صحيفة المثقف

علي أسعد وطفة.. أيقونة الابداع في علم الاجتماع التربوي (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديتنا، لنستكشف الجوانب الإبداعية في الريادة الفكرية عند العالم، والمفكر المبدع، والشيق "علي أسعد وطفة" في مجال علم الاجتماع التربوي، وهنا نقول: في حياة الأمم والشعوب أفراداً يتميزون عن غيرهم بحيوية الفعل، وبالقدرة علي التضحية، وقد عرفت سوريا الشقيقة نماذج رائعة من هذا النوع من الرجال الذين شكلوا طلائع الإحساس العميق بضرورة التغيير، وتمتعوا بقدرة كبيرة علي الاستنارة، وكان "علي وطفة"، واحداً من هؤلاء وبداية للطلائع القليلة الواعية التي هاجرت من الوطن إلي المغترب لطلب العلم، وأدرك – منذ وقت مبكر – الفارق الهائل الذي يفصل سوريا عن العالم، واكتشف حالة السبات التاريخي الذي عاشت تحت تأثيرها أجيال متعاقبة من السوريين، معتقدا أن الذي يلاقيه من عناء وتخلف، إنما هو الوضع الطبيعي لكل البشر .

يعد علي "أسعد وطفة" أستاذ علم الاجتماع التربوي اللامع (كما قلنا في المقال الأول)، وأحداً أبرز علامات النخبة السورية فى الوقت الراهن، فضلاً عن كونه الألمع فى مجال تخصصه فى علم الاجتماع التربوي، ورغم اختصاص علي وطفة فى علم الاجتماع التربوي، لكنه كتب فى الفلسفة الدين، وفلسفة التربية، وفلسفة القيم، ويملك إلماما واسعا بتاريخ الفلسفة .

كما لا أنسي كيف استطاع "علي وطفة عبر صفحته على الفيس بوك والواتس، أن يشكل وعى العديد من الشباب والمثقفين، وأن يعيد لعلم الاجتماع التربوي دوره فى صناعة الوعى، وقد ارتضى أن تكون الثقافة الفلسفية طريقه قبل أن يتخصص في هذا العلم، وأن تكون الأفكار هى محور اهتمامه، وأن تكون رسالته متخمة بالعديد من الأفكار الحية التى تنير الوعى وترتقى بالمعرفة الرفيعة.. لقد أعاد "علي وطفة" لعلم الاجتماع التربوي مكانته بين شباب الباحثين وكهولهم، فجذبهم إليه عبر بوستاته ومراسلاته الجميلة، وحفز عقولهم على التفكير والنقاش.. وأشهد أنني والله كنت وما زلت واحداً من هؤلاء .. ما أجمل "علي وطفة" .. وما أرق إنسانيته، وألمعية عقله، حين تتواصل معه تجده نعم الأستاذ والمفكر الخلوق.

ونجد ملامح هذا واضحا في مجال تخصصه وهو مجال علم الاجتماع التربوي ؛ حيث له فيه درس وبحث، ونقد وتعلق، وحكم ورأي وقد وقفت طويلاً أمام دراساته وبحوبه حول علاقة  التربية بالتسامح، وحقوق الإنسان، ولم يكتف بذلك كشف لنا عن الإصلاح التربوي في الوطن العربي، ولا أنسي كلامه الشيق حول هذه المسألة، عندما قال:" تشكل مسألة الاصلاح التربوي واحدة من القضايا الساخنة في مجال الحياة السياسية والاجتماعية للعالم  المعاصر .. وتحفل اليوم الساحة العالمية بالنشاطات السياسية والمؤتمرات التربوية التي تسعي إلي بناء منطق جديد يكفل للتربية أن تتجاوز التحديات التي تحيط بها ويمنحها القدرة علي مواكبة عصف الحضارة التكنولوجية المتقدمة، وعلي احتواء التفجير المعرفي بما تنطوي عليه من خصائص التسارع والتقادم والتنوع.

كما كشفت دراساته وبحوثه الشيقة حول عن جائحة كورونا علي أنه فيلسوف في تخصصه، فلا أنسي أحاديثه وأفكاره ورؤاه الشيقة عن موت المدرسة في زمن كورونا ؛ حيث قال: اعتقد انه لا يجهل أحد اليوم أن جائحة كورونا جاءت علي صورة تسونامي جبارة صدم الحياة الإنسانية برمتها في مختلف جوانبها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تختلف في رأيي هذه الجائحة عن جميع  الأوبئة البيولوجية التي عرفتها الإنسانية عبر تاريخها الطويل لترجمتها الاجتماعية والتربوية، ويمكن القول بأن كورونا بتأثيراتها وارتداداتها كانت جائحة الاجتماعية إنسانية أكثر منها جائحة بيولوجية ويتجلي تأثيرها في مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية والفكرية في الأدب وفي مختلف العلوم والفنون وأصبحت هذه الجائحة كما تعلمون الشغل الشاغل للعلماء والمفكرين والباحثين وقد جاءت هذه  الجائحة لتشكل صدمة علمية مفاجئة للمجتمع الإنساني المعاصر ويعود السبب في رأينا إلي أن الإنسان المعاصر قد استكان كلياً إلي القدرة العبقرية للعلوم والمعارف الإنسانية لإيجاد الحلول السريعة لكل الملمات والجوائح، وجاءت الصدمة عندما وقف العلم كلياً عاجزاً عن تقديم العلاج المناسب خلال أشهر متعاقبة وكانت الأشهر الستة الماضية كافية لتدمير اقتصاديات عدد من الدول والشركات وأحدثت أزمة اجتماعية هائلة  وهذه الصدمة كانت أيضاً اجتماعية وتربوية للمجال الاجتماعية والتربوي إذ هي للمرة الأولي منذ الأنفلونزا الإسبانية التي يُكره فيها الناس أطفالاً وشيوخاً وشباباً علي ملازمة منازلهم في الحجر الصحي المقيت لفترات زمنية طويلة وكان هذا الأمر مفاجئا لعلماء النفس والتربية والمجتمع، وضمن هذه الصدمة وجد علماء الاجتماع والتربية أنفسهم ضمن حقل جديد لم يألفوا وفضاء جديد لم يجدوا الفرصة للنظر في أبعادهما .

ثم يتساءل وطفة هذا السؤال: لماذا الصدمة السوسيولوجية ؟ .. وهنا يجيبنا قائلاً: نتيجة كورونا علي ما اعتقد اهتزت أغلب النظريات الكلاسيكية التي عرفناها في علم الاجتماع، حول التنشئة الاجتماعية وأوجه التفاعل الاجتماعية في أعماق الأسرة، والمؤسسات التربوية.. ونحن اليوم علي ما اعتقد علي أبواب علم جديد وهو علم اجتماع الأوبئة؛ وأيضاً علم آخر وهو علم التربية في زمن  الأوبئة، وهي علوم بدأت تسم خطواتها الأولي تحت تأثير الصدمة الكورونية الجديدة التي هزت أوصال المجتمعات الإنسانية وزلزلت بنيانه، وهذه العلوم كما تلاحظون أخذت طابعاً مستقبلياً، ومما لاشك فيه فقد كانت الصدمة الكبرى في مجال التربية والتعليم ؛ حيث توقفت عجلة التربية، وجائحة كورونا استطاعت أن تضع علي المحك الأنظمة التربوية والاجتماعية في العالم المعاصر .. نعم لقد جاءت كورونا في حقيقة الأمر ليهز أوصال الأنظمة التربوية ويفجر أطراها التقليدية ويضعنا علي مسارات جديدة تهدد الأنظمة التعليمة الحالية وتعلن عن بداية سقوطها التقليدي، فالمدارس والمؤسسات التربوية اليوم، فقدت تحت تأثير الجائحة كثيرا من تألقها وقدرتها علي مواكبة المستجدات في عالم الكوارث والأوبئة ..

ثم يستطرد "أسعد وطفة" قائلاً: وهنا أريد الآن أؤطر لفكرة المسؤولية الاجتماعية، حيث أذكر أنه في النصف الأول من القرن الماضي؛ حيث اتضح أن الأسرة بدأت تتقلص أو يتضاءل دورها في العملية التربوية والاجتماعية، وبدأت تتنازل عن أدوارها لصالح المدرسة والمؤسسات الاجتماعية؛ بحيث أن الأسرة اضطرت للتخلي عن معظم وظائفها خلال العقود الأولي من القرن الماضي، حتي أصبحت بمكان كبير للنوم والراحة والاسترخاء، ولذلك ظهرت كتابات تتحدث عن موت المدرسة، وعن موت العائلة، وفعلا خسرت المدرسة الكثير من وظائفها وتقلصت كثيرا، ولكنها في النصف الثاني من القرن الماضي من القرن العشرين، بدأت المدرسة أيضا بدايات موت المدرسة.. لماذا ؟.. لأن المدرسة بدأت تُوظف ايديولوجيا في خدمة الأنظمة الرأسمالية وبدأت هذه المؤسسات توظف توظيفا ايديولوجيا رأسماليا – مهنيا واضحا، ثم جاءت الثورة الصناعية الثالثة، ثم تلتها الثورة الصناعية الرابعة حتي لاحظنا أن هناك الثورة المعرفية والثورة الرقمية والتي تجلت من خلال الانترنت والجيل الخامس من الاتصالات والذكاء الاصطناعي والريبوتات ... كل هذه ساهمت فيما يسمي بعملية موت المدرسة أو موت التعليم التقليدي، ولذلك كانت المدرسة وقد أُفرغت نهائيا من مضمونها الإنساني ومن مضمونها المعرفي أو مضمونها الأخلاقي، وجاءت كورونا لتدق المسمار الأخير في نعش المدرسة التقليدية وتعلن موتها علنيا، فأغلقت المدارس ورياض الأطفال والجامعات .

وفي مقالة له عن "الهوية الإنسانية في زمن ” الكورونا” قال "علي وطفة": والقضية هنا ليست قضية تتعلق بمصدر هذا الوباء الكوروني، فقد يكون سببه التلوث المرعب الناجم عن التوحش في العادات الغذائية للإنسان المفارق لطبيعته (أكل الحشرات النيئة)، أو قد تكون بواعثه نوعاً من الحروب البيولوجية التي تخوضها الدول الكبرى في الصراع من أجل السيطرة على العالم. ومهما يكن الأمر فإن جائحة كورونا تثير اليوم قضايا فكرية في مختلف المجالات والميادين في الأدب، والفن، والفلسفة، والموسيقا، وعلم الاجتماع، وهي فوق ذلك كله ستكون أكثر القضايا إثارة للوعي الفلسفي الجديد الذي يتعلق بمركزية الإنسان وهويته وانزياحاته المستمرة عن مركزية الكون أي بوصفه غاية للوجود وصانعا للتاريخ وبانيا لأمجاد الحضارة الإنسانية.

ثم يعلن وطفة قائلاً: لقد أثار كورونا صدمة وعي كبرى وشعور لدى الإنسان بالانتماء الواحد إلى المملكة الإنسانية المفتوحة على العالمين الحيواني والجرثومي. والإنسان يدرك اليوم ومنذ الأمس بأنه وجوده مهدد بمخاطر وجودية لا حصر لها، ولكنه لم يأخذ بالحسبان أن اللامتناهيات الصغرى والدقائق المجهرية قد تكون أعظم هذه المخاطر وأشدها فتكا بالإنسان. والآن يطل الكورونا كشكل محتمل لأنواع كثيرة من التهديدات الفيروسية القاتلة التي يمكن أن تؤدي إلى فناء العالم.

وفي النهاية يقول واطفة بأن: مملكة الإنسان مملكة بين الممالك الحيوانية والجرثومية والنباتية تتداخل معها وتتفاعل تفاعلاً وجودياً يحفظ الحياة وينهض بها، ومن غير هذا التفاعل الخلاق قد تتم الإطاحة بالحياة نفسها في مملكتنا الإنسانية المتفردة في الكون. وقد نقول أن فرصة الإنسان ومركزية الإنسان وتميزه لا تقوم على ازدراء ممالك الحياة التي تحيط بنا، بل يجب أن تقوم على الاحترام والتفاعل الحذر والحسابات العقلية لتحديات المصير الإنساني نفسه. فثورة الفايروسات والكوارث الطبيعية ما هي في نهاية الأمر إلا نتاجا لعدوانية الإنسان ضد الطبيعية والممالك الحية فيها وقد حان للإنسان أن يعود إلى رشده وأن يأخذ بالعقلانية الأخلاقية في إدارة المصير تحت عنوان احترام الحياة .

وحتي لا يطول بنا الحديث أقول في نهاية حديثي تحية طيبة لأستاذنا الدكتور "علي أسعد وطفة"، الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ، ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطنى يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم  الفلسفة بكلية الآداب وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم