صحيفة المثقف

هل كان ادب احسان عبد القدوس أدبا هادفا؟

يسري عبد الغنيبالطبع سوف يأتي نفر من الناس يحتج ويولول قائلاً: هل تصنفون أدب الأستاذ / إحسان عبد القدوس أو أكثره في الأدب الهادف؟، وبعيدًا عن الدخول في مجادلات أو مناقشات بيزنطية فارغة مع هؤلاء الذين يرفضون كل الرفض اعتبار إبداعات أستاذنا / إحسان عبد القدوس ضمن الأدب الهادف أو الأدب التعليمي، نحب أن نقول:

1 - إن الكاتب الكبير كثيرًا ما يضفي على دروسه ظلالاً، ويغلفها بزينة وزخرفة تخفي هدفه النبيل، ويضيع في زحامها وأصباغها ما أراده من تنوير وتهذيب وتعليم، بل ربما أدت إلى عكس ما أراد، ففتن القراء بالزخرف والقشور، وغاب اللباب عنها .

2 ـ إن الأستاذ / إحسان قد يشتط في بعض الأحايين، وينادي بقيم، ويدعو إلى تقاليد قد لا تتفق مع بعض الأعراف الاجتماعية، بل قد يراها بعض المحافظين متنافية مع الخلق القويم، ويراها الأكثر تشددًا وتزمتًا أنها تتعارض مع مبادئ الدين، وكل ذلك تحت شعار التحرر من التقاليد البالية، وضرورة مسايرة التقدم والتطور، والأخذ بالمدنية والتحضر .

كل ذلك صحيح، ولكن قراءاتي المتواضعة لمعظم إنتاج أستاذنا أوصلتني إلى تفسير أرجو أن يكون صائبًا:

لقد رفع الكاتب الجليل في كل إنتاجه، روايات وقصص ومقالات، رفع راية الحرية، والانطلاق من كل قيد يعيق مسيرة التطور والتقدم والتحضر والتنمية، وهدم كل قديم يجرنا إلى الوراء .

وليس ذلك لمجرد الهدم، ولا هو دعوة للإباحية كما يقول أصحاب العقول الحجرية، أو هو خروج عن الأخلاق القويمة أو الدين الحنيف أو الأعراف السليمة، لا أعتقد ولا أظن، فذلك لا يتفق على وجه الإطلاق مع الحس الوطني الحار الصادق الذي كان يتمتع به أستاذنا الكبير .

لقد تطلع إلى هدف نبيل عظيم، هو محاولة تحرير العقل العربي تمامًا وبكل وسيلة، بطرد القديم كله صالحًا وطالحًا، بزلزلة الثابت من الأعراف والعادات والتقاليد، بإظهار التأييد لما يسمى إباحيًا ولا أخلاقيًا، حتى يستيقظ الجميع من سباتهم العميق، ويندهشوا وينزعجوا ويفكروا جيدًا، ويتم الهدم كاملاً، ثم نبدأ بعد ذلك، وبعد أن نزيل الأنقاض، بناءًا جديدًا لقيم وأخلاق وأعراف جديدة صحيحة تدفعنا دائمًا وأبدًا على الأمام.

وقد ذهبت إلى هذا التفسير من تردد الكاتب في هذه المجموعة بين إدانة الخيانة، وبين تبريرها، أو تركها بدون تعليق، تردده بين أظهار الندم من أبطاله على سوء السلوك والاعتراف بالخطأ، وبين اللامبالاة والتبجح، بين الحديث عن الدين والأخلاق باحترام وقدسية، وبين الاندفاع لما يشبه الإباحية .

إن هذا التردد من الكاتب أو من شخصيات أقاصيصه تكشف لنا أنه لم ينضم إلى أحد الجانبين، لم يحسم رأيه بتأييد هذا ولا ذاك، وإنما هو مشغول بقضية أخرى، غير تحديد الموقف وإبداء الرأي، هو مشغول بالهدم وإزاحة الأنقاض، كي يبدأ البناء الجديد المتين آذي لا يعرف الغش أو الخداع أو النفاق .

وختامًا لهذه المقالة النقدية: نريد أن نطرح سؤلاً وهو: هل كان الأستاذ / إحسان عبد القدوس صحافيًا جذبته القصة؟، أم كان قصاصًا أغرته الصحافة؟

مما لا ريب فيه أن في الأستاذ من القاصين خياله المجنح المبدع المحلق، والقدرة الإبداعية على رسم الشخصيات وخلق المواقف وتصوير الأحداث، ثم الإثارة والتشويق، وفيه من الصحافي أسلوب السرد والإخبار وكثرة الإنتاج والشهوة للكتابة في كل الموضوعات بلا انتقاء أو اختيار، ثم الاهتمام بالجماهير التي تحتاج من الجميع كل اهتمام وتقدير ومساعدة، أكبر الظن أنه ـ قبل هذا وذاك ـ كان مصلحًا اجتماعيًا بمعنى الكلمة، مصلحًا يسعى إلى هدفه بوسيلتي الصحافة والقصة معًا، إنه دون شك وطني غيور، يحب وطنه ومواطنيه، ويحفزه الحب إلى إصلاح أحوالهم بشتى الطرق، وفي محاولات دائبة لا تكل ولا تمل، ومن شأن العمل المستمر الدائب أن تكون لصاحبه هفوات، ولا ضير في ذلك، فالتجربة والخطأ أفضل ألف مرة من الركود والخمول والسلبية والثرثرة الفارغة الجاهلة التي تؤخر بلادنا ولا تجعلها تتقدم .

لقد كان كاتبنا الكبير / إحسان عبد القدوس (رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جنانه جزاءًا وفاقًا لما قدمه للفكر والأدب) رائدًا في إبداعاته، وسيظل هكذا دائمًا إلى يوم أن يرث الله الأرض ومن عليها .

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم