صحيفة المثقف

صورة داخلية

جمال العتابيتاريخ الخوف.. للكاتب الباحث فالح مهدي

زخم الأسئلة عن الجذور وأدوات الصنع

الكاتب فالح مهدي يسعى لتجاوز ماهو مألوف ومكرر أو مستهلك في معظم كتاباته، وبرؤية جديدة في مشروعه النقدي، ويحاول فالح أن يحقق حضوراً متميزاً ومضافاً، فيجد نفسه في حالة إلزام وبحث عن الحقائق في موضوعات فكرية، وبلغات أخرى غير العربية، تفتح أمامه أبواباً واسعة لمعرفة مضافة.

ولعل فالح قدّم للمكتبة العربية إسهامات جديدة أغنت الذهنية الإنسانية بدراسات جادة، كنمط جديد في التفكير والإبداع، منذ أن صدر له (المنقذ) عام 1972، دراسة مقارنة في عقيدة المنتظر بين ثماني ديانات، وللكاتب مهدي إسهامات مهمة في كتابة الرواية والقصة القصيرة، باللغتين العربية والفرنسية، ثم إتجه نحو تناول القضايا الفكرية الأكثر حساسية، تلك التي تتعلق بالمكبوت الديني والإجتماعي والأخلاقي والسياسي في تاريخنا الحديث والقديم، وهو في سائر أعماله هذه ينتبه إلى ماهو مثير في الكتابة، منشغلاً بعمق في الكشف والإضاءة.

إن إختيار فالح مهدي لنهجه الجديد في الكتابة، ليس إختياراً شخصياً فردياً لمادة معرفية، بقدر ماهو إستجابة لحاجة عميقة في الذات تتمثل  بزخم الأسئلة السايكولوجية، الميتافيزيقية، الأنثروبولوجية، السسيولوجية، وعموما هي أسئلة وجودية، عن الحياة والموت، عن الاديان، واللاهوت والطوائف، لذلك كان إختياره لـ(تاريخ الخوف) كميدان للدراسة، إختياراً فكرياً يضرب بجذوره في أعماق الكائن القلق المتسائل، انه إختيار غير عرضي، فالإنسان منذ القديم، يجد نفسه مدفوعاً إلى التساؤل عن مصادر الخوف وأسبابه ودوافعه،

ولكي نقف عند أبعاد (تاريخ الخوف) الصادر عن بيت الياسمين للنشر والتوزيع في مصر 2022، لابد من الإشارة إلى الصعوبة التي تواجه الكاتب في البحث التاريخي، فالباحث فالح مهدي ليس مؤرخاً يعتمد التسلسل التاريخي، إنما هو باحث في المعرفة والفكر، وحسب أوغست كونت، فأن المعرفة الجيدة بمعنى من المعاني لا تتيسر إلا بالإطلاع على تاريخه، كما انه ليس طرفاً في صراعات، ومن ثم فهو لن يوجهها، بل عامل أساس في إخمادها.

توزع الكتاب إلى ستة فصول، تبحث في جذور الخوف، أصوله وبداياته الأولى منذ عصر الصيد وجمع القوت حتى زمننا المعاصر، وتجنب فالح البحث في حالات الخوف (البديهية) كما يصفها، كالذعر والرهبة والهذيان، وفقدان العقل، وراح نحو (العمود الفقري) للكتاب المتمثل بالسؤال : لماذا إستندت كل الديانات إلى موضوع الخوف لكي تقوم ويستقيم أمرها؟ والثيمة الأساسية الثي إعتمدها البحث، هي الخوف الممنهج الذي رسم مسيرة المجتمعات، وتحكّم بطرق أداء وظائفها، وإعادة بناء سلوكها، في ضوءالمنهج الذي إعتمدته الأيديولوجية الدينية والأسطورية منذ مئات السنين، الموت أساس وجوهر مخاوف الإنسان، بل كان العامل الأول في قيام الحضارات، وتطور الثقافات.

1981 تخاريخ الخوف

ان تاريخ المعتقدات الدينية التي سادت كانت من نتائجها الإيحاء بتشييد الإهرام، والقبور، والتوابيت، والمعابد، والكتابات والتماثيل والنصب، والكثير من الصناعات الفنية، والأدوات الموسيقية، وحتى الرقص والموسيقى تقدما بسبب ذلك، ان الدافع لعبادة مظاهرالطبيعة كان بسبب الخوف لإتقاء شرها، وبرأي الفيلسوف الأثيني كريتياس(460-403 ق. م)، ان الناس ابتكروا الآلهة كي يزرعوا الخوف في نفوس الآخرين.

ان صعوبات عديدة تواجه الباحث في دراسة الخوف، فهو موضوع معقد ومتشابك، لانه يتعلق بدراسة تاريخ الذهنيات والأحاسيس الداخلية الدفينة جراء حوادث ووقائع كثيرة، مثل الكوارث والحروب والأوبئة والموت، والمجاعات، والأهوال الكثيرة، ودراسة فالح مهدي تعدّ اضافة جديدة لدراسات سابقة بدأها المؤرخ (جورج لوفيفر) نشرها عام 1932، بعنوان الخوف الكبير عام 1789،خصصها للثورة الفرنسية التي عمّت فيها الفوضى بشكل خطير، وكانت الدراسة حافزاً لدراسات أخرى تشتغل على الخوف كثيمة، أهمها مقالة مهمة للمؤرخ الفرنسي (لوسيان فيفر)، إلا ان أهم عمل صدر عن تاريخ الخوف هو الكتاب المرجع للمؤرخ الفرنسي (جون دوليمو)، بعنوان تاريخ الخوف من القرن 14 الى القرن18الصادرعام1978، ودراسة أخرى للمؤرخ البريطاني (ريتشارد أوفري) حول العصر المريض، نشرت عام2009، وفي كتاب: الخوف تاريخ فكرة  سياسية للامريكي (كوري روبين)، يخلص فيه الى ان الخوف أصبح ركيزة أساسية لدعم السلطة وتبريرها.

في ضوء ذلك يمكن القول ان الخوف كشعور انساني وغريزة طبيعية، أسهم بشكل كبير في صناعة التاريخ العالمي، وان تاريخ البشر ما هو الا يوميات مجتمع يعيش على وقع الخوف بكل أشكاله.

وإذا كان تساؤل فالح مهدي عن إمكانية قراءة تاريخ الخوف وفق المعايير التي إعتمدها في البحث، فان العديد من الآراء والأستنتاجات التي توصل اليها الباحث تستحق المراجعة والتأمل، والمناقشة، منها على سبيل المثال، اشارته الى ان الأيديولوجية الدينية هي التي كرّست صناعة الخوف، وليست تلك الايات التي قادت للذعر، انا افهم ان الايديولوجيا في هذا الحقل اساسها واحد، وفي اشارة أخرى الى ان الانسان الاوربي، كفّت ان تكون بلاده بلاد خوف، بتقديري ان الوقائع والأحداث التي يشهدها العالم الآن وأوربا على وجه الخصوص تقول غير ذلك، فالمخاطر والتهديدات ومصادرالخوف ما تزال ماثلة بوجوه متعددة.

وأمام واقع قاد العالم الى كوارث كبرى بملايين الضحايا والخسائر في حربين عالميتين، هل يمكن الجزم ان نظاماً قام ببنائه لينين وشيده ستالين انه(اكثر الأنظمةإرهاباً في العالم)؟ وإختتم فالح مهدي كتابه بمبحث أخير عنوانه (الرحمة مقابل الخوف)، ناقش فيه كتاب الباحث عبد الجبار الرفاعي (الدين والإغتراب الميتافيزيقي)، بتقديري، ان هذا المبحث بحاجة الى دراسة مستقلة، لا تندرج ضمن كتاب تاريخ الخوف، ربما لأن الكاتب مهدي ذهب الى موضوعة أخرى تتعلق بالحرية لا الخوف،

والملاحظة ذاتها بخصوص النصوص والصلوات والاشعار التي وردت في المتون، اتساءل كم هي أضافت للمضامين غنى وتأثيراً؟

وثمة ملاحظة أخيرة أقولها لانها تأتي ضمن إهتمامي بالإخراج الفني، والطباعي، والتشكيل، وهي ملاحظةأعني بها دار النشر، التي لم تكن موفقة في تصميم الغلاف واخراج الكتاب بالشكل الذي يتناسب واهميته الفكرية والمعرفية، أو مع أهمية اسم الكاتب وحجم الجهد العلمي الذي بذله فيه.

ان الاقتراب من موضوعة الخوف بالبحث والدراسة المعمقة، وبمقاربات متنوعة، يعد مغامرة للكاتب، استطاع فالح مهدي أن يخوضها بجدارة، والكتابة في هذا المجال، تعد إنجازاً له، وللفكر الإنساني.

 

جمال العتّابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم