صحيفة المثقف

مفهوم الحبّ في الثقافة العربية

علي القاسميأصناف الحبّ في الثقافة العربيّة:

أفترض أنّ الحبّ هو عبارة عن مستوى سامٍ من العلاقة بين الذات والآخر تكون فيها الأفضليّة للآخر على الذات. وقد يختلف هذا الآخر من ثقافة لأخرى أو في داخل الثقافة الواحدة، فقد يكون إنساناً أو حيواناً أو وطناً أو إلهاً، وقد يكون كلّ ذاك في إحدى الثقافات أو بالنسبة لأحد الأفراد.

ومفهوم الحبّ في العقل العربيّ، مفهوم مُعقَّد، لتعدّد أنواع الحبّ ومذاهبه في ثقافتنا العربيّة. فهنالك ثلاثة أنواع رئيسة من الحبّ في الثقافة العربيّة منذ زمن بعيد، بحيث يتداخل بعضها ببعض في ذهن الفرد العربيّ لاشعوريّاً وتجعل من مفهومه للحبّ مفهوماً معقَّداً لا بسيطاً. وهذه الأنواع هي:

(1) الحب الإلهي:

في هذا النوع من الحبّ يحلّق العاشق في عوالم نورانيّة، حيث الينابيع الروحيّة الثرّة والفيض الربانيّ الغامر، وتنتشي روحه بنفحات إلهيّة، وتختلج نفسه بأقباس عُلويّة، ويهيم بجمال الخالق المتجلِّي في الكون والطبيعة والوجود وجميع المخلوقات، فيفيض وجدانه بترانيم الحبّ والطهر، وتذرف عيناه دموع الشوق واللوعة والخشوع.

وقد عرف العرب العاربة هذا الحب الصوفيّ منذ عهد سيدنا إبراهيم الخليل وابنه الذي قبِل عن طوع أن يضحِّي بنفسه حبّاً بالله وطاعة له. هذا النوع من الحبّ هو الذي جعل القطب الصوفيّ محي الدين بن عربيّ يقول:

أدينُ بدينِ الحبّ أنّى توجهتْ  ...   ركائبُهُ، فالحبُّ ديني وإيماني

(2) الحبّ العُذْريّ:

في الصحراء العربيّة ذات الرمال الذهبيّة النقيّة المترامية تحت السماء الصافية الأديم الرائعة الزرقة، يترعرع الحبّ طاهراً كالغيث، شفافاً كالنسيم، دافئاً كالنور؛ زاخراً بالمشاعر النبيلة، والعاطفة المشبوبة الثرّة الزكية، متقيَّداً بأخلاق الفروسية وتقاليدها في العِفّة والوفاء والإخلاص. وتمتزج في هذا النوع من الحبّ قوة المشاعر برفعة العقيدة وسمو الخُلق، فتتفجر قريحة العاشق بالغزل العفيف واللفظ اللطيف. وليس بين العاشق وحبيبته إلا المحبّة الصافية والعاطفة الصادقة، فيمضّه الشوق، ويشفّه التبريح، ويتيّمه الهوى، ويُضنيه الحرمان، فيذوب صبابة ووجداً، ولكنّه يظلّ متعففاً عزّة وإباء، ويبقى حريصاً على كرامة محبوبته وسمعتها، ليس بينهما سوى المُنى والأمل والرجاء، فلا من لمسة ولا من قبلة ولا من اتصال، بحيث لو اطَّلع واشٍ عليهما في خلوتهما لما استطاع أن يؤاخذهما على شيء، كما قال جميل بن معمر العُذريّ، الملقَّب بجميل بثينة، نسبة إلى اسم محبوبته:

وإنّي لأرضى منْ بثينةَ بالـذي  ...      لو أبصرهُ الواشي لقرّتْ بلابلُهْ

بلا، وبألا أســــتطيع، وبالمُنــى   ...   وبالأملِ المرجوِ، قد خابَ آملُهْ

وبالنظرةِ العَجلى وبالحولِ ينقضي  ...   أواخـرُهُ، لا نلتقي، وأوائـلُه

(3) الحبّ الجسديّ:

العربيّ ذواقة للجمال الأنثويّ، تَعشَّقَه منذ القديم حتّى إنّه عبدَ عشتار، إلهة الجمال عند السومريّين، وعبدَ اللاة ومناة والعزى. وفي هذا النوع من الحبّ، يُفتَن العاشق بجسم محبوبته الغضّ بجميع تفاصيله: بوجهها المشرق كالصبح، وشعرها الأسود الفاحم كالليل، وجبينها الناصع كالبدر، وعينيها الواسعتين الكحيلتين، وجيدها الذي يضاهي جيد الغزالة، وصدرها الناهد النافر، ويدها البضّة، وبكلّ نبضة من نبضات قلبها، وكلّ رفّة من رفات أجفانها الهدباء، وكلّ رعشة من رعشات شفتيها المكتنزتَين. وقد عرف الشعر العربيّ هذا اللون من الحبّ منذ أقدم العصور، فقد وصف لنا أمير الشعراء في العصر الجاهلي، امرؤ القيس، بعض مغامراته الجنسيّة في معلقته الشهيرة التي ورد فيها:

ومثلـكِ حُبلى قد طرقتُ ومُرضعٍ    ...    فألهيتُها عن ذي تمائمَ محولِ

إذا ما بكى من خلفها انصرفت لهُ   ...    بشِـقٍّ وتحتي شقُّها لم يُحوَّلِ

ونجد هذا اللون من الحبّ في جميع عصور الشعر العربيّ: في شعر عمر بن أبي ربيعة في العصر الأمويّ، وفي شعر أبي نواس ودوقلة المنبجيّ في العصر العباسيّ، وهكذا دواليك.

ومفهوم الحبّ في العقل العربيّ يمتح من هذه الأنواع الثلاثة، وتمتزج فيه خصائصها وسماتها الذاتيّة والعرضيّة المتعددة. ومن هنا أصبح مفهوم الحبّ مفهوماً مُعقَّداً لا بسيطاً. ومما يزيده تعقيداً اتساع شبكة العلاقات التي تربطه مع مفاهيم أخرى، كالفراق، والشوق، والحنين، والدلال، والصدّ، والهجر، واللقاء، والوصل، الخ.

فضل الحبّ:

والحبّ هو أنبل العواطف الإنسانية وأسماها، فهو يثير زوبعة من الانفعالات والأحاسيس البشرية المتنوّعة، من أملٍ، ورجاء، وفخر، ورضاً، وغضب، وغِيرة، وحنان. ولهذا أكثر العربُ من الترحال في آفاقه وأرجائه، والتجوال في بساتينه وجناته، والبحث في كينونته وماهيته وطرائقه ووسائله وكلِّ ما يتعلَّق به. فتصدَّى عدد من الفقهاء والأدباء والعلماء إلى الكتابة عنه من أمثال أبي بكر محمد بن جعفر الخرائطي (ت 327 هـ) في كتابه (اعتلال القلوب في أخبار العشاق والمحبين)، وأبي بكر محمد بن أحمد الأصبهاني (ت 355 هـ) في كتابه (الزهرة)، وعلي بن محمد الديلمي (ت 385 هـ) في كتابه (عطف الألف المألوف على اللام المعطوف)، والإمام ابن حزم (ت 456هـ) في كتابه (طوق الحمامة في الأُلفة والأُلاف)، ، والإمام أبي الفرج عبد الرحمان بن عليّ بن الجوزيّ (ت597 هـ) في كتابه (ذمّ الهوى)، والشاعر الأندلسيّ عليّ بن سعيد المعروف بابن حمامة (ت 604 هـ) في كتابه (نفائس الأعلاق في مآثر العشّاق)، والإمام ابن قَيْم الجَوزيّة (ت 751 هـ) في (روضة المحبِّين ونزهة المشتاقين)، ولسان الدين ابن الخطيب (ت 776 هـ) في كتابه (روضة التعريف بالحبّ الشريف)، والطبيب الضرير داود الأنطاكيّ (1008هـ) في كتابه (تزيين الأسواق في أخبار العشاق)، وغيرهم كثير.

وفي فضل الحبّ، تروي لنا كتب التراث العربيّ أنّ أحد الحكماء قال لتلاميذه:

" لقد نلتم من الحكمة والأدب الشيء الكثير، فهل فيكم مَن عشق؟" قالوا: "لا"، قال: " اعشقوا فإنّ العشق يُطلق لسان العييّ، ويفتح قلبَ الغبيّ، ويحثُّ على أفخر المكاسب والمطالب، ويدعو إلى مصافاة الكرام. وإياكم ومباشرة الحرام."

تعريف الحبّ؟

على الرغم من كَثرة ما كُتب عن الحبّ في الثقافة العربيّة، فإنّ العربيّ لا يستطيع أن يصف الحبّ أو يعرّفه أو يحدّده، لأنّه مفهوم معقّد كما أسلفنا، أو لأنّه ذو مراتب متعدِّدة ودرجات متفاوتة. ولهذا نجد البهاء زهير يقول:

يقولُ أناسٌ: لـــــــو وصفتَ لنا الهوى

فوا اللهِ، ما أدري الهوى كيفَ يُوصَفُ!

ولعلَّ عجزَ أهل الفكر عن تعريف الحبّ وتحديده ناتجٌ من كونه عاطفة يدركها الإنسان في الأعماق، وليس شيئا محسوساً ملموساً يستطيع أن يُخضِعه لحواسه الخمس. إنّه شيء يشعر به حين يسري في كيانه وقلبه ومهجته، شيء كالكهرباء كما يقول شاعر عسكري مصريّ لُقب برب السيف والقلم هو محمود سامي البارودي (1839 ـ 1904م) الذي عاش في عصر اختراع الكهرباء ودخولها مصر:

الحبُّ معنىً لا يُحيطُ بسرّه  ...      وصفٌ ولا يجري عليهِ مثالُ

كالكهرباءةِ دَرْكُـها مُتَعذّرٌ   ...          ونسـيمُها مُتحــدّرٌ سـيّالُ

وذهبَ بعضهم في وصف الحبِّ إلى تشبيهه بمسحوق خفيّ يُذَرّ في القلب فيبلغ مفعوله ما لا يبلغه شراب، ولا حزن، ولا سرور:

تغلغل حبُّ عثمةَ في فؤادي  ...    فباديهِ معَ الخافي يَســيرُ

تغلغل حيثُ لم يبلغْ شـرابٌ     ... ولا حزنٌ ولم يبلغ سرورُ

صدعتِ القلبَ ثم ذررتِ فيهِ   ... هواكِ، فليمَ فالتأمَ الفطورُ

وذهبَ بعضهم الآخر إلى تشبيه الحبّ بالسحر، مع فارق واحد هو أنّ السحر قد يُتوقَّى بتميمة أو يُبطَل مفعوله برُقية، على حين أنّ الحبّ لا تنفع معه تميمة ولا رقية، كما قال ذو الرمَّة (77 ـ 117 هـ) ، وهو شاعر بدوي عاش في العصر الأموي واشتهر بحبّ مَية:

هو السحرُ إلا أنَّ للسحرِ رقيةً  ...     وإنيَ لا ألقى من الحبِّ راقيا

ورأى بعضهم أنَّ الحبّ داء من الأدواء ومرض من الأمراض، إلا أنّ الفرق بين الداء والحبّ يكمن في أنَّ " لكلّ داءٍ دواء، عرفه مَن عرفه وجهله مَن جهله"، كما قال الرسول (ص)، على حين أنّ الحب داء لا دواء له، كما استنتج  الشاعر العذري عروة بن حزام (ت 30 هـ) الذي قتله عشق عفراء،  بعد أن لجأ إلى عرّافَين (طبيبَين)، أحدهما في اليمامة والآخر في نجد، لمداواته مما به من وَلَهٍ ووجْد، وهو مستعدّ لبذل ما يستلزم العلاج من نفقات وأموال، فجرّبا جميع الأدوية ومختلف الوسائل، بلا جدوى، حتى اعترفا بإخفاقهما:

جعلتُ لعرّافِ اليمامةِ حكمَهُ  ...    وعرّافِ نجدٍ، إنْ هما شفياني

فما تـركا من حيلةٍ يعرفانها   ...        ولا شربةٍ إلا وقد سـقيانـي

وقالا: شفاكَ اللهُ، واللهِ ما لنا  ...     بما ضمنتْ منكَ الضلوعِ يدانِ

بدايات الحبِّ:

كيف يبدأ الحب؟

يرى بعضهم أنّ القلب يعلّق من نظرة واحدة. وقد لخّص أمير الشعراء، أحمد شوقي، خطوات الحبّ ببيتٍ واحد:

نظرةٌ، فابتسامةٌ، فسلامٌ،  ...    فكلامٌ، فموعدٌ، فلقاءُ

ويؤيِّد هذا الرأيَ القولُ المأثور: " ربَّ صبابة غُرست من لحظة، وربَّ حربٍ جُنيت من لفظة".

ومن العشّاق الذين خطف قلوبَهم الحبُّ من نظرة واحدة الشاعر العاشق العبّاس بن الأحنف (ت حوالي 190 هـ)، الذي تصفه بعض المصادر بأنّه شاعر الخليفة العباسي هارون الرشيد ببغداد:

فيا لكِ نظرةٍ أودتْ بقلبي  ...   وخلّفَ سهمُها جسمي جريحا

وفي مقابل هذا الرأي، نجد رأياً آخر مفاده أنّ القلب يحتاج لوقت طويل قبل أن يعلَق بإنسان ويتولّه به. فالإمام ابن حزم يقول في كتابه (طوق الحمامة في الأُلفة والأُلاف):

"وأنّي لأطيل العجب من كلّ مَن يدّعي أنّه يحبّ من نظرة واحدة، ولا أكاد أصدّقه، ولا أجعل حبَّه إلا ضرباً من الشهوة. وما لصق بأحشائي حبٌّ قطّ إلا مع الزمن الطويل، وبعد ملازمة الشخص لي دهراً، وأخذي معه في كلّ جدّ وهزل."

ولعلَّ الأمر يتوقَّف على نوع الحبّ وطبيعة الشخص، فهناك مَن هو مرهف الإحساس تأخذ لبه نظرةٌ واحدة ذات معنى، وهناك مَن يتّسم برجاحة العقل ويحتاج إلى وقت طويل لاختبار خصائص الآخر قبل التعلّق به.

وقد يبدأ الحبّ في الصغر وينمو ويكبُر كلّما كبر الشخص. فقيس وليلى التقيا صغيرين وهما يرعيان الأغنام:

تعلّقتُ ليلى وهي غـرُّ صغيرةُ         ولم يبدُ للأترابِ من ثـديها حجمُ

صغيرَين نرعى البَهمَ يا ليتَ أننا    إلى اليوم، لم نكبرْ ولم تكبرْ البَهمُ

ويبدو أن هذا النوع من الحبّ الذي يبدأ في الصغر، يزداد ويشتدّ كلّما كبر المتحابان، كما يقول المتنبي:

ولكنَّ حبّاً خامرَ النفسَ في الصِّبا   يزيد على مرِّ الزمان ويشتدُّ

وقد تبدأ المودة بخصام، ثمّ ينجذب المتخاصمان أحدهما إلى الآخر وينقلبان مُحبَّين. وهذا ما حصل لجميل وبثينة:

وأوّلُ ما قادَ المـودةَ بيننـا     ...    بوادي بغيضٍ، يا بثينُ، سبابُ

وقلنا لها قولاً، فجاءتْ بمثله  ...    لكلِّ كلامٍ، يا بثينُ، جــوابُ

ولكن هناك مَن يعتقد أن الحبّ لا يبدأ في هذه الدنيا وإنّما في عالم المُثُل والأرواح، ويستمر هذا النوع من الحبّ حتّى بعد الممات. وهذا ما أراد أن يقوله الشاعر العُذريّ قيس بن ذريح، عاشق لُبنى:

تعلّقَ روحي روحها قبل خلقنا ...    ومِن بعد ما كنّا نطافاً وفي المهدِ

فزاد كما زدنا فأصبحَ نامـيا    ...       وليسَ إذا متنا بمنصرمِ العهـدِ

ولكنـّه باقٍ على كلّ حـادثٍ     ...      وزائرنا في ظلمةِ القبرِ واللحدِ

سبب الحبّ وعلته:

ولعلَّ هذا يجرنا إلى البحث عن أسباب الحبّ؟ لماذا يحبُّ أحدنا شخصاً بالذات دون غيره؟

ألأنّه يراه جميلاً حَسَناً فينجذب إليه. ولكن العرب قالوا: " يا ربَّ مُستحسَنٍ ليس بالحَسَن!" فالحُسن ليس وحده الدافع إلى الحبّ. وثَمَّةَ مَن يقول إنّ الإنسان ينجذب إلى شخصٍ يختلف عنه في صفاته كما ينجذب القُطبان الموجب والسالب إلى بعضهما، وكأن الفرد يسعى إلى استكمال ما ينقصه.

ويبدو لنا أنّ العقل العربيّ يميل إلى قبول الفرضيّة المعاكسة القائلة إنّ الإنسان ينجذب إلى إنسان آخر يشابهه في صفاته ويشاركه اهتماماته، ومن هنا جاء المثل العربيّ " إن الطيور على أشكالها تقع ". ويميل إلى هذا الرأي إخوان الصفا، وهم جماعة فلسفيّة سريّة ظهرت في البصرة في القرن الرابع الهجري ونشرت مؤلفاتها بعنوان " رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء" وأثّرت في مجرى الفكر العربيّ، فقد قالوا في فصل " ماهية علّة فنون المعشوقات":

" ولكن العِلَّة في ذلك هي الاتفاقات بين العاشق والمعشوق، وهي كثيرة لا يُحصي عددَها إلا اللهُ جلّ ثناؤه."

ولعلَّ في قولهم هذا إحالة جزئية إلى الحديث النبويَ الشريف: " الأرواح جنود مُجنَّدة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف."

شدّة الحبّ:

العربيُّ وفيٌّ مخلص، فكلّما مرّ الزمانُ على المودَّة، نما الحبّ واشتدَّ أواره، فتُصبِح المَحبّة كبيرة لا يمكن قياس مقدارها، فهي أزيد من ذرات الرمل والحصى والتراب مجموعة، كما يقول لنا عمر بن أبي ربيعة:

ثم قالوا: تحبّها؟ قلتُ: بَهْراً  ...   عددَ الرملِ والحَصى والترابِ

يزداد الحبّ حتّى يجد المرء نفسه محاصراً بالحبّ من كلّ الجهات ولا مفرّ له منه، كما حصل للشاعر العباسيّ الضرير بشار بن برد:

عن يميني وعن شمالي وقُدّا      مي وخلفي الهوى، فأينَ أفرُّ؟!

ويذكِّر هذا الحصارُ بعضَهم بالحصار العسكريّ الذي يفرضه الجنود الغزاة المتناوبون على إحكامه، كما تراءى لقيس لُبنى:

غزتني جنودُ الحبِّ من كلِّ جانبٍ  ...   إذا حانَ من جُندٍ قفولٌ أتى جُندُ

وهكذا لا يجد العاشق راحة من هذا الحبّ المثابر الذي لا يتوانى ولا يفتر لحظة واحدة، وإنّما يزداد حرارةً ويتعاظم سعيراً، فيتمنّى الخلاص منه، على حد تعبير جميل بثينة:

عدمْتُكَ من حُبٍّ، أما منكَ راحةٌ  ...  وما بكَ عنِّي من توانٍ ولا فترِ؟

يجري هذا الحبُّ في عروق العاشق ومفاصله كدمه، ويستحوذ عليه بصورة تامّة، ويكون شغله الشاغل، كما يقول المتنبيّ:

جرى حبُّها مَجرى دمي في مفاصلي ...   فأصبحَ لي عن كلّ شغلٍ بها شُغلُ

وهكذا يظلّ العاشق مشغولاً في ذكرٍ دائمٍ للمحبوب، لا يرتوي من ذكره، يقتله الأسى ويحييه الأمل، ويعجب ممَّن يقول إنّه يذكر محبوبه، لأنّه لا ينساه فكيف يذكره؟ فهذا القطب الصوفيّ، أبو بكر الشبليّ (274 ـ 334هـ) ، الذي كان يلقّبه شيخُه الجنيد بـ " تاج الصوفيّة وريحانة المؤمنين"، فقد كان أمير دوماند في طبرستان، وترك عمله للتفرغ للعبادة:

شربتُ الحبَّ كأساً بعدَ كأسً  ...     فما نفدَ الشرابُ ولا رُويتُ

أموتُ إذا ذكرتُـكَ ثم أُحيى   ...        فكم أُحيى عليكَ وكم أموتُ

أموتُ أسىً وأُحيى بالأماني   ...      ولولا ما أُؤمِّلُ ما حييــتُ

عجبتُ لمن يقولُ ذكرتُ حبّي ...     وهل أنسى فأذكرُ مَن هويتُ؟

وهكذا يثبت الحبّ ويرسخ في القلب ويصبح جزءاً لا يتجزأ منه كما أنّ الأصابع جزء من الكفّ، على حدّ تشبيه مجنون ليلى:

لقدْ رسختْ في القلبِ منكِ محبّةٌ ...   كما رسختْ في الراحتين الأصابعُ

كتمان الحبّ:

من المفاهيم المتعلِّقة بمفهوم الحبّ في العقل العربيّ هو كتمانه، بحيث يبقى سرّاً لا يعلم به أحد. وهذا الكتمان يسري على الحبّ بمختلف أنواعه ومتباين حالاته.

فالمتصوِّفة العرب، مثلاً، يرون وجوب كتمان الحبّ الإلهيّ بحيث لا يُظهره الصوفيُّ للناس أبداً. ولا نعرف السبب الحقيقيّ لهذا الكتمان على وجه التحقيق والتوثيق: هل هو وسيلة لتأجيج الحبّ داخل النفس بحيث يزداد الوجد مع الكتمان حتّى يبلغ بالصوفيّ درجة الشهادة في سبيل الله؟ وهذا ما فهمته شخصياً من بيتيْن يرويان للشبليّ:

باحَ مجنونُ عامرٍ بـهواهُ    ...      وكـتمتُ الهوى فـمتُ بوجدي

فإذا في القـيامةِ نـودي: مَن ....      شهـيدُ الهوى؟ تقدّمتُ وحدي

فالبوح بالحبّ يخفِّف من لوعته. وفي هذين البيتيْن، يعدُّ الشبليُّ قيسَ بن الملوح مجنوناً من مجانين بني عامر، لأنّه لم يعرف كيف يتلذَّذ بالحبّ، ويزيد من سعير الوَجد في ذاته، فيبلغ أعلى مراتب الهيام. ونظراً لهذا الجهلُ أو الحمق أو الجنون، فإنه لم يكتم حبّه وإنّما باح به، فأفسد تلك المتعة الروحيّة السامية.

ومن ناحية أخرى، قد يكتم الصوفيّ حبّه الإلهي خوفاً من أن عامّة الناس لا تفهم هذا النوع من العبادة فيسيئون تفسير القصد، ويلحق بالصوفيّ أذى، بل قد يستحلّ الناسُ قتله. وهذا ما يمكن أن نستشفه من أبيات للقطب الصوفيّ السهروردي المقتول، الذي أدّت الوشايات به إلى أن يأمر السلطان صلاح الدين الأيوبيّ بقتله:

وا رحـمة للعاشقين تكـلّفوا   ...      سِترَ المحبَّةِ، والهوى فضّاحُ

بالسرّ إنْ باحوا تُباحُ دماؤهم ...        وكـذا دماءُ البائـحينَ تُباحُ

فكشفُ الكشفِ قد يؤدّي إلى ما لا تحمد عقباه، فالشبليّ، مثلاً، كان يرى أنّ الحسين بن منصور الحلاج كشفَ السرَّ فلقي الموت، ولهذا كان يقول : " كنتُ أنا والحسين بن منصور شيئاً واحداً، إلا أنّه أظهر، وكتمتُ". ويقال إنّه عندما اعتُقل الحلاج، قال له الشبلى: " إنّ الله ائتمنك على سرٍ من أسراره فأذعتَه، فأذاقك طعم الحديد." أجاب الحلاج، مخاطباً ربّه:

تجاسرتُ فكاشفتـ            ـكَ لما غُلبَ الصبرُ

وما أحسنَ في مثلـ            ـكَ أنْ يُنتهكَ السترُ

وإنْ عنَفني الناسُ              ففي وجهكَ لي عذرُ

كأنَ البدرَ محتاجٌ                إلى وجهـكَ يا بـدرُ

أما في الحبّ العُذريّ، فإنّ الكتمان واجب محتّم، لأنّ تقاليد القبائل العربية تقضي ألّا تزوِّج ابنتها لرجل افتضح حبُّه لها، حتّى لو لم تبادله حبّاً بحبّ، بل يزوجونها لرجل آخر إثباتاً لبراءتها وعفّتها. وهذا ما حصل فعلاً لليلى العامرية، محبوبة المجنون، إذ زوّجها أهلُها لرجل آخر من غير عشيرتهم ليشهد بأنّها بِكر لم تُمسّ.

وحتّى في الحبِّ الجسدي، يعدّ الكتمان واجباً لئلا يُسئ العاشق إلى سمعة حبيبته، أو يعرِّض نفسه للثأر من قبل أهلها غسلاً للعار.

وأنتَ وأنا نعلم أنَّ كتمان الحبّ ليس بالأمر اليسير. فأنتَ وأنا في حاجة إلى صديق حميم نبثّه شجوننا ونقاسمه أحزاننا، ليخفِّف عنَّا لوعتنا وعناءنا، لأنّ كتمان الحبّ يزيد من الوجد ويفاقم الهيام. فالإنسان لا يستطيع كتم الحبّ، كما ذكرنا قبل قليل، وكما شرح ذلكَ، الشاعر جرير ببيتَين جميلَين:

ما كنتُ أولَ مشتاقٍ أخا طربٍ   ...     هاجت له غدواتُ البينِ أحزانا

لقدْ كتمتُ الهوى حتّى تهيَّمني  ...       لا أسـتطيعُ لهذا الحبِّ كتمانا

نعم، لا بُدَّ من أن نُفضي بدخيلة أنفسنا وحقيقة مشاعرنا لصديق صدوق وفيٍّ ليخفف عنّا من ثقل السرّ الذي تنوء به أنفسنا. ولكنّ الخبرة علمتنا أنكَ إذا أنتَ لم تستطع كتمان سرّك، فإنّ غيرك أقلّ قدرةً على ذلك. ودلّت التجربة على أنَّ أيّ سرّ يتجاوز شخصَين ينتشر ويذيع. ولهذا فإنّ المحبَّين العربيَّين يتواصيان ويتعاهدان على كتمان حبِّهما. فهذا ابن الحدادية، وهو شاعر جاهلي من الصعاليك يوصي حبيبته أم مالك:

فلا يسمعنْ سرِّي وسرَّك ثالثٌ ...   ألا كلُّ سرٍّ جاوزَ اثنَين شائعُ

وهذا ابن الهبارية، وهو شاعر بغدادي عاش في القرن الخامس الهجري وكان مولعا بنظم أمّهات الكتب شعراً، فنظم كتاب " كليلة ودمنة" وكتاب " حي بن يقظان" شعراً، يكرِّر الوصية ذاتها على مسامع محبوبته:

فلا تجـعلي بيني وبينكِ ثالثاً ...    فكلُّ حديثٍ جاوز اثنين ذائعُ

ولهذا فإنّ العاشق العربيّ قد يستعمل وسائلَ تمويه لئلا يفتضح حبُّه ويشيع. فهو يبتعد، مثلاً، عن بيت المحبوبة مع أنّ قلبه مصلوبٌ على جدرانه، وذلك خوفاً من الوشاة والأعداء، كما أنّه يصدّ نظره عن جهة الحبيبة على الرغم من أنَّ كيانه كلَّه يميل إليها، كما أخبرنا الشاعر الأموي عبد الله الأنصاري الملقّب بالأحوص (ت 105 هـ)، لضيق في عينيه:

يا بيتَ عاتكة الذي أتعزّلُ   ...    حذرَ العِدى، وبهِ الفؤادُ موكَّلُ

إنّي لأمنحكَ الصدودَ وإنّني ...     قسماً، إليكَ مع الصدودِ لأمْيلُ

بل إنَّ المرأة توصي حبيبها أحياناً بأن ينظر إلى غيرها ليظنَّ مَن يراه أنّه يحبُّ تلك المرأة الأخرى، فهذه إحدى حبيبات عمر بن أبي ربيعة توصيه:

إذا جئتَ فامنحْ طرفَ عينِكَ غيرَنا  ...   لكي يحسبوا أنَّ الهوى حيثُ تنظرُ

ولكن بالرغم من جميع وسائل التمويه والتضليل والمداورة التي يستخدمها العُشّاق، فإنَّ علامات الحبّ بيّنة واضحة فاضحة لا تفوت الوشاة المتربِّصين بالعشّاق، فهذا الشاعر على بن الحسن البغدادي (ت 465 هـ) الذي كان لقب أبيه (صرَّ بَعْر) ولكن نظام الملك استحسن شعره فلقّبه بـ (صرَّ دُرّ) يقول:

ولو أنّي أنادي: يا  سُليمى     لقالوا: ما أردتَ سوى لُبينا

ولذلك السبب فإنّ العشّاق العرب يؤكِّدون كتمانهم حبّهم طمأنةً للحبيبة وحرصاً على سمعتها. فهذا العباس بن الأحنف يقطع عهداً على نفسه:

لأخرجنَّ من الدنيا وحبّهمُ  ...   بينَ الجوانحِ لمْ يشعرْ بهِ أحدُ

وهذا جميل بثينة يبالغ في كتمان حبّه، فهو لا يكتمه عن غيره فحسب، وإنّما يكتمه عن نفسه وضميره كذلك، لو كان ذلك بالإمكان:

لو أن امرأّ أخفى الهوى عن ضميرهِ ...    لَمتُ ولمْ يعلمْ بذاكَ ضميرُ

ولكنْ سـألقى اللهَ والنفسُ لم تَبُــحْ    ...     بسرّكِ والمستخبرونَ كثيرُ

أعراض الحبّ وعلاماته:

إذا كان تعريف الحبّ وتحديده من الأمور الصعبة جداً، إنْ لم تكن مستحيلة، فكيف نعرف أنّ الإنسان قد أصيب بهذا المرض أو السحر أو الصعقة الكهربائية؟ ما هي العلامات أو الأعراض التي تنمّ عن الحبّ؟

تبيّن لنا النصوص الأدبيّة العربيّة التي بين أيدينا أنّ للحبّ علامات بادية على وجه العاشق لا تخطئُها العين كما يقول العباس بن الأحنف:

إنّ المحبّينَ قوم بين أعينِهم  ...    وسمٌ من الحبِّ لا يخفى على أحدِ

ويتطرق الحكيم الطبيب الضرير، داود الأنطاكي (ت 1008 هـ)، الملقب بالرئيس الضرير، لأنه كان رئيس الأطباء في زمانه، إلى علامات الحبّ في كتابه الشهير " تزيين الأشواق في أخبار العشّاق" فيقول عنها:

" هي أحوال يّتصف بها البدن كتغيُّر الألوان والعينين وتواتر النبض والخفقان، وربّما ازدادت هذه عند رؤية المحبوب أو سماع ذكره حتّى أنّها قد تقضي بالهلاك. وكذا اعتقال اللسان، وأحوال يتّصف بها الفكر كفساد الذهن والتعقُّل، وقد مرّ ذكرها. ثم هذه قد يُستدلّ عليها بالتطورّ والتنقُّل."

وهذه العلامات وتلك الأعراض تبدو بوضوح على العاشق حتّى إذا تمالك نفسه، وكتم حبَّه، وتسلّح بالصبر، وتحكّم في نفسه، فمنع الدمع من التحدّر على الخدين. ولهذا فإنّ المتنبيّ يُخطِرنا بهذه الوضعيّة العجيبة:

بادٍ هواكَ صبرتَ أمْ لمْ تصبرا ...   وبكاكَ إنْ لمْ يجرِ دمعُكَ أو جرى

وأوّل هذه العلامات أو الأعراض البادية للعين شحوبُ الوجه، وهزال الجسم، وظهور السقم على البدن، وكأن الحبّ ضيف يقتات على لحم العاشق ويرتوي من دمه، كما يقول ابن رشيق القيروانيّ، الشاعر الناقد الأديب اللغوي العروضيّ المؤرِّخ، الذي عاش في القيروان وصقلية في القرن الخامس الهجري:

وقائلةٍ: ماذا الشحوبُ وذا الضنى ؟ ...  فقلتُ لها قولَ المشوقِ المتيّمِ:

هواكِ أتاني، وهو ضيفٌ أعـزُّهُ  ...     فأطعمتُه لحمي وأسقيتُه دمي

ويؤكّد لنا هذه العلامة، أعني شحوب الوجه، عاشق آخر هو العُذري قيس بن ذريح متيّم لُبنى، ويزيد علها علامة أخرى هي ابتعاد العاشق عن الناس وتفضيله العزلة ليخلو بهمِّه ويتفرَّغ لهيامه المتواصل:

وللحبِّ آياتٌ تُبيّن بالــفتى:   ...    شحوبٌ وتعرى من يديه الأشاجعُ

وجانَبَ قربَ الناس يخلو بهمّه ...       وعـاودهُ فيها هيامٌ مُراجِـــعُ

أمّا هزال جسم العاشق ونحوله فهي علامة أخرى يؤكِّدها سريّ السقطيّ (ت حوالي 160 هـ)، وهو كبير متصوِّفة بغداد وخال الجنيد وشيخه، ويضيف إلى النحول علامة جديدة هي الذهول، أو شرود الذهن:

إذا ما شكوتُ الحبَّ قالتْ: كذبتني ...   فما لي أرى الأعضاءَ منكَ كواسيا

فلا حبَّ حتّى يلصقَ الجلدُ بالحشا  ...    وتذهل ُحتّى لا تجيب المناديــا

وقد يبلغ الذهول أو شرود الذهن حدّاً يتعذَّر معه على العاشق القيام بأقدس عباداته الدينيّة على الوجه الصحيح بمجرَّد ذكر الحبيبة، فينسى، مثلاً، عدد الركعات أثناء الصلاة، بل يصعب عليه حتّى التوجّه إلى القِبلة الصحيحة، كما حصل لمجنون ليلى:

أُصلِّي فما أدري إذا ما ذكرتُها  ...    أثنتينِ صـلَّيتُ الضحى أمْ ثمانيا

أراني إذا صليتُ يمَّمتُ نحوَها  ...  بوجهي، وإنْ كان المُصلى ورائيا

وما بي إشراكٌ، ولكنَّ حبَّها  ...     كعودِ الشجا، أعيا الطبيبَ المداويا

وبلغ النسيان بمجنون ليلى مبلغه بحيث كان ينسى الحاجة المهمة التي من أجلها ذهب إلى منزل ليلى في ظلمة الليل:

فيا ليلُ، كمْ مِنْ حاجةٍ لي مهمةٍ  ...   إذا جئتُكم بالليلِ، لم أدرِ ما هيا

فإذا اشتدّ  الحبُّ، فإنه يستحوذ على جميع حواس الإنسان وأحاسيسه،  حتّى أنّه لا يرى ولا يسمع شيئاً آخر غير الحبّ والمحبوب، وهذا المعنى وجه من الوجوه التي يتضمنها الحديث الشريف: " حبُّك الشيءَ يعمي ويُصم." كما أنّ شرود الذهن يجعل من الصعب على العاشق التركيز أو فهم ما يُوجِّه إليه محدِّثُه من كلام، كما يخبرنا عروة بن حزام:

وقد تركتْني لا أعي لمُحدِّثٍ  ...    حديثاً وإنْ ناجيتُهُ ونجاني

إن شرود الذهن أو الذهول عَرَضٌ شائع بين المحبّين، فترى أحدهم شارد الذهن ساهياً، لا يُجيب مَن يناديه، ولا يسمع مَن يكلّمه، فتجده ساكتاً، كأن شيئاً يعقِل لسانه عن الكلام. وإذا تكلّم فألذّ كلامه الشكوى من الحبّ، كما يقول المتنبيّ:

الحبُّ ما منعَ الكلامَ الألسُنا ...      وألذُّ شكوى عاشقٍ ما أعلنا

ومِن تلك العلامات أو الأعراض، الآهات والزفرات التي تعقبها دموع تترقرق في العينين عند أدنى إشارة تُذكِّر بالمحبوب. فالعاشق العُذريّ قيس بن ذريح يعرِّف الحبَّ لنا بأعراضه وعلاماته، وهي طريقة من طرائق التعريف في علم الدلالة وصناعة المعجم، فيقول:

هل الحبُّ إلا عبرةٌ بعد زفرةٍ  ...   وحَرٌّ على الأحشاءِ ليسَ لهُ بَردُ

وفيضُ دموعٍ تستهلُ إذا بـدا ...     لنا عَلَمٌ من أرضِكم لم يكُن يبـدُ

وهناك علامة أخرى يُعرَف بها العاشق وهي سرعة طربه لأدنى سبب. والطَّرب، في اللغة العربية، يعني الاهتزاز والاضطراب من فرح أو حزن. فالعاشق تُستثار عواطفه بأدنى الأسباب وأوهاها. فالموسيقى تثير شجنه، والغناء يبكيه، والشعر يشجيه، وهكذا. ويخبرنا أبو نواس، وهو من كبار الخبراء في الحبّ وشؤونه، بذلك:

حاملُ الهوى تَعِبُ  ...    يستخفّهُ الطربُ

إن بكى يحقُّ لـهُ    ...     ليسَ ما بهِ لَعِبُ

والسمة الرئيسة التي يشترك فيها جميع العشّاق هي البكاء. فهذا شيخ العشّاق، الشريف الرضي، تنفد الدموع من عينيه لكثرة ما أعان العشاق بدموعه، فيطلب من صاحبه معاونته في البكاء:

وابكِ عنّي فطالما كنتُ من قبـ      ــلُ أُعيرُ الدموعَ للعشّاقِ

وكلّما أراد العاشق أن يزجر نفسه عن البكاء الذي لا يليق بالرجل، هطلت دموعه بغزارة بغير إرادة منه، كما يقول لنا أحد شعراء العصر الأموي، الصمة القشيري (ت 95 هـ) في قصيدته العينية الخالدة:

بكتْ عيني اليسرى، فلمّا زجرتُها عن الجهلِ بعد الحِلم، أسبلتا معا

وقد يزداد بكاء العاشق ويتواصل حتّى تصاب عيناه بنوع من العمى فيبكي بعضه على بعضه، كما حصل للطبيب الشاعر الأندلسي، ابن زهر الإشبيلي (ت 557هـ) في أحد موشحاته الجميلة:

عشيتْ عيناي من طولِ البكا ...   وبكى بعضي على بعضي معي

ولا يستطيع أحد أن يمنع العاشق من البكاء، فقد تمكنوا من منع قيس بن الملوّح من رؤية ليلى العامريّة والتحدث معها، ولكنّهم لم يستطيعوا أن يمنعوه من قول الشعر والبكاء عليها:

فإنْ تمنعوا ليلى وحُسنَ حديثِها  ...    فلنْ تمنعوا عنّي البُكا

ويبدو أنّ البكاء يزداد شدَّة ً وسعيراً مع تمكُّن الحبّ من القلب، كما يحذرنا بشار بن برد:

بكيتَ من الهوى، وهواكَ طفلٌ  ...   فويلكَ ثمَّ ويلكَ حين شبّا

وحتّى إذا أراد العاشق أن يكتم حبَّه عن الآخرين ويُخفيه عن الأنظار فإن دموع الأشواق تفضحه. وفي هذا يقول الشاب الظريف (661 ـ 688 هـ) ابن الشاعر العفيف مخاطباً أحد رفاقه من العشاق بقوله:

لا تُخفِ ما صنعت بك الأشواقُ   ..   واشرحْ هواكَ فكلّنا عشـّاقُ

قدْ كانَ يخفى الحبّ لولا دمعُكَ الـ      ـجاري ولولا قلبُكَ الخفّاقُ

فعسى يُعينكَ مَن شكوتَ له الهوى ...    في حَملهِ، فالعاشقونَ رفاقُ

لا تجزَعنَّ، فلسـتَ أوّلَ مُغـرمٍ  ...        فتكتْ بهِ الوجناتُ والأحداقُ

وحتّى أولئك القادة الشجعان الذين لا يليق بهم ذرف الدموع أمام أتباعهم، فإنّهم يذرفون الدمع سخيناً في خلوتهم ليلاً. فهذا الأمير أبو فراس الحمداني قائد الجيش الذي أبلى بلاء حسناً في محاربة الروم، يعترف بأنّه كان يبكي عندما يخلو بنفسه ليلاً:

أراكَ عصي الدمع شيمتك الصبرُ ...    أما للهوى نهيٌ عليكَ ولا أمرُ؟

بلى، أنا مشتاقٌ وعندي لوعــةٌ    ...     ولكنَّ مثلي لا يُذاعُ لهُ سـرُّ

إذا الليلُ أضواني بسطتُ يدَ الهوى ...   وأذللتُ دمعاً من خلائقِهِ الكِبْرُ

دلال المحبوب وصدّه وهجره:

الدلال، لغة، يعني مخالفة الفتاة للحبيب، وتجرؤها عليه بلطف، وتمنُّعها. ولنضرب بعض الأمثلة على تدلُّل الفتاة العربيّة، وهي أمثلة مستقاة من أشعار عدد من العشّاق المشاهير.

فصاحبة امرؤ القيس تتظاهر بعدم تصديق كلامه، وتوجّه إليه أسئلة تهكمية لتسخر منه:

إذا قلتُ: يا لمياءُ، حبُّكِ قاتلي        تقولُ: وكمْ مِنْ عاشقٍ قتلَ الحبُّ؟

وترفض بثينةُ جميل طلباته بعناد وتنصرف دون أن تأبه له:

إذا قلتُ: ما بي، يا بثينةُ، قاتــلي   ...    مِن الحبِّ، قالتْ: ثابتٌ ويزيدُ

وإنْ قلتُ: ردّي بعضَ عقلي أعش بهِ ...   تولتْ وقالت: ذاكَ منكَ بعيد

فلا أنا مردودٌ بما جـئتُ طالـبـاً   ...       ولا حبُّها، فيما يبيدُ، يبيــدُ

ومحبوبة الأمير الشاعر أبي فراس الحمداني، تنكره وهي تعرفه وتتجاهله بتعنُّت، وهو رجل طبّقت شهرتُه الآفاق ويعرفه القاصي والداني:

تسائلُني: مَن أنتَ؟ وهي عليمةٌ ...    وهل بـفتىً مثلي على حالِهِ نُكرُ؟

فقلتُ لها: لو شئتِ لم تتعـنتي ...      ولمْ تسألي عنّي، وعندكِ بي خُبرُ

فقالتْ: لقد أزرى بكَ الدهرُ بعدَنا  ...   فقلتُ: معاذَ اللهِ، بل أنتِ لا الدهرُ

هذه أمثلة على دلال الفتاة العربيّة، ومخالفتها للمحبوب، وتجرؤها عليه بلطف، وتمنُّعها. ولعلّ هذا الدلال ناتج عن عزّة نفسها، أو عن يقينها أنّ الدلال جزء من لعبة الحبّ، تزيد المحبّ تعلّقاً بالحبيبة، وتجعله يجري وراءها، طبقاً لقاعدة " كلُّ ممنوع متبوع" التي يشرحها الشاعر الأحوص ببيت من الشعر:

وزادني كلفاً في الحبِّ أنْ مُنعتْ ...  أحبُّ شيءٍ إلى الإنسان ما مُنعا

ويفسّر امرؤ القيس دلال حبيبته بغرورها الناتج من تمكّن حبّها من قلبه:

أفاطمُ مهلاً بعضَ هذا التدلُّل ...    وإنْ كنتِ قد أزمعتِ صرمي فأجملي

أغرَّكِ منّي أنَّ حـبّك قاتلي   ...    وأنـَّكِ مـهما تأمري القلـبَ يفعلِ؟

فالحبيب يعرف ما له من مكانةٍ مكينةٍ في قلب المحبّ، ويعلم أنّ دلاله لا ينال من هذه المكانة، بل قد يزيدها سموّاً وثباتاً، فيتدلّل أكثر وأكثر، كما يقول البهاء زهير:

عرفَ الحبيبُ مكانهُ فتدلّلا   ...     وقنعتُ منهُ بموعدٍ فتعلَّلا

وكثير من العشّاق يستلذون دلال المحبوب، كما هو حال المتنبي القائل:

وأرى تدلّلكِ الكثيرَ محبَّباً   ...  وأرى قليلَ تدلُّلٍ مملولا

وهذا الدلال هو الذي يمنع الفتاة من الاستجابة إلى رغبات الحبيب وطلباته، كما يفسّر لنا الأمر شيخ العشّاق الشريف الرضي، في حوار جميل تعدّد المحاورون فيه وتكاثروا وتباينوا واختلفوا، فضاع المطلوب في وسط هذه الضجة :

هيفاءُ إنْ قالَ الشبابُ لها: انهضي ...  قالتْ روادفُها: اقعدي وتمهَّلي

وإذا سألتُ الوصلَ، قال جمالُهـا:   ... جودي، وقالَ دلالُها: لا تفعلي

ويفعل العاشق كلَّ ما في وسعه لإرضاء الحبيبة، فلا يصل مبتغاه. يمحضها خالص الود ليتقرّب إليها ويقترب منها، ولكنّها تبتعد عنه، فيصرخ كما صرخ بشار بن بُرد، الذي قتله الخليفة العباسي المهدي لوشايةٍ:

هل تعلمينَ وراءَ الحبِّ منزلةً  ...    تُدني إليكِ؟ فإنَّ الحبَّ أقصاني

وتتقد عاطفةُ العاشق حتّى ينقدح منها الشعر فيقول أجمله وأطوله في صدق محبّته ولهفته إرضاءً لحبيبته، ولكنّها تتمادى في دلالها ولا تُعيره بالاً، كما كان حال جميل بثينة:

وقد قلتُ في حبّي لكم وصبابتي ...    محاســنَ شعرٍ ذِكرهنَّ يطولُ

فإنْ لم ينلْ قولي رضاكِ فعلّمي ...   هبوبَ الصَّبا، يا بثنُ، كيفَ أقولُ

وتتمادى الحبيبة في دلالها فتأتي بطلبات غير معقولة وتضع شروطاً غير منطقية، فيقبل العاشق بما تفرضه عليه، ويصدع لما تأمر به، ويفعل كما تشاء. فهذا الأمير أبو فراس الحمداني أجاب حبيبته بما يُرضي غرورها عندما سألته أن يعرّفها بنفسه، ولكنها تمادت في دلالها بما يثير غيرته:

فقلتُ، كما شاءتْ وشاءَ لها الهوى:   ...   قتيلُكِ، قالتْ: أيُّهم؟ فهمُ كُثرُ

وهذا المؤمّل المحاربيّ (ت 190 هـ)، يقبل بقلب الحقائق وتبادل الأدوار، فيعتذر عندما تُخطئ الحبيبة ويعودها عندما يمرض هو:

إذا مرضنا أتيناكم نزوركمُ  ...   وتذنبون فنأتيكم فنعتذرُ

ويلخِّص لنا العباس بن الأحنف تجربته في العشق ويقدّمها نصيحة بالمجّان لكل من يريد الدخول في تجربة الحب، غير المأمونة المخاطر:

تحمّلْ عظيمَ الذنبِ ممَّن تحبُهُ   ...    وإنْ كنتَ مظلوماً فقلْ: أنا ظالمُ

ولكن قوة احتمال العباس بن الأحنف نفسه تتردّى بفعل ما يعانيه من مذلّة، فيتمنّى لو أنّه لم يُخلق بتاتاً، ولم يوجد الحبُّ مطلقاً:

أباحَ حمى قلبي الهوى فأذلَّهُ ...   ألا ليتَ لم أُخلَقْ ولمْ يُخلقِ الحبُّ

فالعربيّ تتنازعه عاطفتان قويتان: كرامتُه وحبُّه، وهما أحياناً على طرفَي نقيض، فالحبّ والذلّ صنوان، والهوى والهوان من أصل لغوي واحد، كما يخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:

نونُ الهوانِ من الهوى مسروقةٌ ...   فإذا هويتَ فقد لقيتَ هوانا

وقد أكَّد لنا أبو فراس الحمداني أنّ عذاب الصدّ والهجر يستنفد صبر الإنسان وينال من عزّة نفسه ويجرح كرامته، ويؤدّي، لا محالة، إلى شعوره بالذلّ والهوان:

وتهلكُ بينَ الهزلِ والجدِّ مهجةٌ  ...   إذا ما عداها البينُ عذّبها الهجرُ

فأيقنتُ أنْ لا عزَّ بعدي لعاشقٍ   ...   وأنَّ يدي مما علقتُ به صفـرُ

وقد تأكَّد للباحثين أن الهوى يجلب الذل والهوان للعاشق مهما كانت مكانته، كما هو واضح من بيتٍ من الشعر ينسبه بعضهم إلى راوية الشعر عبد الملك بن قريب الأصمعي (121 ـ 216 هـ) المتهم بتزيّده فيما يروي:

مساكينُ أهلُ العشقِ حتّى قبورهم  ...   عليها ترابُ الذلِّ بينَ المقابرِ

وعلى الرغم من خضوع العاشق ومذلّته، فإنّ دلال الحبيب وممانعته ورفضه قد تتحوّل في ظروف معينة إلى صدّ وهجر، ولا يبقى للعاشق سوى الشكوى، كما اشتكى البحتريّ:

لجَّ هذا الحبيبُ في هجرانِه  ...     ومضى والصدودُ أكبرُ شانِه

ويضيق الحبيب بصدود المحبوب، ويؤلمه الهجر، ويحرق كبده، ويسلب لبَّه، كما يؤكِّد لنا ذلك فتى مخزوم اللعوب عمر بن أبي ربيعة، مُردفاً تأكيده بالقَسَم بكتاب الله:

مَن رسولي إلى الثريا فإنّي   ...     ضقتُ ذرعاً بهجرها، والكتابِ

سلبتني مَجّاجةُ المسكِ عقلي  ...     فسلوها: ماذا أحلَّ اغتصابي؟

وعندما يشكو العاشق الصدّ والجفاء والهجران تأتيه النصيحة جاهزة من العشّاق المُجرِّبين:

إنْ شكوتَ الهوى فما أنتَ منّا  ...    احمل الصدّ والجفا، يا مُعَنَّى!

وينصحونه بالصبر على صدود الحبيب، ويمنّونه بالوصال بعد الهجر، فطباع الإنسان تتغيَّر بتغيُّر الظروف والأحوال:

واصبرْ على هجرِ الحبيبِ فربّما  ...     عادَ الوصالُ، وللهوى أخلاقُ

ويصبر العاشق المسكين، ويصبر حتّى ينفذ صبره، ويمضُّ في نفسه الشعور بالمذلّة، فيُصاب بالاكتئاب، ويودي سهد الليالي بصحته، فيلجأ إلى الطبيب، لعلّ الطبّ يفيده. ولكنّ الطبيب يؤكِّد له أنّ الحبّ داء لا ينفع معه دواء، كما حصل لعلي بن الجهم:

وقلتُ: أيا طبيبُ! الهجرُ دائي ... وقلبي، يا طبيبُ! هو الكئيبُ

فحرّك رأسَـــهُ عجباً لقولــي    ...  وقال: الحبُّ ليسَ لهُ طبيـبُ

وإذا كان الحبّ لا ينفع معه طبّ، فإنّه لا ينفع معه سحر كذلك. فلا توجد تميمة ولا رقية تقي من الحبّ، كما تقول الشاعرة الأندلسية الحسناء المترفة زينت بنت فروة المريّة  التي ولدت في أسرة عربية مترفة في مدينة المرية الإندلسية،  بعد أن وقعت في حبّ ابن عم لها يُقال له المغيرة:

ولو أنَّ أهلي يعلمونَ تميمةً   ...  من الحبّ تُشفي، قلَّدوني التمائما

إن العشّاق العرب يعرفون جيداً أنَّ الطبَّ لا يُجدي، وأنَّ دواء الحبِّ الوحيد هو الوصال، كما يقول ابن زيدون:

لو شئتِ ما عذّبتِ مهجةَ عاشقٍ ...    مُسـتعذِبٍ في حبّكِ التعـذيبا

ولزرتهِ بل عدتهِ، إنَّ الــهوى ...     مرضٌ يكونُ لهُ الوصالُ طبيبا

أشواق العشّاق:

تُعرِّف المعاجمُ العربيّة الشوقَ بأنّه تحرّك النفس ونزوعها إلى شيء أو أمر ما. ولكنّ العشّاق العرب، الذين كابدوا الأشواق، يصِفون الشوق لنا بشكل آخر. فهو، بالنسبة إليهم، ألمٌ ممضّ يعبث بالقلب ويبعث الدمع في الآماق، كما يقول ابن بقي الأندلسيّ (465 ـ 545 هـ) في أحد موشحاته الجميلة:

عبثَ الشوقُ بقلبي فاشتكى      ألمَ الوجدِ فلبّتْ أدمعي

ويصف بعضُهم الآخر الشوقَ بأنّه نار موقدة كحمم البركان تأتي على مهجة الإنسان، حتّى يكاد لهيبها يضيء الكون كلَّه، أو كما قال الشاعر العاشق العبّاس بن الأحنف:

لو لم يكُن قمرٌ إذا ما زرتكم       يهـدي إلى نهجِ الطريقِ الواضحِ

لتوقّدَ الشوقُ المُبرُّ بمهـجتي      حتّى تضيء الأرض بين جوانحي

ووصفه حدّاد يتعاطى الشِّعر لُقِّب بالأخفش الحدّاد بأنّه مطارق ثقيلة تهوى على سندان القلب فتسحق حشا الإنسان سحقاً بعد أن أحرقته نار الهوى وبَرَده مبرد الحبّ:

مطارق الشوق منها في الحشا أثرُ     يطرقن سندانَ قلبٍ حشوه الفكرُ

ونارُ كورِ الهوى في الجسم موقدةً     ومبردُ الحبِّ لا يُبقي ولا يذرُ

ويؤيِّد مغني وموسيقي المدينة طويس (ت 92 هـ) هذا الرأي في بيت كان  يردده كثيراً حتى لُقِّب بالذائب:

قد براني الشــوقُ حتّى         كدتُ من وجدي أذوبُ

وعجز العبّاس بن الأحنف ذات مرَّة عن وصف الشوق فشبَّهه بالعطش الذي يعانيه إنسان لا يصيب قطرة ماء تُشفي غليله، فقال:

وأشـتاقُ فلا يـعلمُ         إلا اللهُ مـا ألـقى

ألا مَن يرحمُ الظمآنَ     يَستسقي ولا يُسقى

مَن يعرف الشوق؟

قلنا إنّ المعجميّين العرب لم يعرّفوا لنا الشوق بصورة شافية، ولا يعرف حقيقة الشوق إلا من يكابده، كما يخبرنا شاعر غير معروف اسمه الأبله البغدادي ولكنه ترك لنا بيتاً مشهوراً:

لا يعرفُ الشوقَ إلا مَن يكابدُهُ     ولا الصبابةَ إلا مَن يعانيها

وينهانا المتنبّيّ عن عذل المشتاق ما لم نجرّب إحساسه بالحرقة ومعاناته وشعوره باللهب الذي يضطرم في أعماقه:

لا تعذلِ المشتاقَ في أشواقِهِ    حتّى يكونَ حشاكَ في أحشائِهِ

أسباب الشوق:

هنالك عوامل عديدة تؤجِّج الشوق في نفس العاشق، في مقدِّمتها فراق المحبوب والابتعاد عن دياره. فكلَّما اتسعت الشقَّة بينهما وطال الفراق، اضطرم الشوق وتطاير شرره. فالشاعر سحيم عبدُ بني الحسّاس يستغرب اشتعال الشوق في نفسه منذ الليلة الأولى من ليالي السفر، ويتساءل عمَّ سيصيبه من الشوق إذا مرت عشرة أيام على الفراق:

أشوقاً ولمّا يَمضِ لي غيرُ ليلةً  ...   فكيفَ إذا خبَّ المطيُّ بنا عشرا؟

أما أمير العشاق العذريين، مجنون ليلى، فإنّه لا يتصوَّر مرور عشرة أيام على فراق المحبوبة، ويحسب أنّ ثمانية أيام من الشوق كافية لذهاب عقله أو قتله:

أشوقاً ولمّا تمضِ لي غيرُ ليلةٍ    رويدَ الهوى حتّى يغبَّ ثمانيا؟

وعلى الرغم من أنَّ أغلبية العشّاق متفقين على أنَّ البُعد والفراق يضرمان نار الشوق، فإنّ بعضهم كان يظنّ ذلك؛ ولكنّه اكتشف أنَّه يشتاق إلى الحبيب كذلك حتّى إذا كان بالقرب منه:

لئن كُنتَ أخليتَ المكانَ الذي أرى  ...    فهيهاتِ أنْ يخلو مكانكَ مِن قلبي

وكنتُ أظنُّ الشــوقَ للبُعدِ وحدَه    ...     ولم أدرِ أنَّ الشوقَ للبُعدِ والقربِ

وهكذا اتضح له أنّ الشوق لا علاقة له بالبعد والفراق، لأنّ الشوق صنو الحبَ، فما دمتَ مُحباً فأنتَ مشوق، سواء اقتربت من المحبوب أم ابتعدت عنه، وسواء حضر المحبوب أم غاب، كما تأكَّد للشريف الرضي:

أشتاقُهم إنْ دنوا منّي وإنْ بعدوا  ...   وإنْ أقاموا وإنْ غابوا وإنْ حضروا

ويبالغ عاشق آخر هو ابن الرومي في أشواقه فيخبرنا أنّه يشتاق إلى الحبيبة حتّى إن كانت بين أحضانه وملك يديه، ويصل إلى نتيجة خطيرة مفادها أنّه لا نهاية لأشواقه ما لم تمتزج روحه بروح الحبيبة، كما تمتزج الخمرة بالماء، ويغدوان روحاً واحدة:

أعانقها والنفسُ بعدُ مشـوقةٌ  ...        إليها، وهلْ بعدَ العناقِ تدانِ؟

وألثمُ فاهاً كَيْ تزولَ صبابتي   ...       فيشتدُّ ما ألقى مِن الهـيمانِ

ولم يكُ مقدارُ الذي بي من الهوى ...     لتُشفيهِ ما ترشفُ الشفتانِ

كأنَّ فؤادي ليسَ يَشفي غليلهُ   ...     سوى أنْ يرى الروحَين يمتزجانِ

ويبدو أنَّ بعض الظواهر الطبيعيّة مِن آثار وأصوات وأنوار وغيرها قد تثير الشوق في نفس العاشق. ونستطيع تفسير علاقة هذه الظواهر بالحبّ أو المحبوب ولا نستطيع أن نجد صلة بين بعضها الآخر وبين الحب أو المحبوب. ومن هذه الظواهر رؤية ديار المحبوب أو أطلالها. فعندما وفد الصوفيّ الكبير أبو بكر الشبليّ إلى الكعبة المشرَّفة، ولاحت رسومها لناظريه، تأجج الحبّ الإلهي في قلبه وفاض شوقه شعراً:

قلتُ للقلبِ، إذ تراءى لعيني  ...   رسمُ دارٍ لهم، فهاج اشتتياقي:

هذه دارهُم وأنتَ محــبٌّ    ...     ما احتباسُ الدموعِ في الآماقِ؟!

ويضع لنا المغنيّ الشاعر العباسيّ، إسحاق الموصليّ، أستاذ الموسيقي زرياب، قاعدة مفادها إنّ القرب من ديار المحبوب يزيد الشوق ويؤجِّجه:

وكلّ مسـافرٍ يزدادُ شوقاً   ...  إذا دنتِ الديارُ مِن الديارِ

والوقوف على الأطلال، وتذكُّر الحبيب، ونثر الأشواق، وذرف الدموع كان تقليداً شِعريّاً مشهوراً حتّى قيل " أشهر مِن قِفا نبكي" أي مطلع مُعلَّقة الشاعر الجاهليّ امرئ القيس المشهورة. وهذا موضوع يستحقُّ بحثاً كاملاً، إلا أنّنا نكتفي بإيراد ثلاثة أبيات للشريف الرضي تصوِّر لنا كيف يهيّج مرأى الأطلال أشواقَ المحبّ وحنينه إلى المحبوب:

ولقد مررتُ على ديارِهم   ...    وطـلولُها بِـيدِ البِلى نهبُ

فوقفتُ حتّى ضجَّ من لَغبٍ ...    نِضوي، ولجَّ بعذليَ الركبُ

وتلفَّـتتْ عيني، فمُذْ خفيتْ ...    عنها الطلولُ تلفّتَ القلـبُ

ومما يشعل نارَ الشوق في قلب العاشق التحدُّثُ مع الآخرين عن الحبّ، وملاقاة غيره من العاشقين، كما يخبرنا بذلك عاشق محترف هو فتى مخزوم النرجسيّ عمر بن أبي ربيعة:

وذو الشوقِ القديمِ وإنْ تسلّى  ...   مشوقٌ حينَ يلقى العاشقينا

وإذا كانت الديار والأطلال والحديث عن الحبّ أموراً ذات علاقة مباشرة بالحبيب، تؤجِّج الشوق في نفس العاشق، فإنّ أموراً أخرى لا علاقة مباشرة لها به تفعل الفعل نفسه، منها هديل الحمام، إذ يفترض العربيّ أنّ الحمام هو الآخر عاشق مولّه ينوح على فراق حبيبه. فالشاعر البحرانيّ، مثلاً، يقول:

إذا غنّى الحَمامُ طربتُ شوقاً  ...  إليك، وكلُّ مشتاقٍ طروبُ

ونيران الشوق في قلب العاشق الولهان لا تحتاج إلى ريح لتتأجَّج، فقد تزداد اضطراماً لأوهى الأسباب، فتغريد حمامة، أو تألُّق نجمة، أو لمعان برق من جهة ديار الحبيب، أو أي شيء آخر مهما كان بعيد الصلة بالمحبوب يكفي لجعل العاشق يسهر الليل كلَّه نهباً للوساوس والفِكَر، كما يخبرنا علي بن إسماعيل بن القاسم بن محمد:

أكذا المشـتاق يـؤرّقهُ  ...   تغريد الوُرْق ويقلقُهُ

وإذا ما لاح على إضـمٍ  ...    بـرقٌ أشـجاه تألّقُه

يُخفي الأشواقَ ويُظهِرها ... دمعٌ في الخدِّ يرقرقُهُ

وعندما  يجتاح الشوقُ العاشقَ مثل إعصارٍ، يتمنَّى لقاء المحبوب في الحال. ولكنَّ بُعد الشقَّة يجعل الأمر عسيرَ التحقيق. فعندما برّح الشوقُ بالعباسَ بن الأحنف، تمنّى لو أنَّ طيراً من الطيور أعاره جناحه ليطير به إلى المحبوب، ولم يَدُر بخلده أنّ هذه الأمنية التي كان يشاركه فيها كثيرون، سيحقِّقها الإنسان في يوم من الأيام، وتقلّل من روعة بيته الشعري وأصالته:

أسربَ القطا، هل من يُعيرُ جناحَهُ؟   لعلّي إلى مَن قد هويتُ أطيرُ

فلم يكُن العربيّ آنذاك يملك في أسفاره سوى العيس، وهي إبل سريعة السير كانت تُستخدَم في الأسفار ونقل الأحمال. فكان العاشق المشتاق يُلهب أعناقها بالسياط وقلّما يتوقَّف في منازل الاستراحة لعلّه يصل إلى المحبوب بأسرع ما يمكن ، كما يخبرنا أبو نواس:

أما الديـار فقـلّما لـبثوا بـها        ...        بينَ اشتياقِ العيس والركبانِ

وضعوا سياطَ الشوقِ في أعناقِها ...       حتّى اطّـلعنَ على الأوطانِ

 

عذل المحبين ولومهم:

يتفق العشّاق العرب جميعهم على أن لا فائدة تُرجى من العذل، ولا نفع يُتوخى من اللوم، وذلك لعدة أسباب:

أولاً، لا فائدة في التحذير بعد أن يقع المحذور، أو بعد أن يهوى الفاس على الرأس، كما يقولون. ويلخّص النابغة الجعديّ هذه القاعدة لنا بقوله:

ألمْ تعلما أنّ الملامةَ نفعُها   ...    قليلٌ، إذا ما الشيءُ ولَّى فأدبرا؟

وثانيا، إنَّ الحبّ كالقَدَر، لا قُدرة للمُحبّ على ردّه أو اتقائه. ولو قُدّر لكَ الحبّ، لم تستطع أن تفعل شيئاً. ولهذا ينبغي أن لا تلوم العاشق، كما يقول أحمد شوقي:

يا لائمي في هواهُ ـ والهوى قَدَرٌـ  ...    لو شفّكَ الوجدُ، لم تعذلْ ولم تلُمِ

وثالثاً، إن العاشق لم يبتكر الحبَّ، ولا ذنبَ له في حبّه، فهذه سُنّةُ الحياة، ونحنّ جميعا مُعرّضون للحبّ بفضل العواطف والأحاسيس التي وهبها لنا الخالق، فلماذا نلوم غيرنا حين يعشق، كما يقول جميل بثينة مدافعاً عن نفسه:

فلا تكثروا لومي، فما أنا بالذي    سننتُ الهوى أو ذقتُهُ وحدي

ورابعاً، قبل أن تنحى باللوم على المحبِّ وتعذله على حبِّه، يجب أن تجرّب أنتَ الحبّ، وإلا فكيف تعذل إنساناً على أمْرٍ أنت تجهله ولا عِلم لك به، وهذا منطق عمر بن أبي ربيعة وحجاجه:

تلومُكَ في الهوى نُعْمُ  ...  وليس لها بهِ عِلمُ

ويؤيِّده في منطقه هذا شاعر فحل آخر هو بشار بن برد، ويزيد قائلاَ إنّه لو أُصيب العاذل بمرض الحبّ لما سمع عذل مَن عذل، حتّى لو كان العاذل أباه أو أمه:

يلومكَ في الحبِّ الخليُّ ولو غدا    ...    بداءِ الهوى، لم يرعَ أُمّا ولا أبا

وهذا المعنى نفسه ردده الصوفيّ عمر اليافيّ (1173 ـ 1233 هـ) بقوله:

يلومونَ في خلعِ العذار أخا الهوى ...   وما شربوا كأسي وقد جهلوا أمري

خامساً، إنّ العاشق لا يستطيع أن يُصغي لما يقوله له الآخرون بسبب ما أصابه من السقم والألم. وهذا فحوى السؤال الاستنكاريّ الذي وجهه الشاب الظريف:

كيفَ يُصغي لعاذل أو يميلُ  ..     مغرمٌ شفّهُ ضنىً ونحولُ؟

سادساً، إنّ اللوم قد يأتي بنتيجة عكسية، فقد يزيد العاشق تمادياً في غرامه، كما يحذِّرنا شاعر كان يتكسَّب بشعره، ابن حيوس (395 ـ 453 هـ):

واللومُ مثلُ الريحِ يذهبُ ضَلّةً  ...  ويزيدُ نيرانَ المُحبِّ تضرُّما

وسابعاً، إنّ كثيراً من المُحبِّين يجدون لذة في اللوم لأنّه يتضمّن ذكر المحبوب، ولا يأبهون بقصده، كما أوضح لنا شاعر كوفي اسمه أبو الشيص (130 ـ 196 هـ):

أجد الملامة في هواكَ لذيذةً     حبّاً لذِكركَ، فليلمني اللوّمُ

وثامناً، إنّ الحبّ كافٍ لإيلام العاشق، وليس من العدل أن نضيف إليه ألماً آخر يتمثل بلومه وعذله، وإنّما ينبغي أن نرفق به ونشفق عليه، كما يرى الشاعر الجاهلي عمرو بن صخر بن الشريد، أخو الشاعرة الخنساء التي رثته بعد موته في بكائيات كثيرة:

وعاذلةٍ هبّت بليلٍ تلومُني      ألا لا تلوميني، كفى اللومَ ما بيا

وللبحث صلة في الكتاب*

 

بقلم الدكتور علي القاسمي

.................................

* فصل من كتاب:

ـ علي القاسمي، مفاهيم الثقافة العربية (حائل: النادي الأدبي الثقافي بحائل، 2018)،  318 صفحة ، وهو طبعة ثانية مزيدة من كتاب:

ـ ــــــــ، مفاهيم العقل العربي  (الدار البيضاء: دار الثقافة، 2006).

والكتاب بأكمله متوافر في موقع (أصدقاء الدكتور علي القاسمي) على الشابكة.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم