً لكون التوراة هي الأقدم في التاريخ فإننا نعثرُ بين ثناياها على أحافير آثارية من ممارساتٍ للتقبيل كانت الشعوب التي سبقت اليهودية أو التي عاصرتها تؤديها اثناء عباداتها كالشعوب التي عبدت (البَعْل) - أي السيد أو المالك أو الرب – فأنها كانت تقدم له الاضاحي البشرية وتجثوا أمامه وتقبّله حسبما جاء في سِفر الملوك الأول.

وقد انتقلت هذه الشعيرة إلى اليهود أنفسهم في زمن النبيّ (إيليا) (بحدود سنة 880-850 ق.م)، حيث ارتد قسم كبير منهم عن ديانة التوحيد وعبدوا البعل وسجدوا له. وقد جاءت الاشارة إلى ممارسة تقبيل الأيادي للشعوب التي عبدت الأجرام السماوية، فكانت طريقة عبادتها تجري بمد اياديهم نحوها ثم يقبلونها وكذلك يفعل عبدة القمر. وهذه الممارسة قد اشار لها في سِفر (أيوب) عندما تضرع إلى الله قائلاً: "فلتسقط كتفي من كاهلي ولتنكسر ذراعي من مفصلها إن كنت نظرت إلى الشمس حين سطعت أو إلى القمر يسير بالبهاء، فافتتن قلبي سِراً وأرسلت يدي إليها قُبلةً من فمي، انها جريمةٌ ترفع إلى القضاة لأني اكون قد كفرت بالله العلي".

كما نجد في التوراة اشارة تفيد بأن اللحية علامة من علامات الافتخار وكرامة الإنسان. فإذا أُريد تقديره قبّلوا لحيته ولذلك كانوا يعتنون بها وكان اهمالها عندهم دلالة على تشويش أو خَلَلٍ عقلي. ولكنهم كانوا يطلقونها في حالات الحزن، كما انهم ينتفونها أو يجزونها دلالة على الحداد، فعندما وصل إلى سمع النبي (عزرا) (العُزَير) إن شعبَ إسرائيل وكهنتهم تزوجوا من نساء اجنبيات واختلط نسلُهم بأمم الأرض عَمَد إلى ثيابه فمزقها ونتف شعر رأسه ولحيته.

وكانت أكبر اهانة توجه إلى الإنسان عندما يعاقب بحلقِ نصف لحته، كما فعل ملك العموريين بعبيد داود. فأنه أهانهم إهانة كبيرة عندما حلق أنصاف لحاهم. وتعتبر إهانة اللحية عند الساميين بشكل عام من أعظم الاهانات التي لا تغتفر أما تقبيلها فهو من علامات التقدير والاحترام والأجلال.

وفي نشيد الإنشاد أي (شيرها شيريم لي شلومو) ويعتقد النشيد للنبي سليمان، وهو أحد الاسفار الشعرية الخمسة التي يضمها العهد القديم (التوراة) وهي: أيوب والمزامير والأمثال والجامعة والخامس، والأخير هو نشيد الانشاد الذي هو عبارة عن قصيدة غزلية مطولة تقوم على اساس السرد الجواري بين عاشقين فتحا نفسيهما للحب، فتدفقت احاسيسهما عبر الابيات الشعرية الجميلة بحرية مطلقة، غير عابئة بالالتزام بأصول الحشمة الواجب التزامها في كتاب ديني. ولذلك قيل أن القصيدة مخلة بالآداب لما جاء فيها من اوصاف دقيقة للمواضيع المحرمة من جسد المحبوبة وبعض المواقف الشبقية التي تفصح عن وقوع الممارسة الجنسية اثناء خلوة الحبيبين.

ولهذا السبب فَقدَّ النصُّ صفة القداسة عند البعض فصار النشيد يقرأ في الخمارات وكأنه اغنية خمرية. اسمع مثلاً (بنات أورشليم) ينادين في النشيد:

"كلوا ايها الخلاّن

اشربوا حتى الانتشاء ايها المحبون".

ولكن علماء التوراة نظروا إليه نظرة تقديسية بالغة التطرف فقال عنه (رابي عقيبة) في القرن الأول: "إن سائر الكتب كلها مقدسة أما النشيد فهو قدس الأقداس.

تعرف هذه القصيدة بأنها من نظم سليمان بن داود، ويعود تاريخها إلى القرن العاشر قبل الميلاد، لكن عند الاطلاع على القصيدة لا نجدها تصدر من نبي، وقد تكون قد صدرت من ملك يدعى سليمان أو شلومو، ولذلك نستبعد أن تصدر مثل هذه القصيدة من الله سبحانه وتعالى. فالنشيد لا يعدوا كونه إلا قصيدة غرامية بين فتى وفتاة مارسا الحب فيما بينهما.

اما شارحي التوراة فقد اعتقدوا أن الذي حصل بين عروسين هما النبي سليمان والعروس شلوميت (سلمى)، وقد تزوجها بعد معاناة غرامية وملاحقة مجهدة مما أدى إلى افتتاح قريحته بهذا النشيد الموحى إليه من الله. لكننا نجد أن النبي سليمان قد أقحم في النص وهذا ما يؤكده العالم الاثنولوجي (ج. ج. فتشتاين). فالنص من ضمن الموروث الشعبي اليهودي الذي يغنى في الأعراس الشعبية من قبل الشعب اليهودي في فلسطين، ولا يزال هذا التقليد جارياً بين الفلاحين واهل القرى في سوريا وفلسطين ولبنان.

ونختتم مقالنا هذا بالقول أن ما ذكرته الكتب السماوية عامة والتوراة خاصة حول العشق والحب والقبلة المقدسة ما هي إلا روايات متناقلة عبر السنين وقد فعل بها تقادم الزمن مما اعتقد البعض انها من النصوص المقدسة وقد نزلت في الكتب السماوية.

 

نبيل عبد الأمير الربيعي

....................

المصادر:

1- الكتاب المقدس.

2- عمر كحالة/ الحب/ ص8.

3- جورج كونتنيو/ الحياة اليومية في بابل/ ص122.

4- جورج يوسف/ قاموس الكتاب المقدس/ مادة قُبلة.

5- حسين علي الجبوري. القُبلة وتقاليد التقبيل في شرائع الحب والدين والسياسة. دار آراس. اربيل. ط1. 2012. ص25.

6- حسين علي الجبوري. القُبلة وتقاليد التقبيل في شرائع الحب والدين والسياسة. مرجع سابق. ص33.

7- حسين علي الجبوري. القُبلة وتقاليد التقبيل في شرائع الحب والدين والسياسة. مرجع سابق. ص47.

8- آن ماري بلتيبة. نشيد الأناشيد. ص8.

9- صموئيل نوح كريمر. طقوس الجنس المقدس عند السومريين. ص129.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم