صحيفة المثقف

برنامج "جو شو" والتنكيت المخادع

محمود محمد عليعالم النكته ملئ بالمواقف الساخرة والناقدة والمضحكة، والتي تسري علي ألسنة الناس، كما تسري النار في الهشيم، والنكتة تعبير عن موقف هزلي بأسلوب ساخر يحيي بروح نقدية، ونجاح النكتة، لابد لها أن تكون بأسلوب مقتضب موجز جداً، وساخر يحمل معني كبيراً غير مباشر في باطنه، وكلما تكون مثيرة للضحك فهي أقوي وقعاً وتأثيراً وبالتالي نجاحاً.

والنكتة في حد ذاتها معالجة لوضع، أو حدث غير مرض عنه، وحياة النكتة تطرقت لمواقف عدة في الحياة وجوانيها بأساليب مختلفة، فأخذت الشك الخطابي أو الحركي أو المكتوب أو التحريري أو رسوم كاريكاتورية تعبر عن هذه المواقف .

وتعد النكتة خطاباً ناقداً يختزن حمولات حجاجية، مبنية علي مناقضة الآراء والأفكار، والوقائع، والاحتجاج عليها، هذا الاحتجاج يتخذ صوراً تعبيرية عدة تتيحها الوسائل والوسائط المستعملة في توصيله، وإثارة ردود الأفعال ؛ التي تستجيب – عادة – باستعمال السياق والصورة والشكل التواصلي، ولا تعتمد التواصلية بمختلف أشكالها وأنواعها ومضامينها علي الفكرة تحديداً ؛ بقدر ما تقع بكل ثقلها علي الوسيط، ومفهوم الوسيط هنا يتخذ بعده الألي الوسائلي، كما يظهر بعده الصيغي الذي يتلبس رداءً ثقافياً دارجاً، ومتداولاً يعطي هذه التواصلية بعدها المأمول، وقد يطمح بها في جنوح بعيد إلي أبعاد أخري، تتنامي داخل المحض الثقافي للفكرة، وقد يفيض لتتكتل في وسائط وأفكار أخري تتجاوز المدار الأولي إلي مدارات أحري، ويمكن لهذا الكلام أن يحاكي في شئ من الحقيقة المفهوم القريب والبعيد للنكتة، والنكتة المتعددة النابعة من عمق المعايشة، الرفض، الاستنكار، القبول، اللاموقف الذي يشكل موقفاً بحد ذاته في تجلية صاحب النكتة.

هذا النوع هو ما كان يبغيه الدكتور عزمي بشارة، عندما أختار يوسف حسين ليجسد له برنامج "جو شو"، للدفاع عن فكر جماعة الإخوان المسلمين الذين سقط مشروعه عقب أحداث ثورة الثلاثين من يونيه 2013، هذا من ناحية، واستخدامه كمخلب قط ضدهم في حالة انقلابهم علي مشروع عزمي إسلام الذي يزعم الدعوة للقومية العربية (المزيفة) .

وبرنامج "جو شو" من البرامج التي ما تزال مستمرة حتي الآن، وهو يذاع في العاشرة مساءً بتوقيت السعودية في كل خميس علي قناة العربي؛ وجو شو وسابقًا "جو تيوب"، هو كما قلنا برنامج تلفزيوني سياسي كوميدي ساخر يتألف من فقرات تتناول الأوضاع السياسية في العالم العربي، ويسخر من الأوضاع السياسية في مصر بعد  ثورة الثلاثين من يونيه عام 2013.

وفي عام 2016، انتقل يوسف حسين من برنامجه على منصة يوتيوب ليقدم برنامجه باسم جو شو عبر شبكة التلفزيون العربي الذي يبث من لندن، بعنوان "جو شو" بداية من شهر رمضان 1438 هـ  وتعرض حلقاته أيضًا على قناة سوريا ؛ وجو تيوب، أو جو شو، أو يوسف حسين، وأبو ليلي ونعنيعة.. وأسماء كثيرة لشخص واحد، وهو برنامج أسبوعي، يتحدث عن الأوضاع الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية ؛ وبخاصة في مصر.

ويوسف حسين ظاهرة إعلامية عُرفت وعرفها الملايين في الوطن العربي من خلال اليوتيوب وقناة سوريا وقناة العربي، بجرأته وخفة دمه .. ظهر في فترة كانت موجودة بكثرة البرامج الساخرة التي تزعم أنها تنقد الأوضاع السياسية في زمن الربيع العربي ؛ وخاصة فيما يتعلق بالقضايا السياسية المستجدة من خلال الكوميديا السوداء وهو ليس له حدود لا في النقد ولا في السخرية .. والعديد من الإعلاميين شبهوه بالإعلامي باسم يوسف المزيف والمخادع، لكنه في فترة قصيرة حاول أن يكون له بصمة خاصة به من خلال الفبربيكات الإعلامية، وصارت لديه قاعدة جماهيرية كبيرة من الشباب والشيوخ (المغرر بهم والمؤهلين للإستماع والإصغاء لأي شئ يقدح في النظام المصري الحالي).

وقد شكل يوسف حسين حالة من التمرد علي نظام الدولة المصرية الحالي بطريقة سلمية تأخذ فكرة تكتيكات حرب اللاعنف عند جين شارب (والتي تمثل النواة الصلبة لحروب الجيل الرابع)، إلي أن اصطدم مع السلطة في المملكة العربية السعودية، وسوريا، والجزائر، واليمن، وفلسطين، وأمريكا، وغيرها الكثير بملوكها وأمرائها ورؤسائها، كانت مادة دسمة عبر برنامجه الشهير " جو شو " الذي أصبح يتناول البرامج العربية والمصرية، وبموقع انتقاد، أو ما يمكن تسميته بالكوميديا السياسية السوداء .

لقد بات جو شو يمثل حاضنة شعبية لبعض المصريين وفي العرب (المغرر بهم كما قلت)، واستطاع أن يحول كل شئ لكوميديا سوداء، إلي أن عده بعضهم أيضا حاضنة لكثير من المؤيدين باطنيا لفكر جماعة الإخوان والسلفيين المسلمين؛ وعلي الرغم من محبي جو شو القلائل فلا يخلو الوضع من انتقاد الآخر (أي الكُثر) له لاتهامه بعدم الموضوعية، وعدم التزام الحياد، واتباع توجهات وسياسة القناة التابع لها، وعدم تخطي ما يمكن تسميته بالخطوط الحمراء .

وحول نشأة البرنامج قال " يوسف حسين" (حسب موقع ويكبيديا): أنه بعد بداية الربيع العربي لم يكن لدى فريق العمل أدنى فكرة بإنشاء قناة جوتيوب في البداية، وأتت الفكرة "بمحض الصدفة" حسب ما قال يوسف حسين في لقاء على قناة سوريا، (بعد ثورة الثلاثين من يونيه عام 2013)، قام يوسف حسين وأحمد الذكيري بإنشاء مقطع فيديو سياسي ساخر مدافعًا فيه عن الرئيس السابق مرسي وتحميله على موقع اليوتيوب، وحقق أكثر من نصف مليون مشاهدة في وقت قصير، وبعد شهر تقريبًا قام جو "يوسف" والذكيري بتكوين فريق عمل صغير، وإنشاء قناة جوتيوب على اليوتيوب، وعلى مدار شهور قاموا بعمل 12 حلقة ساخرة عن تناقضات التيار الليبرالي السياسي، وتناقض الإعلامين (بعد ثورة الثلاثين من يونيه)، فقام فريق جوتيوب بعمل 31 حلقة ناقش من خلالها جميع الأحداث التي مرت بمصر بشكل ساخر، وتخطى مشتركو قناة اليوتيوب أكثر من مليون ونصف مشترك وقامت بعض القنوات التلفزيونية بعرض الحلقات على شاشاتها  مثل الجزيرة مباشر مصر، وقناة الشرق وقناة رابعة.

وقد كان الهدف من برنامج جو شو كما قلت، هو تكرار نفس المهمة التي كان يقوم بها برنامج البرنامج لباسم يوسف، مع اختلاف الغايات والتوجهات (وإن كان كلاهما يصبان في نفس الاتجاه وهو الفوضي الخلاقة)؛ بمعني أن نفس المواضع هو تكرار برنامج جو شو للمواضع المتعلقة بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وخطاباته السياسية، وكيفية تعامل الرئيس السيسي معها من خلال عرضها بطريقة ساخرة، وجاء في المرتبة الثانية موضوع الإعلام، وكيفية معالجته للأحداث السياسية في مصر، وكيفية تعامل الإعلاميين المصريين لهذه المواضيع.

وهذا يشير إلي أن برنامج جو شو قد حرص علي متابعة تطورات الحياة السياسية في المجتمع المصري بعد ثورة الثلاثين من يونيو 2013، ويظهر ذلك من تركيز البرنامج علي الرئيس السيسي وخطاباته السياسية بشكل كوميدي يغلب عليه التنكيت المخادع، وكذلك معالجة القضايا السياسية التي تهم المجتمع المصري حالياً بشكل ساخر ومضحك، ومن ثم تناوله لمعالجة الإعلاميين المصريين لهذه القضايا، وهذا يظهر أن سر قدرة برنامج  يوسف حسين علي اجتذاب الجماهير ومتابعة المشاهدين له بشكل كبير آتيا من تركيز البرنامج علي حصر المضمون السياسي للقضايا اليومية المستجدة.

أما فيما يخص الموضوع الوطني وتغطية القضايا الوطنية ومعالجتها سواء السياسية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية، فنجد أنها لا تشكل محور اهتمام بالنسبة ليوسف حسين، مما يعكس عدم أهمية مناقشة وعرض هذه القضايا الوطنية في برنامجه، وهذا يعكس غياب الحس الوطني لبرنامج جو شو الذي يقدمه يوسف حسين .

وثمة نقطة مهمة نود الإشارة إليها، ألا وهي أن يوسف حسين كان يتناول المواضيع السياسية التي يطرحها في برنامجه في إطار الخبر التلفزيوني، وهذا يعكس قدرة يوسف حسين علي عرض المواضيع وتناولها بتكنيت زائف كونه ناقل للخبر بأسلوب ساخر، ليترك للمشاهد عدم الحرية في تناول وفهم الخبر، ويعكس ذلك براعة يوسف حسين، وقدرته الإعلامية علي طرح المواضيع والمضامين والمحتوي السياسي، لهذا البرنامج بأسلوب الخبر الصحفي ليظهر، وكأنه ناقل للخبر من ناحية وصانع له بما يثبت عنه صفة التدخل الشخصي وعرض آراؤه الشخصية في المواضيع التي يعالجها .

ومن الأمور الأخرى التي لاحظناها في برنامج جو شو، أن وحدة التحليل الرئيسية التي تم تناولها من قبل يوسف حسين للمواضيع السياسية، كانت تتمثل في استخدام متغير الوقت والفترة الزمنية التي يغطيها برنامج يوسف حسين الساخر، وجاء بالدرجة الثانية استخدام الكلمة، ثم الفقرة، وأخيراً الجملة، ويعكس ذلك مستوي تركيز يوسف حسين وهدفه من إيصال معلومة معينة، أو خبر معين للمتلقي، أو أن يوجه المضمون السياسي باتجاه معين من خلال استخدام متغير الوقت ومستوي تكراره لبعض الكلمات والمصطلحات، وهذا فيه إشارة واضحة لتدخل يوسف حسين علي أنه يريد إيصال معلومة معينة للمتلقي في المضمون السياسي للحلقات التي يعرضها .

كذلك وجدنا برنامج  جو شو الذي يعرضه يوسف حسين كان يتخذ مواقف معارضة لوجهات النظر التي عرضها في برنامجه، وهذه تعبر عن شخصية يوسف حسين ومواقفه الايديولوجية، تجاه القضايا السياسية والاجتماعية، مما يشير إلي أن يوسف حسين لم يكن صريحا لآرائه الشخصية ومواقفه اتجاه القضايا المطروحة، وهذا يشكل تدخلا أو انحيازا لدي يوسف حسين وينفي عنه صفة الموضوعية إذا تم عرض هذا الرأي بأسلوب صريح وواضح .

أيضاً كشف لنا برنامج جو شو أن الطريقة الهزلية هي الصفة المميزة لبرنامج يوسف حسين، مما يعكس أهمية التركيز  علي هذه الطريقة لتناول يوسف حسين لعرض الموضوع، بما يعبر عن شخصيته وما يميز برنامجه عن البرامج الأخرى، ثم جاءت طريقة عرض برنامج جو شو بأسلوب ساخر تعبر عن القدرة الكبيرة ليوسف حسين في عرض المواضيع، وهذا يشير إلي أن الصفة الأساسية للبرنامج هي عرض الموضوع بأسلوب ساخر هزلي انتقادي، وهذا ما يميزه عن البرامج الأخرى، فقدرة يوسف حسين علي استخدام السخرية في توصيل المضمون السياسي يعكس براعته في إيصال ما يريده للمتلقي بطريقة غير مباشرة.. وهناك أمور أخري سوف نكشف عنها في قابل الأيام لهذا البرنامج.. ونكتفي بهذا القدر.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

.........................

1- الشعيبي، صالح بن عبدالعزيز: الصفحة الأخيرة : عالم النكتة، الأمن والحياة، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، مج 8،ع 9، 1989، ص 62.

2- هاجو مدقن: السخرية الرفيعة في النصوص التفاعلية الرقمية: قراءة في الادبيات الساخرة في الفيسبوك، سياقات اللغة والدراسات البينية، العلوم الطبيعية للنشر، ع4،3، 2016، ص 116.

3-  هنيدة أحمد خليل: درجة توجه المضمون السياسي لبرنامج باسم يوسف الساخر، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة الشرق الأوسط، طلية الأعلام، الأردن، 2015.

4- جو شو (برنامج).. ويكيبيديا.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم