صحيفة المثقف

رواية: ما لم تحْكــه شهر زاد القبيلة

بشير خلفصرخةُ الأنوثة المجروحة

إن اعتماد سرْد الكاتبة على التجربة الذاتية، أو المسموعة لبنات جنسها يعدُّ مَعْلَماً مُهماً من معْالم خصائص السرد الروائي النسوي. إذ أن هذه الخاصيةَ معتمدةٌ في معظم روايات السرد النسائي باعتبارها تجربة لصيقة، أو قريبة جدًّا من الذات الساردة أولاً، وموضوعها يسهل تذكّره وسرده ثانيًا من طرفها، وهو تعبير عن هموم حقيقية معيشة بتفصيلات كثيرة تخدم الغرض السردي ثالثاً. كذلك فإن الحميمية في الوصف، والتحليل، والحوار تُعطي السّاردة فرصة لكي تُشكِّل شخصياتها، وأحداثها بطريقةٍ أقربَ. رواية "ما لم تحْكه شهر زاد القبيلة" للكاتبة، السّاردة الدكتورة فضيلة بوهليل تتضمّن الكثير من هموم الأنثى العربية، أينما تواجدت منذ أن ظهرت إلى الوجود القبيلة، وإذا كانت شهر زاد القبيلة حتى تاريخ اليوم لم تحك همومها ومعاناتها كاملة للرجل لأنه منْ أسّس القبيلة، وهو من أخرس شهر زاد، وخنق صوتها، وذبحها من الوريد إلى الوريد، ولا يزال؛ فإن الكثير مـمـّا لم تحكه شهر زاد القبيلة، والقليل مـمـّا حكته كان لبنات جنسها اللواتي يشتركن جميعا في مأساتهنّ الغير المنتهية، ولعلّ  الطالبة الجامعية "وفاء" التي تمكّنت من الانفلات من قيْد القبيلة، والرحيل نحو الشمال طالبة جامعية بمحمول ثقيل تئنّ به ممنوعات ثقافة القبيلة، وكذا مـمـّا رأته، وعايشته، وما سمعته في بيئتها الصحراوية الجنوبية جعلها تُسجّله شبه يوميٍّ في دفترها، كانت حلْمُ وفاء أن تتحرّر بالعلم، وأن تُحرّر نفسها من القبيلة، وقيودها بفرْض نفسها بالمعرفة، وبتبوّئ مكانة اجتماعية تمكّنها من فرْض نفسها، وأن تكون بمنأى عن سوْط القبيلة المادّي والمعنويّ، غير شبيهة بغيرها ك " جُمْعة" الضحية الأرملة الصغيرة، لكن حُكْم القبيلة الصّارم كان لها بالمرصاد، وقف لها صدًّا منيعًا أمامها في ارتباطها زوجة شرعية مع" حكيم" ابن منطقتها، ورفيقها في الجامعة الذي أحبّها، وأحبّته، لـــترحل فارّة إلى قسنطينة.

لئن قطعت "وفاء" أوقاتا ثمينة من لياليها، وحرمت نفسها من راحتها، ومن جلسات حميمية مع رفيقاتها في الغرفة لتدوّن معاناة" جُمْعة، وضاوية"، وغيرهما من سيّاط القبيلة ممثّلًا في حمواتهن؛ فإن" وفاء" كانت لا تدري أنها تدوّن مأساتها الآتية.

الـمتْنُ الروائي

رواية "ما لم تحكه شهر زاد القبيلة" للكاتبة القاصة، الروائية فضيلة بهيليل صدرت في النصف الثاني من سنة ألفين وعشرين عن دار المثقف، من الحجم المتوسط، في 87 صفحة. القارئ المتمعّن، الدّارس يُصدم من السطر الأول الذي يبدأ به النصّ، وهو مثلٌ شعبيٌّ مُتداول في منطقة كاتبة النصّ الروائي:" الله يدخّلها بالرّبْح علينا.. هاذي حمامة زايدة فينا"، الرواية المكونة من ثلاثة عشر لوحةً سردية تتموقع اللوحة الأولى بمثابة ركيزة أساسية فنية للنصّ تتكئ عليها باقي اللوحات؛ فممّا سمعته" جمعة" عندما وطأت قدماها عتبة بيت زوجها عروسًا بدأت تتشكّل أحداث الرواية، وتتحرّك شخصياتها في مجتمع تسيطر عليه الذكورة، والأنثى (مُشيّأة) مثل بقية الأشياء في البيت، وأحيانا الحيوانات أرفع مكانة منها. هذه القادمة الجديدة عروسًا هي دخيلة على مجتمع مغلق، يرفض فتْح مغاليق حِـــماه، ويمنع التزاوج من خارجه."...بينما حماتها اكتـــفت بالجلوس على عتبة الباب تتفرّس في وجه هذا الوافد الجديد إلى بيته ص:9"، الرؤيا السائدة، الراسخة أن زواج الأقارب داخل العرش، والقبيلة من دعائم الاستمرارية:" لن نذهب اليوم عند أهلك، أنا متعبة، وسأُخبر الحاج أحمد بذلك، لست مستعدّة للسفر مئات الكيلومترات؛ لا بارك الله في ابني، لم يجدْ غير بلادكم يتزوّج منها. ص:26"

حتى في شهر رمضان، شهر الرحمة، والتسامح لم يـمرّ بسلام، ولحظات ما قبل آذان المغرب، كان العنف، وكان شيطان الحماة يحرّكها:" وكما اعتادت "جمعة" في مثل هذا الوقت بدأت تُرتّبُ أواني الإفطار؛ إذْ بحماتها ترْمي دلاء الماء بالغُرف زاعمة أنها متّسخةٌ، بدا واضحًا استغراب جمعة؛ فالمغرب على وشك الآذان، وحتْمًا لن يكون هناك وقْتٌ لِما طلبت؛ اعتذرت، قالت إن عليها وضْع الأواني الآن، وستنظفها بعد الإفطار، ألحّت، وبدأ سيْل اللعنات: لـم تعلِّمْكِ والدتكِ شيئا، مثلكِ مثلها قليلات أصل.ص:41"

حتى فشل العريس ليلة الدخلة على عروسه، وعدم قدرته على ممارسة ذكورته، وفي عُرْف القبيلة ذاك الفشل عارٌ لا ينمحي لدى عائلته، وفي سجلّ القبيلة، يُلصق الأمر بشهر زاد العروس: «حملها أهلُها بحياء مطأطئي الرؤوس، كأنما قيامة الدنيا قد قامت عليهم، وهي من تحت الكيس، تُــصدر أصواتا خالطها البكاء، والقسم أن لا أحد قبل زوجها لـمس شعرة منها، ولكن من يسمع؟ وَضْعُ الكيس على رأسها قتْـــلُ كل ذرة كرامة لها، ولعائلتها. ص: 28»

"جمعة" التي أمضت طفولتها محبوبة داخل أسرة متماسكة، تحت حماية أم تحبها، وأب كان حلمه وهو يُدخلها المدرسة في بداية سنتها الأولى أن تغدو طبيبة في المستقبل تداوي أباها الذي سيفتخر بها أمام الجميع، جمعة ما كان هذا حلمها طوال سنوات قضتها متنقلة بين دراستها بالمتوسطة، ثم مدرّسةً لكتاب الله للبنات أيام العطل بإحدى المساجد. جزاؤها:" لـم تُـــعلِّمْكِ والدتكِ شيئا، مثلكِ مثلها قليلات أصلٍ."

الرواية تفضح الذكورة البطريركية

2152 فضيلة بهيليليقوم حجرُ الأساس في النظام الأبوي المتجذّر من نظام العشيرة على هيمنة الذكر على الأنثى واستعبادها، واضطهادها، ونفْي وجودها الاجتماعي، وكينونتها الإنسانية؛ مجتمع أبوي يسيطر فيه الرجل على المرأة لأنها في قناعته أقل درجة منه، مـمّا كوّن عنده ذهنية ذكورية ذات نزعة تسلطية ترفض النقد والحوار، وتعاقِبُ كلّ منْ يخرج على هذا النظام الأبوي؛ فهيمنة الأبوية الذكورية، وكبح التطلعات النسوية، وحجب المرأة عن ميدان الفعل العام، أو إعاقتها بدواع اجتماعية، أو دينية، ناهيك عن الدور النمطي للمرأة في المجتمع. نجد الظاهرة متواجدة بالرواية في أكثر من موضعٍ، ولعلّ أغربها لـمّا تكون مُترسِّخة لدى طلّاب الجامعة، أغلبهم يحملون نظْرتين لشهر زاد متعاكستيْن: نظرة متفتّحة، متحرّرة حميمية للأنثى الطالبة لمّا تكون صديقة، حبيبة، ونظرة ذكورية أبوية لـمـّا تسعى إلى إثبات ذاتها، وممارسة إنسانيتها، أو مشاركة الرجل حتى في رحلة سياحية، فكثيرا ما يُهمَل حقُّها، ونصيبها:

«..في صبيحة اليوم الموالي كانت وفاء وحنان آخر منْ سمع بـخبر إقلاع الحافلة الطلابية، قبل الموعد الذي حُدِّد لها بالأمس. حزنت حنان، وذرفت وفاء دمعة حقْدٍ على المنظّمة التي أخلفت بالموعد، وضاع معها الحلم. ص: 17»..« نعم كريم وصلنا لمكان تجمّع طُلّاب الرحلة، فوجدناهم غادروا قبل الموعد بساعة تقريبا، سمعتُ من إحداهنّ أنهم أخذوا أيضا أصدقاءهم الذين لم تشملهم القرعة.ص:18»

شهر زاد الـمُعنّفة.. شهريار المكلوم

ليس من حقّ شهر زاد ولوج فضاءات الراحة، والتمتع بجمال الطبيعة، والجلسات الحميمية في العلن أمام الجميع، أو المناقشة، والتذاكر مع الصديق، أو الحبيب: « وبدون مقدِّمات وقف أمامهم رجلٌ مُلْتحٍ احمرّت عيناه من الغضب، يسُبُّ ويشتم، ويلعن، ولم يتوقّفْ حتى بعد خروجهم من ذلك العالم الخيالي الجميل.ص:32».. أمام صُراخ العجوز، وبكاء بناتها اللواتي أحطْن بها ومع دهشة "جمعة" لابتكار المشهد (من الأم الحماة)، كان زوجها(جمعة) قد وصل مسرعًا بعد ما سمع صراخ والدته من الشارع، لم يشعر إلّا وكفّه ترتسم على خدّها(جمعة) في حركة ساد بعدها صمْتٌ رهيبٌ.ص:27»..

«..شيء ما انكسر داخلها تلك اللحظة، وهوى من مكان سحيقٍ؛ كيف نسيت لأيّام أنها متزوّجة، وأنها تركت خلْفها رجلًا تـمنّته، وتـمنّاها، فما عادا يريان إلَّا خنجرًا واحدًا يذبحهما.ص:38 »

ثنائية المعاناة نفسها بين أوتاد خيمة القبيلة في الجنوب، وأوتاد الذكورة الطلابية في الجامعة، فشهر زاد لـمُتعة الفراش، والإنجاب، وإدارة شؤون البيت تحت سلطة قهْر القبيلة، والحماة، أو هي فاكهة مأدبة الطلاب في الإقامة الجامعية، أو الشباب الطائش خارج أسوار الإقامة :«..أو أصوات لشبّان يتحدثون من الشارع مع فتيات الإقامة ككلّ ليلة يرقصون على أنغام أحزانهم، وجراحاتهم....ليُختم المشهد كالعادة بتبادل الشتائم، والسّباب بينهم وبين فتيات الإقامة. ص: 12،13»

العنف لم يتوقف عند شهر زاد؛ بل تعدّى إلى من يرتبط بها بحياة المودّة، والرباط الزوجي: «توجّه الزوج عند أمه، أشاحت بوجهها عنه، لم تكلِّمْه، نطقت أخته الكبرى:" الله لا يربحك.. لا أنت، ولا زوجتك، لم تُحضر لنا سوى الهمّ ووجع الرأس" ص: 42 »..«محمد لا يعرف ما يقول، يطأطئ رأسه في ذهول، يـنْسلّ في خجل تاركًا لعنات والدته التي نطقت بعد خروجه لم يسمع منها سوى تهديدات تقول إنها ستتبرّأُ منه إنْ أبقاها على ذمّته، ولن يُصبح ابنها أبدًا؛ كلمات ارتجف لها كيّانه، وسوّدت له كلّ ما كان أمامه. ص: 42»

قبل أن يعلّق الحبلَ على جذْع النخلة التي رافقتهما مستندين إلى جذعها تناجيه ويناجيها تراءت له "جمعة" عروسًا تُزفُّ إليه، تحضنه بزهو، تقبّله، وجهها الباسم، تهمس على ضوء القمر الصيفي، لتتراءى له أوّل منْ رأت عيناه، منْ رعتْ طفولته، منْ أنشأته، وأرضعته، والجنة تحت أقدامها، بين الصورتيْن اللتين أخذتا تتضبّبان باشتداد الحبل على رقبته مغادرا الحياة تاركًا الأولى أرملة في ريعان الشباب، الثانية عجوزا مشلولة.

الرواية طافحة بقيود القبيلة، وممارسة العنف تجاه شهر زاد، بل حتى تجاه شهريار: تنفيذ الأوامر دون نقاش، إرغام الابن على التطليق، انفراد الحماة بمفاتيح بيت المؤونة، حرمان زوجة الابن من مواد التغذية، التزويج المبكر للأنثى وهي طفلة للشيخ الهرم، الترمّل المبكّر، البراءة المحرومة من مباهج الطفولة، لعنة القبيلة المشؤومة تلاحق شهر زاد: « بيت الحاج أحمد، يا حصره لـمّا كان بمقامه، من يوم دخلتْــه كنّتُـــهم "جمعة" لم يروْا خيرًا؛ لا بارك الله في الكنائن، ولا في طلّتهم. ص: 87»

الحوار

الحوار جزْء أساسيٌّ من تقنيات الرواية، ويُــفترض وفق ما يقوله النُّقّاد المتخصصون أن يشكِّل  ثلاثين بالمائة من فضاء الرواية. في هذه الرواية الحوار مُقِلٌّ؛ فالحوار ضروري لتعميق الشخصيات، ويكشف أسرارها، ومساراتها، وتفاعلاتها البينية، ويعبر عن الآراء التي لا يمكن للسرد أن يبوح بها، ويمكّن القارئ من التنوع في قراءة الحكي السّردي، والولوج إلى دواخل الشخصيات. ربـما قلّة الحوار في الرواية، تأتّى من قيود القبيلة التي كبّلت أغلب شخصيات رواية" ما لم تحكه شهر زاد القبيلة" من العيش الهنيء، وما يتبع ذلك من احترام وتقدير، وتثمين للأدوار، وتبادل للآراء، وتسيير سليم للأفراد، والأُسر والجماعات.

الصّياغة الفنية

الرواية محكمة البناء؛ مبدعة النص الدكتورة فضيلة بهيليل تمرّست في إبداع النصوص السردية، فلئن كانت هذه الرواية الباكورة الأولى لها؛ فقد سبق وأن أصدرت مجموعتيْن قصصيتيْن: "على هامش صفحة2017"، "وعادت بـخُـــفّي حنين2019"، إضافة إلى أنها أستاذة جامعية تُدرّس الأدب، مـمّا ساعدها، ويساعدها على أنّ تتميّز نصوصها بنكهة جاذبة في فنّ الحكي، وتقنيات السّرد الروائي، وحُسن توظيف اللغة وسلامتها، وجمالية الحوار الموظف بدقّة (مع قلّته)؛ والوصف الرّائق الذي تألّق في كثير المواضع من النصّ: «..وباستنشاق عطور رجالية امتزجت بروائح نسوة، وبـخور تصاعد نشوةً في ذلك الليل الـمُضيئة نجومُه فرحًا، وزهوةً.»،« أشجار تصطفّ داخل مساحات اتّخذت أشكالًا هندسية مختلفة: دوائر، مربعات، معينات،؛ وبالجهة المقابلة للبوّبة كراسي إسمنتية صُمِّمت على شكل أنصاف أقواسٍ مشدودة بأعمدة حديدية على الأرض.»؛ لـم تخْلُ الرواية من الشعرية التي وشّحت بها فضيلة النصّ هنا، وهناك:« لا أروع من رؤية حبيب يدقّ قلْب الفرح صباحًا فقط ليهديك قبلة، وشوْقًا كقطْر الندى يُــبلِّل قلبك بالرغبة في حُبّ شخْصٍ يستحقُّ. ص:39 »، « ..تلمحه كحلم فيشيح بوجهه عنها، كأنْ لم يرها تُبْصره من تلك الفتحة النديّة بماء الجرّة الموضوعة عليها، يراودها حنينٌ خفيٌّ. ص: 70 »،« هي المرأة الوحيدة بعالمه، عانقتْ جنونَه فضمّ صبْرها إليه، فرح بها  كما لم يفعلْ من قبل، شغفته حبًّا. ص: 73 »

نصٌّ روائيٌّ ماتعٌ جدير بالقراءة أبدعه صوتٌ نسائي جزائريٌّ قادمٌ من الجنوب الغربي يمتلك من المواهب، والقدرات ما يؤهله كي يكون ضمْن الصدارة في الأدب الجزائري المعاصر.

 

بقلم: بشير خلف

كاتب من الجزائر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم