صحيفة المثقف

الومْضةُ الشّعْريَّة بين تقنيتي: التَّساؤل والتَّعليل

وليد العرفي شعر: قصي عسكر أنموذجاً

تُحيلنا ومضات الشاعر قصي عسكر على إعادة طرح التساؤل عن العلاقة بين الشعر والفلسفة من جهة، والبلاغة واللغة من جهة أخرى، وأيهما يمنح الآخر جماليته التي تمتلك المشاعر وتستلب الأفئدة، إنها طبيعة الكتابة التي تعني فيما تعنيه لعبة التفنن بالجمال، ومحاولة الإغواء بمكنونات المعنى، وما فيه من اجتراحات تؤدي فيه التراكيب دورها في تحقيق عنصر الإدهاش والمفاجأة، يبدو السؤال مفتاح العلاقة بين الشعر والمعرفة ؛ فبالسؤال تُبنى أولى لبنات المعرفة، وتؤسّس عليه معمارية المبنى الفنّي للقصيدة، وأقول القصيدة بمعزل عمَّا قرَّ عليه النقد في تحديد الكم لتصنيف النص الشعري؛، فالقصيدة من وجهة نظر جمالية هي القدرة على إحداث عنصري الإمتاع والإدهاش بعيداً عن الكم، ولعلَّ قول القدماء بيت القصيد، وهذا أجمل بيت قيل في الغزل أو الرثاء إنما يأتي في هذا السياق، ووفق هذا الاتجاه أرى أن الشعر العربي لم يكن غافلاً عن طرح تلك العلاقة بين الشعر بوصفه فنَّاً جماليَّاً والفلسفة بكونها علماً معرفيَّاً كاشفاً، ومفتاح تلك العلاقة يتجسّد بالتساؤل الذي يفتح مغاليق الرؤى، ويكشف عن مُضمرات المسكوت عنه في الوعي.

إنَّ التساؤل يعني اكتشاف المُضمر، وهو غالباً ما يكون تساؤل العارف الخبير، لا المستفهم المنتظر للجواب، ألم يقل الشاعر عنترة :

هل غادر الشعراء من متردم           أم هل عرفت الدار بعد توهم ؟

إن طبيعة التساؤل في هذه المطلع الطللي ليست استفسارية، إنما هي ذات طبيعة إخبارية عارفة، ويبدو لنا الشاعر قصي عسكر وفق هذه الرؤيا عارفاً بالجواب في تساؤلاته التي يطرحها في تساؤلاته لا أسئلته : "هل أكتب آخر أنفاس الماء؟ "

تساؤل ينفتح على تأويل مخيلة القارىء، بما تُشير إليه دلالة الماء في الذهن، بوصف الماء أساس الخلق، وعنصر الحياة، وما أسطورة البحث عن ماء الخلود هنا بعيدة عن مخيلة المتلقي، وقد جاءت وفق تركيب إضافي مع لفظ أنفاس بصيغة الجمع ما يعني أن الماء هنا يحمل رمزية مادية واقعية، وأخرى أسطورية، وبتحليل فيزيائي؛ فإن الماء يتكوَّن من الهيدروجين والأوكسجين، وهذا الاتحاد بين المكونين، إنما يعكس طبيعة الحياة التي ترمز إليها لفظة الماء: " وجعلنا من الماء كل شيء حي "

" هل من قبرٍ لا يرغب في جثّةْ"؟

يبدو التساؤل هنا عنصراً من عناصر البناء الفني الذي عمد إلى أنسنة الجماد، وأسبغ على غير العاقل صفات العقل والإرادة والاشتهاء، وهذا التزامن الحسي بين الحواس جعل منها تقنية أسلوبية تقوم على الدهشة ومقاربة المشاعر الخافية، مثلما تتغلغل اللاوعي؛ لتنسكب في مساحات من التفكير الخلاق، ووفق هذه الرؤيا تتلاحق الأسئلة التي أشبه ما تكون بجمرات يقبض عليها الشاعر: قصي عسكر عبر تواتر يُوازن بين المُتضادات، وجمع غير المعقول بالمعقول، وغير الممكن بالممكن، إنها اللغة المتخلّقة التي تُولّد لغة من لغة، وكأننا أمام حروف غير الحروف التي نعرف، وكلمات غير الكلمات التي نألف، ومردُّ كل ذلك إلى قدرة الشاعر عسكر التي تعتصر الفكرة في قالب من  التشكيل القائم على الاختزال والاختصار والتكثيف والعمق في الآن نفسه: " هل تأمن لو ثانيةً أن ترقد في قبر مفتوحْ

أتُرى تأمن أن تجعل رأسك في فمِ تمساح مفتوح؟"

إنها تساؤلات أحادية الطرح، وهي لا تتوقع أكثر من رأي، ولا يُمكن أن تحتمل أكثر من إجابة. أما التقنية الثانية التي لجأ إليها الشاعر عسكر؛ فهي التعليل وتقوم على طرح الفكرة معللة بأسبابها: " أن تُلقي حجراً في الماء الراكد

ذلك يعني تمنح للطير جناحاً آخر

هنا يعمد الشاعر إلى التفسير والتعليل؛ فإلقاء الحجر يرمز إلى رغبة الشاعر في فتح آفاق جديدة من المعرفة، وخرق فضاءات مجهولة بهدف الكشف عما هو خفي، وبهذه الأبعاد الجمالية يبدو لنا الشاعر قصي عسكر قابضاً على جمرة الشعر، وهو يصوغ لغته بكل أناقة ورهافة حسٍّ، وشاعريَّة .

 

د. وليد العرفي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم