صحيفة المثقف

الإيمان والأسطورة

حسين علاويتعتبر الأسطورة مفتاح الإيمان ولغته، وعقل وصياغة التفكير الديني.. وهي سابقة على الذهنية الفلسفية والتفكير العلمي.. فهي كانت وما زالت تلعب دوراً مهماً في صياغة الفكر وإدارة الحياة العملية للإنسان، وذلك من خلال الإجابة على أسئلة الكون، وما فوق الطبيعة (الميتافيزيقيا)، والمجتمع وعلم النفس.. فهي مستودعاً للقيم الاجتماعية والثقافية.. وخزين معرفي مبكر للبشرية.. ورغم ما فيها من خرافات إلّا أنها تمنح سلالة الطقوس الدينية وتقاليد العبادة في المجتمعات القديمة نماذج غنية بالأفكار.. ونظرة الإنسان إلى الأسرار الكامنة في الكون، والأمور الغامضة في الحياة، وقد نجد أن الدين والأسطورة هما صنوان متلازمان في الفكر الغربي، بل والعربي السائد.. ورغم أن العقل يُدين الأسطورة، ويُقصيها ويطاردها، ويتخذ موقفاً سلبياً منها، وينفي ويسلب الحقيقة والمطلق منها، ومن ناحية أخرى يتوسل إليها لتبيين الحقائق والكشف عن الأسرار الدفينة في الماضي، وما يستجد في المستقبل، ولا يرى بدّاً منها في معرفة تفسير الكثير من الحقائق في الماضي..

ويعتبر (هيجل) الأسطورة حقيقة لا مفر منها، وهي تعبير عن مرحلة تاريخية وواقعية من الفهم المترابط والمتواصل للحقيقة، ولها صلة بالزمان والمكان ومدى قدرة الإنسان على صور التعاطي مع المفاهيم والاعتبارات المركّبة والمعقّدة.. (هيغل والمثالية المطلقة، ص143، ترجمة: زكريا إبراهيم)

ويعتبر (ريكور) أن الأساطير الدينية الأولى أعطت معنىً قادنا إلى التفكير للخطيئة الأصلية في أسطورة (طرد آدم وحواء من الجنة).. التي تمثل حجر الزاوية في المفاهيم اليهودية والمسيحية والإسلامية.. وهي مجموعة التصورات الدينية المروية، التي تعتمد في حكيِها على الأحداث الأولى المؤسِسة، والتي تهدف من خلالها إلى تأسيس الفعل الإنساني، وبشكل عام تجليات الفكر الإنساني كلها، التي يستطيع من خلالها الإنسان فهم ذاته أمام العالم كله.. (أنظر: الهرمنيوطيقيا الفلسفية وهرمنيوطيقيا النص الديني عند بول ريكور، مصطفى العارف، ص128-129).

ويعتبر عالم النفس (يونغ) أن الأساطير هي محددات رئيسية للتطور البشري، والتي تجسد شكلاً متقدماً من الغرائز، وتؤلف نموذجاً من التنظيم البيولوجي لاشتغالنا النفسي، فإذا قلنا: (الإله) فإنما نعبر عن صورة أو مفهوم لفظي قد تعرّض إلى تغيير كثير على مر الزمان.. ولكننا لا نستطيع القول بدرجة من اليقين إلّا أن يكون ذلك عن اعتقاد أو إيمان (أنظر: الدين والأسطورة، محمد مصطفوي، ص66).

ويتساءل (آرنست كاسبرز): هل الأسطورة تنشأ من قدرة الذهن على التخيّل، أم إن جذورها تكمن في الشهود الواقعي..؟ وهل تكشف عن المرحلة البدائية للمعرفة البشرية والإيمانية، وترجع إلى العقل..؟ أم إنها تتعلق بدائرة الانفعالات العاطفية وتنشأ من الإرادة البشرية..؟

ويكون الجواب: أن العنصر الأساسي الذي له حضور عن كل أشكال الثقافة ويؤدي إلى تشابه الثقافات الأسطورة.. ويرفض تحولها إلى أمر خرافي وغير واقعي.. لأن الأساطير هي من بدأت تروي قصة الخلق وتبيّن كيف نشأ العالم.. وإن الفكر الأسطوري والفكر الديني في العقيدة اليهودية هو من جعل ذات الله وقدرته ترتبط (بإسمه).. بل إن أسماء الله هي التي تحاكي ذات الله وصفاته (أنظر: المصدر السابق، ص42-43).

فالأسطورة لها صلة قوية بالدين والإيمان بالله.. وهي جزء لا يتجزأ من الحضارة الإنسانية، ولا ينبغي اعتبارها قصصاً خرافية وواهية.. وحكايات عادية.. بل إنها تؤدي وظيفة اجتماعية أساسية ترتبط بطبيعة العقائد والتقاليد، وباستمرارية الثقافة، وبالموقف الإنساني من الماضي، ومن عبادة الإنسان.. والأسطورة هي حقيقة اجتماعية تفسَّر بها ومن خلالها قضايا ومسائل اجتماعية أخرى، بما فيها الدين والمعتقدات البشرية على مر التاريخ..

وقد عرّف (الياد ميرسيا) الأسطورة: بأنها تاريخ حقيقي وقع في بداية الزمان، ويستعمل نموذجاً للمسائل البشرية.. وإن الرمز هو المقدس عينه، في حين أن تجلياته هي صورهُ وأشكاله المتعددة والمتباينة.. والتجلي يكون في الحجر والصخرة والنصب والوثن.. أما الرموز فهي تجسيد للألوهية، وليس علامات تعسفية، معلقة في الفراغ، فالديني مهما كان بدائياً أم متمدناً، فهو حتماً يفكر بواسطة الرموز، وهو ما يزكيه (مارسيل موس) معتبراً أنه لا يمكن فهم مغزى أي صلاة، إذا لم يعترف بفاعلية الكلمة.. وإنّ أكثر هذه الرموز موجودة في الأديان الكبرى، حائط المبكى، تماثيل وصور المسيح، مكة... وغيرها. (أنظر: الياد ميرسيا، الحنين إلى الأصول في منهجة الأديان وتاريخها، ص17، 23.

فالأسطورة فضاء من المرويات والألغاز والمعاني، وكون من الآيات.. ولهذا تفسر لنا كل حدث، وتجيب على كل سؤال.. فلا شيء يبقى دون تفسير ما دمنا نعتقد بأنَّ لكل شيء في الكون دلالاته ومغزاه، وما دمنا نقرأ في كل ظاهرة طبيعية توقيع القوة العلوية التي تدير العالم وتدبّره.. وما دمنا نرى في كل حدث تاريخي سراً من أسرار العالم الإلهي.. فالأسطورة كانت وما زالت شريعة للتحليل والتحريم.. وثقافة لخلق الإنسان، ولبداية ونهاية الكون.. وهي التي أعطتنا الاعتقاد والبرهان على الغيب والقول بالإيمان.

 

حسين علاوي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم