صحيفة المثقف

مقاطع من فصول كتاب: الاعتقال السياسي

جاسم الصفارصفحات لم تنطوي بعد.. المهيأ للنشر

من الفصل الأول "زائر الفجر"......

في الدول التي حكمتها انظمة دكتاتورية كانت معظم الاعتقالات السياسية تُنفّذ قُبيْل الفجر، وهي أهدأ فترة في الليل، يخلد فيها الانسان للنوم، تاركا حذره جانبا، وتخلو الشوارع من المارة، فلا يشهد على الظلم الا ألله. وقد استوحيت عنوان الفصل الأول من الفلم المصري المعروف (زائر الفجر) لممدوح شكري 1975، الذي ترددت في أحد مشاهده عبارة "البلد دي ريحتها فاحت... عفنت... بقت عاملة زي صفيحة الزبالة.. لازم تتحرق". وكان مصير معتقل "قصر النهاية" الرهيب، الذي ارتبط اسمه وسمعته بنظام البعث الإرهابي الهدم، بعد ان فاحت رائحته العفنة.

ولكيلا يكون هدمه سببا لنسيان ما اقترفه البعثيون من جرائم بين جدرانه، تأتي شهادتي المتواضعة عن تلك الأيام لتضاف لشهادات اخرى كثيرة، أوسع اطارا وأعمق تأثيرا لتوقظ في الذاكرة تاريخ المظالم التي تعرض لها عدة أجيال، من خيرة أبناء شعبنا العراقي، ابان حكم البعث. تصرخ فيهم كما صرخت ماجدة الخطيب (نادية) في فيلم (زائر الفجر): "الناس اللي تظلمت.... اوعوا تنسوا، اوعوا تنسوا....".

من الفصل الثاني "حكايات من قصر النهاية".....

وانا أعود بذاكرتي الى ما قبل خمسين عاما مسترجعا بعض من ذكرياتي عن تلك الأيام وشخوصها، خطر على بالي ما كتبه الروائي الروسي الرائع فيودر دستيوفسكي في (ذكريات من بيت الموتى) عن شخصيات عاشت في سجن في سيبيريا عانت جميعها من عالم يفرض عليهم قوانينه ويستلب حريتهم. أما بالنسبة لطبيعة هذه الشخصيات وسلوكياتها ومكنوناتها الروحية والعقلية، ففي رواية دستيوفسكي يختلف السجناء في سجيتهم، وهم كذلك في المعتقلات التي اكتب عنها في مذكراتي المتواضعة التي بين ايديكم.

تجدر الإشارة الى ان الحكايات التي سأسردها هنا، تشمل شهادات شخصية إضافة الى شهادات من كان معي في ذلك المعتقل الرهيب تلك الفترة، بعضها قاسية وبعضها لا تخلو من الطرافة. وسيدرك القارئ أني في سردي لتلك الحكايات لا ادعي بطولة، كما أني سأتجنب ذكر أسماء من لم يتحمل الموقف المذل والقاسي في المعتقل فاضطروا الى الاعتراف بأسرار تنظيمية او تعاونوا مع رجال الامن بعد ان استنفذت قواهم طاقة التحمل. وهناك حقيقة لا يجب ان تغيب عنا، وهي ان قدرة تحمل ظروف الاعتقال وأساليب التعذيب القاسية لا علاقة لها بحزب او قومية او طائفة او دين، فكم من المحسوبين على أحزاب دينية او طائفية او حركات قومية صمدوا وتحملوا ولم تنكسر ارادتهم طيلة فترة مكوثهم في المعتقل.

ما يحيي فينا انسانيتنا ليس البحث عن عثرات الاخرين فمن منا بدون اخطاء وبدون عثرات. ان ما يجعلنا انسانيون هو اندماجنا بالجزء الانساني من اقراننا في الانسانية وليس شحذ ذاكرتنا وخيالنا من اجل تضخيم سقطات الاخرين والبحث عن أسباب سقوطهم في زيف انتمائهم. ولكن هذا لا يعني اطلاقا تحرير الاخرين من مسؤوليتهم تجاه تنظيمهم وتجاه رفاقهم الذين شاطروهم الفكر والموقف.

رغم ادعاء البعثيين بتمسكهم بشعارات الوحدة العربية وتحرير فلسطين الا انهم كانوا يحتجزون في قصر النهاية مواطنين فلسطينيين واردنيين ومن المغرب العربي. معي في المعتقل كان عدد من الفلسطينيين وفي المطبخ الخاص بجلاوزة القصر كان يعمل معتقل من الأردن، لا ذنب له سوى انه تجاوز الحدود مع ماشيته فصودرت الماشية واستعبد صاحبها. وفي مكان اخر ليس بعيدا عن الصالة التي احتجزت فيها، كان هناك معتقل من تونس، تهمته اشتباه أحد رجال الامن بتلاعب مادي في صفقة تجارية شاركه فيها!

كان معي في المعتقل شاب، يكبرني في العمر ببضعة سنوات، معتقل بتهمة انتمائه للبعث اليسار (وهو جناح بعثي مؤيد لحزب البعث في سوريا)، لاحظت عليه دماثة الخلق مع مستوى لا بأس به من الثقافة، فأصبحت اتحين الفرص للحديث معه. في حديثنا كان قدر من الصراحة، رغم ما في ذلك من خطر علينا نحن الاثنين. لم اعرف انه من القومية الكردية الا بعد خروجي من المعتقل وزيارتي لأهله حاملا وصية منه. فاستغربت وقتها ان كرديا يتحمل كل هذا القدر من التعذيب دفاعا عن شعارات قومية عربية، بينما من يعذبه يدعي انه امينا على هذه الشعارات.

من الفصل الثالث "في معتقل مديرية الأمن العامة".......

في صباح يوم خريفي من عام 1970 نودي عليَ من زنزانتي ليجري اقتيادي برفقة أحد رجال امن القصر الى مكان قريب من بوابة الخروج لأصطف في انتظار السيارة المخصصة لنقلي، الى جانب اثنين من المعتقلين الذين كانوا معي في معتقل قصر النهاية وهما كريم احمد (ابو شروق)، عضو اللجنة العمالية للحزب الشيوعي العراقي، والمعتقل الثاني هو اخي باسم، الى معتقل مديرية الأمن العامة. وبعد طول انتظار دُفعنا نحن الثلاثة الى المقعد الخلفي لسيارة صغيرة، وكان ترتيبنا انا وأخي في طرفي المقعد الخلفي يتوسطنا كريم احمد. أما المقعد الامامي الى جانب السائق فقد احتله نائب رئيس الهيئة التحقيقية الثانية حسن المطير.

في طريقنا الى معتقلنا الجديد في مديرية الامن العامة، خاطبني حسن المطير ناصحاً بالابتعاد عن السياسة والاهتمام بمواضيع اخرى كغيري من الشباب، فالحياة بالنسبة لي، كما قال، في بدايتها وعلىَ ان لا اضيع مستقبلي وان استفيد من فرص الحياة الأخرى دون الدخول في مغامرة سياسية غير مضمونة العواقب. تحدث حسن المطير طويلا في هذا السياق، بينما كان كريم احمد يندسني خفية على قدمي استخفافا بكلام حسن المطير. كانت تلك بداية تعزيز الثقة بالمناضل المغدور كريم احمد (أبو شروق)، بعدها قدر لنا ان نصبح صديقين حميمين، وبقينا كذلك الى ان جرت تصفيته في بداية الثمانينات من القرن الماضي.

من الفصل الرابع "في معتقل الفضيلية".....

بعد معتقل الامن العامة تم نقلنا انا وابي وأخي وعدد من المعتقلين الاخرين الى معتقل الفضيلية الذي كان اشبه بمركز احتجاز لمعتقلين بتهم تنوعت بين الجريمة العادية والسرقة والاغتصاب وتهريب وترويج المخدرات وغيرها الى جانب المتهمين بممارسة النشاطات السياسية أو المغضوب عليهم من النظام السياسي القائم. وكما تنوعت التهم التي بسببها تم احتجاز مرتكبيها او المتهمين بارتكابها فقد تنوعت مباني المعتقل.

كانت هنالك الصالات الكبيرة او القواويش المنفصلة عن بعضها ببوابات صغيرة، وقد حشرت فيها فئة السجناء العاديين الذين لا نفوذ لهم ولا حظوة في المعتقل بينما خصصت غرف منفصلة صغيرة تتوفر فيها بعض وسائل الراحة للمعتقلين المتنفذين من امثال جبار كردي وعمار علوش وهما من كوادر البعث القديمة وشقاواته، وقد كانت لهم سطوة بعد انقلاب شباط الاسود في عام 1963 وكانوا من المسؤولين عن حمامات الدم ضد الشيوعيين في معتقل قصر النهاية السيئ السمعة.

جرى حشرنا في أحد القواويش الذي كان اغلب المحتجزين فيه بتهم سياسية. وقد بدى لي بعد تعرفي الاولي على المعتقلين، بحسب طبيعة علاقتهم بنا، ان هنالك تصنيف للقواويش وفقا لنوعية التهمة، وأغلب الظن ان هذا التصنيف قد حصل حسب العرف وليس بتخطيط من ادارة المعتقل. اضافة الى القواويش والغرف الخاصة كانت هنالك زنزانات الاعتقال الانفرادي، وقد عرفت ان من بين المحتجزين فيها (كريم حواس) شقيق (مطشر حواس) عضو تنظيم الحزب الشيوعي العراقي-القيادة المركزية والذي اصطدم بقوى الامن في بغداد وجرح أحدهم بطلق ناري قبل ان يقتل.

أعود مرة أخرى لرواية (ذكريات من بيت الموتى) للكاتب الروسي فيودور دستيوفسكي والتي يحكي فيها عن علاقة السجناء في سجن اومسك السيبيري ببطل روايته، والتي تميزت في البداية بالشك وبعض من الكراهية بسبب انحداره من طبقة النبلاء وعلاقته هو بهم كسجناء غلاظ النفوس، ثم تبدلت هذه العلاقة لتحل محلها علاقة، ان لم تكن ودودة فهي طبيعية. هذا، تقريبا، ما حصل لنا في معتقل الفضيلية، فقد تغيرت علاقتنا بغيرنا من المعتقلين بغض النظر عن طبيعة التهم الموجهة لهم واصبحت أكثر ايجابية وأحيانا ودية.

توطدت العلاقة بجبار كردي الذي وجد في حضورنا متنفس له للحديث عن امور يهتم بها كالسياسة والتاريخ السياسي للعراق، وقد افاجئ البعض إن ذكرت بانه قد اظهر اهتمامات ادبية وخاصة بالأدب السوفيتي مما اوجد ارضية للحوار الادبي بنكهة انسانية. وربما ان ما عزز العلاقة معه اننا قد تجاوزنا اي حديث عن تاريخه الشخصي الدموي. ومما لاحظناه عليه هو انفتاحه علينا (أنا ووالدي) بحيث انه كان يطرد وكلاء الامن في المعتقل عند الاقتراب من مجالسنا.

أما عمار علوش فلم يكن سوى شخصية قميئة، كان جبار كردي يحتقره. وهو من جانبه كان يحسد جبار كردي على نفوذه وسطوته في معتقل الفضيلية ويتمنى ان يحظى باهتمام المعتقلين السياسيين به كما هم يهتمون بجبار، وكان عندما أمر بغرفته يدعوني لتبادل الحديث معه ويفتخر كما جبار بانه قرأ "كيف سقينا الفولاذ" للكاتب السوفيتي نيكولاي استروفسكي اضافة الى كتابات مكسيم غوركي، ولكن شخصيته الى ان غادرت معتقل الفضيلية لم تولد عندي اي ثقة بانه يمكن ان يتمسك في ساعة بمفاهيم الانسان وهموم المجتمع.

الشخصية الاخرى التي بودي الحديث عنها من معتقلي الفضيلية هي شخصية الشرطي (هتلر) الذي كان يعمل في مركز شرطة قريب من وزارة الدفاع. كان (هتلر)، وهذا هو اسمه الحقيقي، متزوج من قريبة له عضوة في الحزب الشيوعي العراقي وكان الحزب يختزن في بيتها اسلحة وقنابل يدوية خاصة بالحزب، دون علم زوجها هتلر. ولم ينكشف هذا الامر له الا في أحد الايام عند عودته من عمله، حيث لاحظ وجود رجال امن امام باب بيته فسألهم عن غايتهم، ولكنهم حال ما عرفوا بانه صاحب الدار اعتقلوه واتهموه بخزن اسلحة في داره.

زوجة (هتلر) تمكنت من الفرار قبل وصول رجال الامن، أما هو فتعرض لصنوف التعذيب القاسي وهو لا يعرف اي شيء عن الاسلحة التي في داره، وبعد ان يئس المحققون من الحصول على معلومة مفيدة منه قرروا احتجازه في سجن الفضيلية لحين الوصول الى زوجته. وفي أحد الايام جيء بأحد اقارب زوجة (هتلر) الى معتقل الفضيلية. فتم فسح مجال له لوضع فراشه في نفس القاووش الذي كنا نحن فيه، وصادف ان يكون هذا المكان قريبا مني فاستمعت الى حديثه مع (هتلر) الذي كان يهدد بطلاق زوجته حال الافراج عنه، بينما قريبها يقنعه بالحفاظ عليها كونها قريبة هتلر كذلك، أما ألأسلحة فقد خبأتها في البيت، كما قال قريبها مستغفلا هتلر، فهي لحمايته شخصيا، ليتساءل هتلر بسذاجة "يعني شلون؟ اذا فد يوم اتعارك ويه جاري تكوم هيه تضربه بقنبلة...."

من الفصل الخامس "ما بعد الاعتقال".....

بعد مغادرتي العراق للدراسة، زارني الشهيد عبد الكريم احمد (أبو شروق) في موسكو وتعرفت من خلاله هناك على الممثلة العراقية المعروفة ناهدة الرماح (احدى بطلات النخلة والجيران)، فأصبحنا ثلاثة اصدقاء نلتقي ليس فقط لمناقشة هموم الوطن بل ولنقضي ساعات جميلة فيها النكتة والمرح. أذكر مرة اننا، أنا وابو شروق، زرنا الفقيدة ناهدة الرماح في قسم داخلي كانت تقيم فيه، وبينما غادرت هي غرفتها لتغسل اكواب الشاي، لمح ابو شروق وجود باروكة نسائية في احدى زوايا الغرفة فلبسها مازحا، وكان جالسا وظهره الى الباب، لذا تفاجأت ناهدة عند دخولها مع اقداح الشاي فسألتني اين ابو شروق ومن هذه الفتاة التي معك؟ فضحكنا جميعا وعلقت ساخرا "كيف يمكن ان يمر هذا المشهد المسرحي على ممثلة قديرة مثلك يا ناهدة".

قررنا يوما انا وناهدة الرماح وابو شروق ان نقضي امسيتنا في مطعم (بودابيست) الذي كان يقع مقابل تمثال مايكوفسكي في مركز موسكو تقريبا. تمتعنا هناك بعزف موسيقي جميل ادته الفرقة الموسيقية التي تعمل في المطعم والتي كانت تعزف اضافة الى الاغاني الكلاسيكية الجميلة المناسبة للرقص البطيء، اغاني تتطلب من الراقصين مهارة في الحركة. راهنت ناهدة على ان يطلبها للرقص أحدهم، بعد ان اعتذرنا انا وابو شروق من اداء هذا الدور. ولما لم يتقدم أحد لطلبها خاطبتنا بحزم "شوفوا، إذا محد منكم يكوم وياي راح اكوم اركص لوحدي" فتعين على أحدنا ان يرافقها الى الرقص، وكنت انا.

تركت ناهدة حذائها بكعبه العالي تحت الطاولة وتقدمت نحو صالة الرقص حافية. ومن حسن الصدف ان الفرقة الموسيقية عزفت اغنية فيها المزيج من اللحن الروسي والشرقي، مما وفر فرصة كبيرة لناهدة كي تظهر مؤهلاتها في الرقص فكانت لوحة جميلة انسجمت فيها المعزوفات الموسيقية مع حركات ناهدة الرشيقة مما اثار اعجاب الحاضرين الذين تركونا في المنتصف متنحين جانبا واكتفوا بالتصفيق لنا.

يحضرني في استذكاري لتلك الساعات الجميلة ما قاله الكاتب البرازيلي جورج امادو من اننا، حتى في أحلك الظروف، حتى في ايام العبودية، يجب ان نحتفل ونفرح، ذلك لأننا لا يمكن ان نحافظ على الامل دون ان نفرح ونعزف الموسيقى ونرقص. قول امادو هذا يصلح لمواجهة كل اشكال العبودية سواء تلك التي سادت بمضمونها السياسي او تلك التي تسود اليوم بمضامين جديدة هي خليط من السياسة والدين والقومية والطائفية.

 

د. جاسم الصفار

14/12/2020

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم