صحيفة المثقف

حسن حماد والريادة الفكرية في الفلسفة الحديثة والمعاصرة

محمود محمد علييعد الأستاذ الدكتور “حسن محمد حسن حماد”- أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة بكلية الآداب -جامعة الزقازيق، من أبرز المفكرين المصريين التنويريين الجدد بفضل أفكاره وآرائه الجريئة الشجاعة، التي أثارت جدلاً كبيراً وسجالاً واسعاً بين الأوساط الثقافية والاجتماعية والدينية العربية، حيث دعا في معظم كتاباته إلي إطلاق مشروع “تنوير عربى” لمجابهة الأفكار الظلامية والمتطرفة التى شوهت الدين الإسلامي، مشيراً إلي رفض الفكر السلفي التكفيري والعمل علي التصدي لكل الأفكار الظلامية والمتطرفة التي يبثها بعض دعاة الإسلام السياسي، وذلك من أجل مكافحة الإرهاب وتصحيح الصورة السلبية المأخوذة عن العالم العربي وصحيح الدين الإسلامي ورسالته التى تدعو للحرية والعدل والسلام، فكان له دور بارز في النهوض في الحياة الثقافية بمصر من خلال مؤلفاته وأعماله الفلسفية التي كان لها دور تنويري في تشكيل الوعي لدي العديد من الباحثين والمفكرين في مصر والعالم العربي.

كما كان حسن حماد واحداً من الأساتذة المصريين الكبار الذين استطاعوا بحوثهم ومؤلفاتهم أن ينقلوا البحث في الفلسفة الحديثة والمعاصرة من مجرد التعريف العام بها، أو الحديث الخطابي عنها – إلي مستوي دراستها دراسة موضوعية، تحليلية – مقارنة . وقد كان في هذا صارمة إلي أبعد حد: فالنص الفلسفي لديه هو مادة التحليل الأولي، ومضمونه هو أساس التقييم، والهدف منه هو الذي يحدد اتجاه صاحبه.

علاوة علي أنه كان قمة في التواضع، فهو الإنسان بكل ما تحمله كلمة الإنسان من معاني ودلالات، فلقد وهب حياته كلها للجامعة : تعليماً وبحثاً، وظل اهتماماته الرئيسية هي اهتمامات أستاذ جامعي يسعي إلي أن يرتفع بعمله إلي أعلي مستوي ممكن، ومن هنا فإنه يمثل القدوة والريادة وستظل كتاباته تمثل المنارة التي يهتدي بها الإنسان في الظلام تمثل الشعلة الخالدة، شعلة الفكر، وما أعظمها من شعلة .

وقد ولد حسن حماد بمحافظة المنيا في الثاني والعشرين من شهر مارس عام 1957، وقد حصل علي ليسانس الآداب من قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة المنيا بتقدير ممتاز عام 1979م، الأمر الذي أهله بعد ذلك للتعيين في إعلان وظيفة معيد بكلية الآداب جامعة الزقازيق عام 1983م، وفي نفس العام بدأ في إعداد أطروحته للماجستير حول “الاغتراب عند إريك فروم”، الذي وجد في أفكاره إجابة عن الكثير من الأسئلة التي شغلته في هذه المرحلة، عن تيارات الإسلام السياسي والأصوليات الدينية الإسلامية الكارهة لكل مظاهر الحياة: الفن، الحرية … إلخ؟، إلي أن فرغ منها عام 1989م.

ثم بدأ بعد ذلك في إعداد أطروحة الدكتوراه حول “النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز”، تحت إشراف د. صلاح قنصوه. وكانت لدرسته الأولى عن إريك فروم فاتحة للتعمق أكثر في دراسة مدرسة فرنكفورت التي شعر أنها الأقرب إلى تفكيره. يقول عمار بن حمودة في مقاله المنشور بعنوان “حسن حماد: ذهنية التحريم (منشور ضمن مجلة أوراق فلسفية –إشراف د. أحمد عبد الحليم):” يخبرنا عن نفسه، أنه يساري وجودي ومدرسة فرنكفورت بوتقة فكرية انصهرت فيها أفكار الماركسية والفرويدية والوجودية، ولذلك فقد وجد فيها ملاذا للكثير من الأفكار التي اعتنقها”.

وقد تقلد حسن حماد خلال مسيرته الجامعية العديد من المناصب نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر : تقلده رئاسة جمعية الفنون والآداب، وتولية عمادة كلية الآداب بالزقازيق لأكثر من دورة، وتمثله عضوا بلجنة الفلسفة بالمجلس الأعلي للثقافة، وعضوا باللجنة الدائمة لترقيات أساتذة الفلسفة …الخ. وفي نفس الوقت توالت دراسات حسن حماد الفلسفية بعد ذلك داخل هذا الإطار فكتب عن دوائر التحريم : السلطة والجسد والمقدس، و”قصة صراع الفلسفة والسلطة”، و”آفاق الأمل”، و”الخيال البوتوبي”، و”الخلاص بالفن: التراجيديا نموذجاً”، و”الاغتراب الوجودي”، و”العبث بين الفلسفة والفن”، و”البحث عن السعادة عند نيتشه”، و”قصة الصراع بين الفلسفة والسلطة “، و”محنة العبث ورحلة البحث عن خلاص، قراءة وجودية في أدب نجيب محفوظ”، وقد نال هذا العمل الأخير جائزة الدولة التشجيعية بعد صدوره بعامين.

هذا إلى جانب عدد من الدراسات التي نشرت لحسن حماد في دراسات منفصلة في مجلات أو في كتب، ونذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر : جدل الغربة والزمان عند مارتن هيدجر، وتطور مهوم العقل من ديكارت إلي هيجل، والاغتراب عند أبي حيان التوحيدي، ودور الفلسفة في تحرير الوعي أو الخروج من قبضة الفاشية، وفلسفة الجسد عند أفلاطون، وسؤال الهوية، البحث عن السعادة عند نيتشه، وأزمة التقدم في العالم العربي، والمشاعر عند جان بول سارتر، وسؤال العبث في رواية ثرثرة فوق النيل، وقراءة هيجل بين التمرد علي الدين والثورة علي الواقع.. الخ. وكلها برغم تنوعها تنتمي إلى دائرة ما يمكن تسميته بفلسفة التمرد، فهو يعتقد أن الفلسفة عبر تاريخها الطويل مارست دائما هذا التمرد : على التقاليد، على التابوهات، على السلطة، على الأنظمة السياسية، وحتى على نفسها، لا فلسفة، فيما يرى، بغير تمرد بغير فلسفة، وحتى أشد الفلسفات مثالية لا تخلو من تمرد لأنها ترفض الانصياع للواقع القائم وتفتش عما ينبغي أن يكون .

ولذلك لا فرق عند حسن حماد بين الوجودية والماركسية كلتيهما تمارسان فعل الانتهاك بأوسع معانيه. وبعد أحداث الربيع العربي وتصّدر جماعات الإسلام السياسي للمشهد شعر حماد بأن على الفلسفة أن تستحضر في بنية وجودها وفعلها ومقولاتها فكرة التمرد بأعمق معانيه، ومن هنا كان كتابه “ذهنية التكفير، الإسلام السياسي والعنف المقدس.

لقد تمكن حسن حماد في هذا الكتاب من أن يلم بالمناهج الفكرية والاجتماعية التي أنتجتها الحداثة في قراءته للتراث الإسلامي، فمزج بين المنهج التفكيكي للنصوص بما سمح له بإعادة النظر في مجمل الأسس المعرفية، وعمد بعدها إلى استخدام منهج الحفر الأركيولوجي للعودة إلى الجذور والأسس، ليخضع هذه النصوص التراثية إلى منهج النقد التاريخي، وليصل أخيرًا إلى إعادة التركيب وبناء المفاهيم في صورة صحيحة انطلاقاً مما يكون قد حصّله من نتائج النقد الذي أجراه.

والناظر لبنية الكتاب يدرك ذلك فهو يقسم الكتاب في بنيته العامة علي مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة، فأما المقدمة فحفر في مفهوم المقدس وأثره في الوعي الإنساني، وقد استعان حماد في فهمه للظاهرة بمقاربات “روجيه كايوا Caillois Roger ” و”مرسيا إليادMercia Eliade ”، وأما الفصل الأول فمقاربة لمنابع التطرف الديني، إذ بين أن المقدس مفهوم تاريخي عرفته الإنسانية باختلاف حضاراتها وأديانها، وما القرآن سوى تجّل من تحليلاته التي جعلت الفرق الإسلامية توظّفه في صراعها التاريخي حول الحقيقة الدينية. وقد كان لحديث الفرقة الناجية دور كبير في تضييق آفاق التأويل، وإقصاء المختلفين، فترسخت بذلك عقلية إقصاء الآخر.

ولكن دائرة إشعاع المقدس اتسعت لتشمل المجالات السياسية والاجتماعية والنفسية، وهو ما دعا حماد إلي اعتبار أن توظيف الدين لخدمة الأغراض السياسية والدنيوية والحياتية للبشر، وهو من أبشع أنواع السيطرة التي يمكن أن تمارس علي الإنسان. وهو الذي أورث الحركات الأصولية والإسلام السياسي عقلية احتكار الحقيقة وحق التحدث باسم الإله وباسم المقدس.

وهو يطرح في مقدّمته مشروع لنقد التّراث والتحرر من بذور التعصب، فكّل تفكير في مقاومة الأصولية دون استحضار التّراث يعد علاجاً ظرفياً غير مجد، لأن علل الحاضر ضاربة بجذورها في الماضي، والمقدس أشبه ببقعة زيت يتّسع أثرها في محيط الفكر ما دمت الينابيع التي تتفعر منها قائمة إلي اليوم، بل إنها زادت فيضا على أشياء وشخوص وأفكار ليست في الأصل مقدسة بفعل الإعلام، ولذلك تلازم مع الإرهاب وصار إلزماًمواجهته في ساحات شرعيته وخطاباته التاريخية المعاصرة.

وفي نهاية حديثي لا أملك إلا أن أقول تحية طيبة للأستاذ الدكتور حسن حماد الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري مني لهذ الرجلٍ العظيم الذي لم تغيره السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم