صحيفة المثقف

ساطع الحصري وفلسفة الفكرة القومية العربية (4-4)

ميثم الجنابي"أنا عربي صميم. أؤمن بدين العروبة بكل جوانحي،

وأهتم بمصر بقدر ما أهتم بسوريا والعراق" (الحصري)


 فلسفة الوحدة والعروبة

لقد أراد الحصري إبراز وتأسيس أهمية الموقف من الفكرة العربية القومية عبر رفعها إلى مصاف المرجعية النظرية والعملية. من هنا تدقيقه للكلمة والعبارة لأنها تعكس بقدر واحد منهج الرؤية ومنطق الاحتمالات الكامنة فيها. لهذا نراه يقف بالضد من عبارة وفكرة "الشرق الأوسط" وأمثالها. وطالب بترك فكرة "الشرق الأوسط" والتمسك بفكرة "العالم العربي"[1]. وكتب بهذا الصدد يقول:إننا لا نعترف بوجود "الشرق الأوسط" إنما نقول بوجود العالم العربي. وندرس هذا العالم. أما ما يسمونه إستراتيجية الشرق الأوسط فما هو في نظرنا إلا إستراتيجية الدول الغربية في البلاد التي أطلقوا عليها اسم الشرق الأوسط[2]. وتوسع في هذه الفكرة في كتابه (دفاعا عن العروبة). ففي معرض نقده وتعليقه على فكرة محمد أنيس التي وضعها في كتابه (القومية العربية) نراه يشدد على أنه لا معنى لتقسيم العالم العربي إلى أقسام مثل مشرق ومغرب وحوض النيل. وذلك لأن "العالم العربي هو عالم واحد"[3]. وضمن هذا السياق سار في تدقيق هذه المفاهيم وذلك لما فيها من أبعاد مهمة بل وجوهرية بالنسبة للفكرة القومية. لهذا نراه يقف أيضا بالضد من فكرة "ثقافة حوض البحر المتوسط". واعتبرها فكرة أول من أطلقها الفرنسيون. بينما لا يمكن للثقافة أن تكون من حيث الجوهر إلا ثقافة قومية. أما الحضارة فيمكنها أن تكون جامعة للأمم[4].

وضمن هذا السياق حدد موقفه وفكرته من "الوحدة الإسلامية". إذ اعتبرها فكرة طوباوية. ولم يجد في صيغتها التاريخية الأولى نموذجا قابلا للتجسيد في العالم المعاصر. والقضية ليست فقط في كون الوحدة السياسية التي وجدت في صدر الإسلام لم تقو على تقلبات الأيام مدة طويلة، بل ولأنها لم تتحقق آنذاك رغم بساطة وسذاجة الحياة. أما في العالم المعاصر، فإن الحياة أشد تعقيدا، كما أن العلوم والصناعات خرجت من سيطرة التقاليد[5]. وبالتالي، فإن الدعوة للوحدة الإسلامية (بالضد من الوحدة العربية) ما هي إلا "دعوة شعوبية أو انخداع السذج بتصديق كل ما يقدم لها مقرونا بالدين"[6]. وبالحصيلة توصل الحصري إلى أن الوحدة الإسلامية مستحيلة دون الوحدة العربية. بينما الوحدة العربية ممكنة وضرورية. وبالتالي، فإن "من يعارض الوحدة العربية يكون قد عارض الوحدة الإسلامية أيضا. أما من عارض الوحدة العربية باسم الوحدة الإسلامية أو بحجة الوحدة الإسلامية، فيكون قد خالف ابسط مقتضيات العقل والمنطق"[7].

لم ينف الحصري قيمة وأهمية الرابطة الإسلامية، على العكس. لهذا نراه يقدّمها ويفضّلها على نماذج "الوحدة الجغرافية" مثل الوحدة الإفريقية أو الآسيوية أو غيرها وذلك لافتقادها إلى أسس ذاتية. لهذا نراه يعتبر الرابطة الإسلامية أهم وأقوى من الإفريقية ومن رابطة البحر المتوسط. إلا أن تجربة العرب والفرس والأتراك (الشعوب الإسلامية الكبيرة) تكشف عن أن الدين لم يمنع الحروب والخصومات بينها. كما أن اختلاف الأديان أحيانا لم يمنع توحد الدول. إضافة لذلك أن الاختلافات الثقافية والسياسية بين الدول الإسلامية مازالت قائمة رغم اشتراكها التاريخي الموحد الكبير. من هنا تدقيق الحصري لمفاهيم "الأخوة الإسلامية" و"الاتحاد الإسلامي" و"السياسة الإسلامية" وضرورة التفريق بينها[8]. إلا أن الحصيلة النظرية الدقيقة لكل ذلك تبرهن على أن الرابطة الوطنية والقومية تشرك الجميع أكثر من الروابط الدينية. من هنا ضرورة تقدمها على الرابطة الدينية في الشئون السياسية[9]. إذ ليس جميع المصريين مسلمين وكذلك في لبنان.

لقد سعى الحصري للكشف والبرهنة على أن حقيقة الوحدة العربية تستمد مقوماتها من الفكرة القومية (العربية) كما هي. ذلك يعني أنها تعتمد على عقل الثقافة ومنطق التاريخ المعاصر أيضا. من هنا انتقاده التاريخي والمنطقي للاتهامات التي ترتقي إلى مصاف الشائعات عما يسمى بتصنيع الانجليز للفكرة القومية العربية. وفي معرض رده على هذه الأفكار (الاتهامات) كتب يقول، بأن مما لا ينكر هو مسايرة الانجليز "للحركة العربية أكثر من سائر الدول... إنهم عرفوا القوة الكامنة في الفكرة العربية قبل غيرهم. فرأوا أن يسايروها بعض المسايرة ليدفعوا ضررها منهم ويجعلوها أكثر ملائمة لمصالحهم"[10]. والسبب يكمن في أن السياسة الانجليزية سياسة عملية. فالوقائع التاريخية تكشف عن أن بريطانيا هي التي خلّصت الدولة العثمانية (صاحبة الخلافة الإسلامية آنذاك) من استيلاء الروس عليها عدة مرات. كما أنها أوقفت الجيوش المصرية في قلب الأناضول، وحالت دون اتحاد مصر مع سورية في عهد محمد علي الكبير[11]. ووضع كل ذلك في استنتاجه القائل، بأن "كل من يفهم فكرة الوحدة العربية بأنها وسيلة أجنبية يكون قد قال بخدعة ليس وراءها خدعة"[12]. وذلك لأن السياسة الأوربية تجاه العالم العربي كانت تجري لصالح الدولة العثمانية. فقد كانت تتسم بحمية السرقة والغيلة. والسبب يكمن في خضوع العالم العربي للدولة العثمانية آنذاك. بل ويصل الحصري في مجرى تقديمه وتحليله لعدد كبير من الوثائق الرسمية إلى "أن أساس اقتسام البلاد العربية كانت قد تقرر قبل الحرب العالمية الأولى، وبعلم من الحكومة العثمانية نفسها"[13].

ووضع الحصري حصيلة هذا التحليل والتدقيق والنقد المنطقي والتاريخي في استنتاج نظري مهم يقول، بأن "فكرة الوحدة العربية فكرة طبيعية، لم يوجدها موجد. إنها نتيجة طبيعية لوجود الأمة العربية نفسها". وأنها في الوقت نفسه "قوة اجتماعية تستمد نشاطها من حياة اللغة العربية وتاريخ الأمة العربية، واتصال (جغرافيا) البلاد العربية". ومن ثم فلا يستطيع أحد أن يدعي أن فكرة الوحدة العربية صناعة انجليزية إلا إذا برهن على إنهم من خلقوا اللغة العربية وأوجدوا التاريخ العربي وكوّنوا الجغرافية العربية"[14].

ووضع هذه الحصيلة في مقدمة مواقفه العملية من فكرة الرابطة العربية والوحدة العربية. فعندما تناول هذه القضية على مثال الحالة المصرية بوصفها الصيغة الأكثر إشكالية آنذاك من الناحية الثقافية والسياسية، نراه ينطلق من الحقيقة القائلة، بأن أهل مصر عرب من حيث اللغة. وهي أمتن وأقوى رابطة للمصريين. أما الحقيقة الأخرى التي تستكمل ما سبقها فتقوم في كون حدود اللغة العربية أوسع بكثير من حدود الدولة المصرية الحالية. إضافة لذلك أن العالم العربي متصل جغرافيا. ومصر في القلب منه. لهذا ينبغي أن تعمل من اجل توحيده. ذلك يعني أن مصر عربية. ومن ثم فإن مستقبلها مرتبط بمستقبل العروبة وثيق الارتباط.

ووضع حصيلة هذه الصيغة المنطقية في أساس مواقفه العملية السياسية من أولوية العروبة على القطرية أو الوطنية الجزئية. وأقرّ بوجود قضايا إقليمية ومحلية تخص كل دولة عربية. لكن الواقع يكشف عن انه أحيانا ينبغي التضحية بمصلحة مدينة لصالح البلد. وفي النهاية يعود بالنفع على الجميع. ونفس هذا المنطق ينبغي تطبيقه تجاه العروبة. ذلك يعني، أن السياسة العليا في مصر وغيرها ينبغي أن تبنى على أساس العروبة أولا[15].

إن أولوية الفكرة القومية والوحدة العربية والعروبة لا تتعارض مع واقع الدولة القطرية الحالية. إلا أن المهمة والغاية تقوم في رفع الوطنية إلى مصاف القومية الفعلية، ورفع القطرية إلى مصاف الوحدة الحقيقية. ومن ثم النظر إلى كل ما يعترض ذلك على أنها عوائق ومن ثم مهمات قابلة للحل والتذليل. واعتبر الحصري التفاوت الاقتصادي وليس الثقافي أو حتى الجغرافي أهم ما يعيق الوحدة العربية[16]. لهذا نرى الحصري يعتبر الدعوة للوحدة العربية مهمة ينبغي أن تصبح جزءا من العقيدة الروحية، وأن تتحول إلى مبدأ ثابت دائم، وكذلك العمل الدائم من اجلها. واعتبر الوحدة العربية "ضرورية" لحفظ كيان الشعوب العربية. وأنها "طبيعية" بالنسبة إلى حياة الأمة العربية وتاريخها الطويل. فلا شك أبدا في أنها ستتحقق يوما من الأيام، إن عاجلا أو آجلا[17]. وبالمقابل اعتبر الحدود بين الدول العربية بمثابة حدود "الحبس الانفرادي" و"الإقامة الجبرية" التي جرى فرضها على العرب في ظرف تاريخي طارئ[18]. وضمن هذا السياق يمكن تحسس وفهم نقده اللاذع والعميق تجاه تجربة "جامعة الدول العربية" في مرحلتها التأسيسية. إذ نراه ينتقد الأثر الذي تركته وتتركه البنية التقليدية على حياة وعمل جامعة الدول العربية كما هو الحال في مجرى تتبعه لأثر الخلافات التي استجدت بين السياسة الهاشمية والسعودية على بلبلة الأمور في جامعة الدول العربية[19].

إلا أن الصيغة الأكثر عمقا للخلل القائم في عمل جامعة الدول العربية نراها على مثال نقده لآراء عبد الرحمن عزام (أول رئيس لجامعة الدول العربية) الذي حاول تبرير فشل عملها عندما قال، بأن "الأمانة العامة للجامعة ما هي إلا مرآة الدول العربية. وفيها تنعكس أحوال البلاد العربية". وقد وجد الحصري في هذه الفكرة تبريرا سيئا لما جرى وما آلت إليه من نتائج. إذ اعتبر تشبيه الأمانة العامة بالمرآة بحد ذاته دليل على عدم إدراك خطورة مهمتها حق التقدير. فقد استلم عبد الرحمن عزام رئاسة الجامعة وهي لوحة ملساء، وأرض فضاء وكان بإمكانه رسم ما يريد. بينما أدت أعماله إلى تأسيس إدارة من أسوء الإدارات. إضافة لذلك أن جهوده تركزت على المسائل السياسية وحدها وأهمل الاقتصاد والقانون والثقافة. وأخيرا، أنه فهم السياسة على أنها خطب ولقاءات مرتجلة وليس علما يحتاج إلى بحث واستقصاء وتحليل واعتماد على وثائق، كما يقول الحصري[20].

ولم يقف الحصري عند حدود أو تخوم السياسة الفعلية والكفاءة الشخصية للنخب السياسية والحالة الواقعية للدول العربية آنذاك في مواقفها من الفكرة القومية ومبدأ العروبة، بل وحاول تجاوزها إلى المدى الفردي والاجتماعي للعالم العربي، أي إلى القوى الأكثر ديناميكية ومستقبلية. ومن الممكن العثور على ذلك في محاولاته إرجاع إشكالية الفكرة القومية العربية ومبدأ العروبة إلى قاع الضمير والوعي الفردي والاجتماعي. لهذا نراه يضعها على محك الاختبار العملي للأفراد والجماعات عبر إبراز طبيعتها الفعلية وكيفية حلها، كما هو جلي في إبراز الطابع المتناقض في قضية علاقة العربي بالعروبة، أي علاقته بفكرته القومية. فقد وجد فيها شيئا اقرب ما يكون إلى مفارقة غريبة، لكنها تحمل سمات الماضي، أي لها تاريخها الخاص. وحدد معالم هذه الظاهرة المفارقة في ما اسماه بمشكلة القومية عند العرب. بمعنى ضعفها أو فقدانها رغم تاريخهم العريق وكينونتهم الذاتية القوية. وصوّر هذه القضية المفارقة أو المشكلة القومية في حالة وجود عروبة عند العرب ولكنها إما جهالة (مجهولة وغير مدركة) وإما غافلة وإما فانية. من هنا استنتاجه القائل، بأنه "ليس بعربي من لا يريد أن يكون عربيا وما دام لا يعترف بعروبته أو يأنف منها"[21].

ذلك يعني، أن الحصري أراد أن يجعل من الانتماء القومي فعلا لا إلزام فيه لغير الاختيار الشخصي بوصفه اختبارا واعيا مبنيا على أساس اللغة والتاريخ، أي على أساس العناصر الثقافية الخالصة في وجود الأمم. من هنا محاولاته الحثيثة لنقد الحالة الفعلية للمشكلة القومية على مستوى الوعي الفردي والاجتماعي. وضمن هذا السياق يمكن فهم تشديده الخاص على ثنائية الخلاف المثيرة بين الخصال الفردية والاجتماعية عند العرب. إذ اعتبر العرب أقوياء من حيث الخصال الفردية، ضعفاء من حيث الخصال الاجتماعية[22]. ولا يعني تشديده على طبيعة الخلاف بينهما سوى محاولة تذليله. من هنا مطالبته بتدريس التاريخ العربي بالشكل الذي يحرره من اعتبارات الدين والدعاية، ويوظفه للمصلحة القومية فقط[23].

إننا نقف هنا أمام دورة جديدة للمفاهيم والقيم مهمتها تأسيس منظومة للرؤية القومية تجعل من العروبة مبدأها وغايتها، ومن اللغة العربية والتاريخ الذاتي عناصرها الجوهرية. وتنفيذ ذلك عبر تحقيقها في برامج التربية والتعليم وغرسها في الوعي والضمير. الأمر الذي جعل من تنظيره بهذا الصدد الصيغة الأولية للفكرة القومية الثقافية، وذلك لأنها سعت لتحقيق ما تصبو إليه عبر الفكرة التربوية. وهذا بدوره كان يحتوي على ما يمكن دعوته بالتنوير المنظومي الأول في تاريخ الفكرة القومية العربية من خلال إعلاء أولوية وجوهرية العلم في تأسيسها النظري وتطبيقها العملي.(انتهى).

 

ا. د. ميثم الجنابي

..............................

[1] ساطع الحصري: حول القومية العربية. بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، 1985، ص8.

[2] ساطع الحصري: حول القومية العربية. ص55.

[3] ساطع الحصري: حول القومية العربية. ص 10-120.

[4] ساطع الحصري: حول الوحدة الثقافية العربية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، 1985ص71-78.

[5] ساطع الحصري: آراء وأحاديث في الوطنية والقومية، ص 102-103.

[6] ساطع الحصري: آراء وأحاديث في الوطنية والقومية، ص104.

[7] ساطع الحصري: آراء وأحاديث في الوطنية والقومية، ص100.

[8] ساطع الحصري: العروبة أولا!، ص108.

[9] ساطع الحصري: العروبة أولا!، ص100.

[10] ساطع الحصري: آراء وأحاديث في الوطنية والقومية، ص105.

[11] ساطع الحصري: آراء وأحاديث في الوطنية والقومية، ص106.

[12] ساطع الحصري: آراء وأحاديث في الوطنية والقومية، ص106.

[13] ساطع الحصري: البلاد العربية والدولة العثمانية، ،ص227.

[14] ساطع الحصري: آراء وأحاديث في الوطنية والقومية، ص106.

[15] ساطع الحصري: العروبة أولا!، ص111.

[16] ساطع الحصري: حول القومية العربية. ص39-47.

[17] ساطع الحصري: حول الوحدة الثقافية العربية، ص67.

[18] ساطع الحصري: العروبة أولا!، ص7.

[19] ساطع الحصري: العروبة أولا!، ص51.

[20] ساطع الحصري: العروبة أولا!، ص69-73.

[21] ساطع الحصري: حول القومية العربية. ص77.

[22] ساطع الحصري: حول القومية العربية. ص86.

[23] ساطع الحصري: حول القومية العربية. ص88.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم