صحيفة المثقف

خطيبتي وصديقي وسائق الشاحنة

جمال ابو زيدكانت سعادتي تقترب من ذروتها. اتفقتُ مع خطيبتي على تحديد يوم الزفاف الذي سيكون مسك النهاية لخطبة امتدّت ستة أشهر، ومسك البداية لحياة زوجية كانت كل الدلائل تشير إلى أنها ستكون سعيدة. وكنتُ قد قدّمتُ لها سيارة مرسيدس رباعية الدفع هديّةً يوم خطبتنا جعلتها تشهق من المفاجأة والإعجاب.

وعرض عليّ صديقي وجاري، ويدعى هيثم، أن يقلّني بسيارته إلى منطقة المتاجر الفاخرة قبل يوم الزفاف بأسبوعين، في العاشرة صباحاً، لاختيار بدلة الزفاف التي سأرتديها، وذلك لإتاحة الوقت الكافي لي للانتقال من متجر إلى آخر، دون حاجة إلى استخدام سيارتي، والبحث عن مكان أركنها فيه في المنطقة المخصصة لذلك والمحاذية لمنطقة المتاجر. وأخبرني أن في ميسوري الاتصال به حين أنتهي ليأتي ويقلّني بسيارته إلى البيت.

كان هيثم جاراً وصديقاً قديماً منذ أيام الدراسة الأولى في المرحلة الابتدائية. ورغم افتراقنا دراسيّاً بعدها في المرحلتين الإعدادية والثانوية، إلا أننا بقينا على اتصال دائم وزيارات متبادلة طوال السنين اللاحقة.

والغريب أن صداقتنا بقيت قوية الأواصر رغم اتباعنا طريقين مختلفين أشدّ الاختلاف على الصعيد السياسي، فقد انتسب إلى الحزب السياسي الحاكم وأخلص له وارتقى سلّمَ المناصب فيه، فيما كنتُ من مناوئي الحزب ولم أكفّ عن انتقاده حيثما حللت، وهو انتقاد كان مبنيّاً على عشرات، إن لم أقل مئات، الشواهد والأدلّة على الفساد والمحسوبية والتزوير والتضليل التي كانت تنخر بنية الحزب والبلاد بلا هوادة.

ولم يلبث أن أصبح رئيس فرع الأمن السياسي في مدينتنا، وبدأ يخبرني عن تقارير المخبرين عنّي والتي كانت تتكدّس على مكتبه كلّما فتحتُ فمي للانتقاد. وأعترف بأن صداقتنا أفادتني، إذ فتحتْ عينيَّ على حقيقة مؤلمة هي أن بعض تلك التقارير كتبها أناسٌ كنتُ أظنّهم من أعزّ أصدقائي. وفي إحدى المرّات أخبرني أن السلطات العليا في هرم الحزب الحاكم وبّخَتْهُ لأنه ترك لي الحبل على الغارب ولم يعتقلني، فطلب إمهاله بعض الوقت ليحاول معالجة الأمر معي، ريثما يتسنى له إقناعي بالتوقف عن هجومي الدونكيشوتي عليها، وإن لم أصمت فسوف يصمتني ودّيّاً دون حاجةٍ إلى اعتقالي وصبّ الزيت على النار. وطلب مني أن أتوقف عن تصريحاتي المؤذية عدة أشهر على الأقلّ منعاً لإحراجه شخصيّاً في هذا الصدد. وحين حضر حفلة خطوبتي قال لي مازحاً: "نأمل أن يعطينا زواجك منها وحرصك عليها هدنةً دائمة من انتقاداتك"، فأجبتُه مازحاً أيضاً: "أخشى أن يترتّب عليكم بعد زواجي منها إسكات صوتين لا صوت واحد".

لنعد الآن إلى قصتنا.

في اليوم الموعود حضر هيثم في العاشرة صباحاً كما اتفقنا، وأقلني بسيارته إلى المنطقة المعنيّة. وحين مضى بسيارته، كان عليّ انتظار إشارة المرور الخضراء لعبور الشارع إلى أول متجر.

وبينما كنت على ممر المشاة إذ بشاحنة مسرعة تتجاهل إشارة المرور الحمراء، التي تلزمها بالتوقف، وتصدمني بعنف. حسب تقارير الشرطة لم يستخدم السائق مكابح الشاحنة، ولم يحاول تخفيف سرعة هذا الوحش المعدني الضاري المتوجه نحوي باندفاع مفترس. وحسب إفادة شهود عيان للشرطة التي تولت التحقيق، طرتُ في الهواء، ووقعتُ على مبعدة عدة أمتار من الشاحنة فاقد الحراك مضرجاً بالدم. قال لي الطبيب، الذي أشرف على علاجي في المستشفى حين عدتُ إلى وعيي، بعد عدة عمليات جراحية، لجَبْرِ ثلاثة كسور في الفخذ الأيمن، وكسور في الفكَّيْنِ، العُلوي والسُّفلي:

- أنت محظوظ فعلاً لأن عنقك لم يُدقّ من شدّة وطأة الضربة.

أورثني الحادث عَرَجاً في الرجل اليمنى، وتشوّهاً ونتوءاً في الوجه بسبب كسور الفكَّيْن أثّرا على طريقة نطقي، وطريقة تناولي الطّعام، مما حطّم قلبي وأثَّر في نفسيتي أيَّمَا تأثيرٍ، كما بدّل ذلك الحادث اللعين مجرى حياتي، إذ تخلّتْ عني خطيبتي، قائلة بكلّ صفاقة إن ما أصابني من تشوّه جعلها تحسّ أنني شخص آخر غير الذي أحبّتْهُ، وكنتُ أظنّ أنها ستقف إلى جانبي في محنتي مهما حدث. غير أنني أعترف بأنها كانت أمينة على الأقل، بغضّ النظر عن موقفها معي، فقد أعادت لي، وأنا في المستشفى، سيارة المرسيدس التي قدَّمتُها لها هديةً يوم خطبتنا مع جميع الوثائق التي تعيدها إلى ملكيتي، فضلا عن باقي الهدايا القيمة التي قدمتها لها أثناء الخطبة.

أحسستُ بالرِّضى حين أدانَ القاضي في المحكمة السائق وحكم عليه بالسجن سبع سنوات، وفرض عليه أن يدفع لي غرامة باهظة فعلاً كنوع من التعويض المالي للأضرار الجسديّة والنفسيّة والعاطفيّة التي لحقت بي جرّاء الحادث، وكان أكثرها إيلاماً أنني خسرتُ خطيبتي. رفضتُ قبول التعويض المالي، وشرحتُ للقاضي أنني لست بحاجة إلى المال ولا أريده، فتدمير سائق الشاحنة مادّيّاً لا يعنيني في شيء إذ لن يعيدني إلى سابق عهدي ولن يعيد خطيبتي إليّ. كلّ ما أردته من الدعوى هو أن يقبع هذا الأرعن خلف القضبان جزاءَ ما اقترَفَه بحقي، ليكون عبرة لكل سائق آخر تدفعه إلى فتح عينيه على اتساعهما قبل أن يُسْلِمَ العنان لرعونته ويقضي على أي عابر سبيل جسديًّا أو روحيًّا، كما حدث معي. وما لم أقله للقاضي، هو أن التعويض المالي لم يخطر على بالي حين أقمتُ الدّعوى على السائق، وقد تنازلتُ عن حقي المالي بكل أريحيةٍ، في هذا الشأن، حتى لا تنطفىء جذوة الانتقام في نفسي ولا تأخذني به رأفة أو رحمة يوماً ما. حدثتُ نفسي: مكوث السائق في السجن هذه المدة سيمنحني الفرصة الكافية كي أقرر طريقة الانتقام منه.

وطبعًا لم يدر في خلده، وهو يقضي مدة العقوبة في السجن ويحصيها باليوم والساعة حتى إطلاق سراحه، أن العقوبة الحقيقية تنتظره في الخارج وأنه سيدفع ثمن تهوره باهظاً. فليهنأ ذلك الأحمق بجهله بما سيحدث له بعد خروجه من السجن، وليستمتع بجسده سليماً معافى خلال هذه السنوات السبع.

كرت سبحة الأيام، ومرت السنون تباعاً. وما إن نما إليّ نبأ خروجه حتى بدأتُ في تنفيذ الخطة. فمن خلال البحث عن معلومات، حصلتُ عليها بوسائلي من أسرته وأقاربه، علمتُ أن له ابن عم اسمه رامي، هاجر إلى ألمانيا منذ أكثر من عقد من الزمن، وانقطعت أخباره عنهم، وفقدت أسرته الاتصال به نهائيًّا. فاستقرَّ أمري على استخدام تلك الشخصية للإيقاع به.

اتصلتُ به ذات يوم، وأوهمته بأنني ابن عمه ذاك، وأخبرتُه أنني عدتُ للتوّ من ألمانيا، وأحتاج إلى مساعدته كي أفاجىء أسرتي بعودتي دون أن أسبّبَ لوالدتي صدمة قد لا تتحمّلها بحُكم سنِّها. لم يصدّق الأمر في البداية، غير أنني عندما ذكّرته ببعض الأحداث، التي علمتُها عنه، وأخبرتُه أنني حصلتُ على رقم هاتفه وهاتف أسرتي من دليل الهاتف في المطار، اقتنع بأنني رامي. عند ذلك طلبت منه أن نتقابل ليلاً دون أن يعرف أحد حرصًا على المفاجأة التي أخبّئها لأمي وأسرتي، ثم نقرر بعد ذلك الخطوة التالية. اتفقنا على موعدٍ في أحد مطاعم المدينة.

كانت تلك الليلة ماطرة، وكان الشارع خاليًا تمامًا من المارة. وصلتُ إلى المكان قبل وقتٍ قصيرٍ من الموعد. وقفتُ على بعد أمتارٍ من المطعم أترصَّد قدومه. وما إن رأيته يحثّ الخطى في اتجاه باب المطعم حتَّى ناديته باسمه. ثم بادرته متسائلًا:

- ألم تعرفني؟

نظر إليّ بدهشة ثم قال:

- لا تحمل أي شَبَهٍ برامي على الإطلاق، ووجهُكَ مألوفٌ بالنسبة إليّ.

وفي الحال أخرجتُ مسدساً من جيبي وصوّبتُه نحو رأسه وطلبت منه بحزم أن يسير أمامي بهدوء إلى زقاق ضيق مظلم على يمين المطعم. وبعدما توغلنا قليلاً في الزقاق أمرتُه بالتوقف. وقلتُ له ما كنتُ أنتظر أن أقوله سنوات طويلة:

- أنا الذي دمرتَ حياته! أنا الشخص الذي صدمته بشاحنتك قبل سبع سنوات. أخبِرْني: لِمَ حاولت قتلي؟ أريد الحقيقة وإلا سأفرغ مخزن مسدسي في رأسك.

قال:

- سأخبرك بالحقيقة، واعترافًا بجميلك لأنك رفضتَ الغرامة التي فرضها القاضي عليّ ولم تدمّرني ماديًّا رغم إجرامي بحقّك. باختصار شديد، كنتُ متورّطًا بجريمة قتل أحد المسؤولين الصِّغار لأنه خدعنا واستولى على كلّ ما ادّخرناه من أموالٍ بذريعة أنَّه سيوظفها في مشروع تجاريّ مضمون. وكانت المشنقة في انتظاري. وفي السجن زارني فجأة شخص تعرفه، وأخبرني أنّ في مقدوره إنقاذي من المشنقة بل وإخفاء كل الأدلة التي تدينني وإطلاق سراحي إن وافقتُ على قتل شخصٍ بصدمه بشاحنة.

قاطعتُه قائلاً:

- ومن هو هذا الشخص الذي أعرفه أيها المجرم؟ ولماذا عرض عليك قتلي مقابل حياتك؟

- إنه رئيس فرع الأمن السياسي، هيثم الباعودي. لقد أخبرني أنه سيقلّك بسيارته إلى ذلك المكان في العاشرة صباحاً من ذلك اليوم، حيث سأكون في انتظارك في شاحنة سيزوّدونني بها قبل أسبوع. وعليّ أن أتمرّن في ذلك الشارع كثيراً قبل اليوم الموعود ومن عدّة زوايا. أخبرني أنها الفرصة الوحيدة لقتلك والفرصة الوحيدة لإنقاذ حياتي من المشنقة. والسبب هو أن السلطات العليا تريد القضاء عليك لأنك خطر على أمن البلاد. لم نكن نتوقع على الإطلاق أن تنجو. ولكنك نجوت. وحين حُكم عليّ بالسجن سبع سنوات، زارني في السجن وأخبرني أن وفداً من السلطات العليا زار خطيبتك فور وقوع الحادث، وأخبرها أن عليها أن تتخلى عن فكرة الزواج منك نهائيّاً وأن تلتزم هي وأهلها بالصمت المطبق وإلا سيلاقون جميعاً مصيراً أسوأ من مصيرك. كان هدفهم من ذلك قتلك روحيّاً بعد أن فشلوا في تصفيتك جسديّاً.

أسقط في يدي، وأحسست بالصدمة تسري في عروقي، والغيوم تتلبّد في ذهني. لا مجال لأدنى شكّ في أن السائق كان يقول الحقيقة. العجيب في الأمر أن هيثم واظب على زيارتي في المستشفى وفي البيت، وكان يشجعني بقوة على الانتقام، وهو من زوّدني بهذا المسدس كاتم الصوت وعلبة رصاص كاملة. إذن لم يكن ذلك لمساعدتي، بل لدفعي إلى قتل السائق، وبالتالي سيُحكَمُ عليّ بالإعدام، وبذلك تتخلص السلطات منّي كمُناوىء أقضّ مضجعها بانتقادها علنًا، وتُظهر للجميع أن هذا الشخص الذي ينتقدها مجرم. وفي الوقت نفسه تتخلص من السائق باعتباره شاهداً حيّاً على التخطيط للتخلّص منّي.

وتذكرتُ تلك اللحظة التي صدمني فيها هذا الأرعن الواقف أمامي، والجحيمَ النفسيَّ الذي ألقاني فيه. ودون تردد، ضغطتُ على الزناد وأسكنتُ رصاصتين في رأسه.

وعلى جناح السرعة غادرتُ المكان وتركتُه جثة هامدة لا حراك فيها. وأسرعتُ إلى هيثم، الذي كان في تلك الأثناء في انتظاري على مبعدة عشرات الأمتار من المطعم، لأعيد له مسدسه. وحين أبصرني قادمًا أسرع نحوي وقد ارتسمت على محياه ابتسامة غادرة. ثم بادرني متسائلًا بلهفة:

- هل أجهزتَ عليه؟ هل عرفتَ لماذا حاول قتلك؟

حدقّتُ في عينيه مليّاً. وقلتُ:

- أجل.

وأطلقتُ عليه عدة رصاصات.

***

جمال أبوزيد

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم