صحيفة المثقف

حداثة السياب وسياب الحداثة

سعد جاسملقد مضى اكثر من نصف قرن من الزمن على رحيل الشاعر العراقي الكبير والمبدع الفذ (بدر شاكر السياب) الذي كان قد اختطفه القدر بالموت في قمة شبابه الزمني وابداعه الشعري، وذلك بعد معاناة طويلة مع المرض والفاقة والفقر. السياب الذي كان له قصب السبق في  تحديث الشعر العربي والبسالة  في ايقاد وحمل شعلة الحداثة في الشعرية العربية مع مجموعة من الشعراء العراقيين والعرب من أمثال:

نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري ومحمود البريكان وغيرهم من الشعراء .

ان السياب كان ومنذ حداثة عمره، قد تأثر بالشعراء القدامى  وذلك من خلال قراءاته العميقة لمعظم الشعر العربي في كل عصوره وازمنته وانماطه واشكاله المتعددة وكان قد تعمق بالقراءات الاسطورية والميثيولوجية والتوراتية والانجيلية والقرانية التي كان لها اثرها الكبير وتاثيرها العميق في بناء ثقافته الشاملة ووعيه الشعري المتوهج، ثم أولع بالثقافة الغربية وتأثر أشد الأثر باعمال وليام شكسبير الشعرية  والمسرحية

وحرص على قراءة اعمال اهم الشعراء الغربيين مثل: ت. أس . إليوت وكيتس ووردزورث وكولردج وغيرهم .وقد استفاد منهم واستثمر نتاجاتهم الابداعية المدهشة في تعزيز خبرته الشعرية والجمالية واثراء رؤيته الفكرية ولغته وصوره الشعرية . وويمكننا ان نشير الى مدى تاثره واستفادته من الشاعرة الانكليزية "إيدِث سِيتوِيل" التي كانت قد فتنته بقصايدها المتفردة وبنصوصها الثرية بالاستعارات والمجازات والإيقاع الشعري العالي .

وذلك من خلال تآلف الألفاظ وموسيقى الكلمات..

2136 بدر شاكر السيابوقد انعكس كل هذا في شعره الحديث شعر "التفعيلة" بتنويع طول الأبيات وقصرها أحياناً، مع محافظته على تفاعيل القصيدة الخليلية العربية . ولكنه لم يلتزم بشكل بيت الشعر العربي المعروف والموروث منذ قرون سالفة . وقد أبدع في ذلك،وتعلم التكرار، من قصائد "سِيتوِيل" كما يظهر هذا في معظم قصائده خاصة في "أنشودة المطر"  تكرار: مطر... مطر... مطر.. وكأنَّ كلمة مطر عنده هي رمزٌ للخصب وللمرأة وللوطن في آن معاً .

كان منتفضاً ضد الأنظمة الاستبدادية، وكان ينشد للثوار وهم يحتجُّون ضد الطغيان والظلم والجوع.

كانت قصائده تلحَّن وتغنَّى في السجون والمعتقلات، لتزرع الأمل والعزم والصلابة في نفوس المحتجين، من خلال قصائده

الخالدة: المومس العمياء وحفَّار القبور و"أنشودة المطر"

تميزت قصائد السياب بالخروج عن القصيدة التقليدية وبالحزن يسكنها، بسبب ظروفه الصعبة التي عاشها وبسبب

الداء العضال الذي أودى بحياته في سن مبكرة.

ومن أهم مميزات شعره:

أولاً: استخدام المجاز بكثرة، فهو يعرِّف الصورة الفنية بأنها صياغة جديدة تمليها موهبة المبدع وتجربته، وفق تعادلية فنية بين طرفين هما: المجاز والحقيقة"

ثانياً: توظيف الأسطورة، ويعتبر السياب من أهم الشعراء الذين جعلوا الأسطورة رموزاً  في اشعارهم، أخذ هذه الرموز من حضاراتٍ مختلفة كالبابلية والرومانية والأشورية واليونانية والفرعونية، وقد رصَّعت قصائده الرموز فزادتها جمالاً على جمال..

شعر السياب ثريٌّ بالإيحاءات والدلالات،وكتاباته مشحونة يالعاطفة الجياشة والثورة والشجن،   وقد ساعدته ثقافته الواسعة أن يجسِّد في شعره معاناته الجسدية والنفسية خير تجسيد.

تعدَّدت موضوعاته الشعرية، وفاحت منها رائحة الموت والمنيَّة، والحزن والغربة ومن أهم تلك الموضوعات:

ثالثاً: الحب والفقد: وقد كان فقده لأمه فقداً لأقوى حبٍّ في الوجود وهو القائل: " أماهُ ليتك لم تغيبي خلف سورٍ من الحجارة"

رابعاً: الغزل:  وجد السياب في حبه للمرأة تعويضاً عن حبِّ الأم المفقود وهو في الرابعة من عمره، دمامته جعلت معظم النساء اللواتي أحببنه يتركنه، لكن َّ الخيبات العاطفية التي لاحقته في حياته،  كانت إلهاماً فجر شاعريته ورصَّع قصائده بالألق. 

خامساً: الشعر الوطني:  كان ثائراً في وجه الظلم والاستبداد فأحس بالغربة وهو يعيش في وطنه العراق، ونظم قصائد

للقضية الفلسطينية وحيَّا نضال التونسيين والجزائريينوالمصريين ضدالاستعماروالطغيان.

تكرر ذكر الموت في قصائد السياب وطغى على كل ماعداه من أشعار، فهو مثلاً يقول:

(أهكذا السنون تذهب

أهكذا الحياة تنضب؟

أحسُّ أنني أذوب... أتعبْ

أموت كالشجرْ

ياايها الاله

أريد ان نموت)

وفي البدء والخاتمة، فان السياب والحداثة كانا صنوين وكذلك تؤامين متداخلين حد التوحد والتماهي بما لايقبل الانفصال والاختلاف على هذه الحقيقة  مطلقا . ولايخفى علينا فقد تفوق السياب على ذاته واصبح: شاعرا نسيج نفسه، والراءد الحقيقي لحركة الحداثة الشعرية العربية،

حداثته لم تأتِ بمحض مصادفة أو مجرد نزوة من نزواتْ حب الاختلاف والاستعراض والادعاءات الفارغة، لا بل انها كانت نتيجة مخاض عسير ومعاناة حياتية في غاية القسوة والالم والفجيعة.

 

سعد جاسم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم