صحيفة المثقف

علي القاسمي وشهادات المغاربة له بالريادة الفكرية (1)

محمود محمد علي

ما زلت أؤمن بل ربما أكثر من أي وقت مضي بأن الأستاذ الدكتور "علي بن الحاج محمد بن الحاج عيسى بن الحاج حسين القاسمي" (المعروف بالدكتور علي القاسمي) ليس مجرد  أستاذ جامعي عراقي عادي يعمل في دولة المغرب الشقيقة، فمعرفتي عن زملائنا المغاربة أنهم ينظرون إليه بوصفه رمزاً من أبرز الرموز العراقية في مجال اللسانيات - تخصُّص المعجمية؛  كما يمثل لهم أيضاً قيمة كبيرة وشعلة من التنوير الفكري التي بدأها منذ أكثر نصف  قرن باحثاً ومنقباً عن الحقيقة والحكمة . إنه الباحث عن سبيل يحفظ للإنسان حريته وكرامته فهو ينقب في ثنايا علم المصطلح، صناعة المعجم، الترجمة ونظرياتها، التنمية البشرية، حقوق الإنسان، القصة القصيرة، الرواية، النقد الأدبي المعاصر، التاريخ الفكري.، لكنه لا يسلم به من ما يكتب عنه من قبل زملائه الباحثين، بل لديه قدرة عظيمة علي أن يلقي بنفسه في خضم المشكلات المطروحة، ويشق لنفسه طريقه الخاص غير عابئ بما يقوله هذا العالم أو ذاك من الأعلام  الشوامخ.

وإذا كنت لم ألتقي بالدكتور علي القاسمي إلا أنني أستطيع أن أقول عنه من خلال معرفتي القصيرة به؛  بأنه يعد بحق أحد القامات الأدبية الرفيعة  الباقية في العراق والعالم العربي، ومهما كُتبت عنه فلن تأتي الكتابة، مع الجهد المبذول فيها، وافية لحقه مقرّرة لحظه الوافر من العناية بمبدعي الفكر واللغة والأدب .

فالرجل لعلمه الغزير وثقافته الواسعة، ولأخلاقه الأصيلة، مطبوع على البحث والدرس والتفكير، أمين غاية الأمانة فيما يكتب ويستخلص من مباحث،وآراء، فهو والله حلو المعشر، جميل الأحدوثة، يجذبك برُقيّه، وسمو روحه، وفكاهته، إلى درجة تعجب فيها أن تصدر تلك الفكاهة عن لغوي ومعجمي ومحقق وأديب وفيلسوف، عاش بين الآراء الجادة والمباحث العميقة سنوات عمره المنتجة، ولم يفقد مع ذلك روح الدعابة والمرح؛ لكأنه يريد أن يلطّف جفاف الفكرة بخفّة الروح الحانية.

أنا شخصيّاً أحببته بما سمعت عنه بأنه كان عميق الفكرة، خفيف الظل، يألفه النظر، ويعشقه القلب من أول وهلة، لا يضنّ برأيه على مسترشد، ولا يتهجم في وجه طالب علم، ولم يعرف لسانه العف كلمة نابية، ولم تكن الأخلاق التي قضى حياته يدرسها، ويدرّسها، وينظّر لها، ويحللها، مُجرّد أقوال لعلماء اللغة والأدب بل كان يستقيها من روحه ويستدعيها من ضميره، يستحضرها حيّة عاملة فاعلة لتكون فيه حقيقة لا صورة.

ولأجل ذلك شهدوا له إخواننا المغاربة المتخصصين في علوم اللغة والأدب بالفضل، وشهادتهم لم تأتي تملقاً، ولا رياءً، فهم يقدرون العلماء حق قدرهم، وقديماً قيل " لو كان العلم في الثريا لناله رجال من فارس" (وفارس هنا يُقصد بها أرض العراق القديمة)، فمن فارس خرج منها، أبو الأسود الدوؤلي، سيبويه، وأبو زكريا الفراء، وأبو كر السراج، كذلك خرج منها علي القاسمي ليستقر في المغرب، والمغاربة لا يأوون أحد بينهم بسهولة إلا كان بالفعل يستحق ذلك.

ولا أنسي الدراسة الشيقة والرائعة التي كتبت عنه في سفر ضخم بعنوان " الدكتور علي القاسمي سيرة ومسيرة .. مجموعة بحوث ودراسات مهداه إليه بمناسبة عيد ميلاده الخامس والسبعين"  والتي صدرت عن دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر بجمهورية مصر العربية، والذي أعده الناقد الأديب الأستاذ الدكتور منتصر أمين عبد الرحيم، وطبعه على حسابه ليصدر الكتاب في عيد ميلاده الـ 75.

وهنا أستأذن القارئ الكريم باختيار نماذج من العلماء والمفكرين المغاربة الذين أدلو بشهادتهم في حقه من خلال البرنامج الذي أذيع بالمغرب العربي تحت عنوان " الدكتور علي القاسمي في ضيافة الرواية المسافرة"، ونختار شهادة الدكتور عبد المالك أشهبون، والدكتور "عبد الرحيم وهابي، والدكتور محمد الفتحي، والدكتور عبد الواحد المرابط، وعبد السميع بنصابر..

نبدأ بشهادة  الناقد المغربي الدكتور عبد المالك أشهبون وذلك من خلال دراسته النقدية هذه البحث عن مظاهر التجديد في متون السردية (الروائية والقصصية) عند علي القاسمي؛ حيث قال : يعد علي القاسمي من الكتاب المشارقة الذين كتبوا سيرتهم الذاتية بطرقة مباشرة أو غير مباشرة مستحضرين المغرب محطة رئيسة في ترحالهم خارج الوطن الأم .. من أبرز تلك السير نذكر علي سبيل المثال لا الحصر أيام الرباط الأولي للكاتب والصحفي السوداني طلحة جبريل وكتاب "بعض مني" للناشط الفلسطيني البارز واصف منصور، وكتاب جدل الأنا والآخر للمرخ فارس محمود إسماعيل، وأخيراً وليس آخراً السيرة الروائية الموسومة بعنوان "مرافق العشق السبعة" للكاتب والأكاديمي العراقي المقيم في المغرب علي القاسمي، كما أن هناك بلدانا رسخت في دخيلة علي القاسمي  وطأة الاغتراب كالولايات المتحدة علي سبيل المثال، فإننا نجد  أن هناك  بلداناً أخري مكنته من الاستقرار، ووفرت له الحد الأدني، من الدفئ النفسي والدعم المعنوي، وذلك ما حصل له عند وصوله إلي المغرب في سبعينيات القرن الماضي في مهمة أكاديمية لإلقاء الدرس بجامعة محمد الخامس بالرباط ليتحول هذا اللقاء العابر إلي رباط آسر وعروة وثيقي لهذا البلد ..  ومن المؤكد أنه أحياناً يكون الدر في الوطن الغربة والعدل في الغربة وطناً ثاني تمشياً مع جوهر هذا القول، اعتبر القاسمي إحدى شهاداته، المغرب بلده الثاني بعد  العرق، حيث يقول في هذا المضمار :" أكثر من خمسة وثلاثين عاما بدأت أحس أن حب المغرب تغلغل في حنايا الروح وسويداء القلب ورحاب الفكر، وإني من المغرب والمغرب مني "... وهذه الشهادة تعبر بصدق عن علاقة المغرب أو علاقة علي القاسمي بالمغرب .. من هنا لم يكن المغرب مكاناً للعبور إلي مرافق أخري بالنسبة لعلي القاسمي، بل فضائاً جتاباً وآسراً حميمياً فيه عوض عثراته حين لاذ بلوحته وارفة  الظلال، بل وجعل هذا البلد مستقر حيث لم يبرحه إلا لكي يعود إليه مشتاقاً،  حتي أصبح علي مر السنين جزء من سيرته التي تتعدد وتتنوع منها ما هو معرفي أكاديمي ومنها ما اجتماعي ومنها ما هو وجداني عاطفي، فقد كان التفكير في الرحلة إلي المغرب يسوده الكثر من علامات الاستفهام في البداية،  وحين حل علي القاسم ضيفا هذا البلد سيفسح له الحياة في ربوعه طولا وعرضا، ذهاباً وإياباً، زائراً أو مقيماً، حيث سينتقل في المقام المغربي من ممارسة التدريس إلي  المغرب  وخارجه  والعودة إليه مرة أخري إلي مزاولة مهام جديدة – فكرية، وفلسفية، وأكاديمية، وإدارية، أبلي فيها كل البلاء الحسن، وفي ذات الوقت سمح له المقام في المغرب، أن يكتشف حقولاً بعيدة وعميقة من العشق المغربي للعراق، وبانفتاحه علي المثقفين المغاربة الذين وجدو فيه قلماً رصيناً في الابداع والبحث الاكاديميين، له مني كل التقدير والتحية..

كما قال عنه الباحث المغربي الدكتور "عبد الرحيم وهابي " ( الحاصل علي شهادة الدكتوراه في التواصل وتحليل الخطأ والحاصل أيضا علي جائزة كتارا للرواية العربية): بأنه هذه ليست المرة الأولي التي أشارك فيها للحديث في قراءة أعمال علي القاسمي، فقد سبق أن تحدثت عنه في عام 2013 بالمركز الإعلامي بمدينة "فاس"؛ حيث تحدثت عنه بعض الكتب، مثل كتاب سيرة ومسيرة للدكتور منتصر أمبن، وكتاب في اللسانيات. والادب والترجمة وهو أعمال ندوة عني في كلية بمدينة تازة... وهنا يمكننا القول بأنه قد يصعب الإحاطة في دقائق لإحصاء المشروع العلمي والاكاديمي والأدبي للدكتور علي القاسمي، وذلك نظراً للمجالات الكثيرة التي كتب فيها، وأغني بها الخزانة العربية في الترجمة المعجمية والمصطلحية والنقد الأدبي إلي آخره، ولكني سأركز علي خصائص أفكاره العامة والتي التي طبعت كتاباته الثرية والتي يمكن أن أجملها في ثلاثة خصائص، الخاصية الأولي، وهي تلك الرؤية الفلسفية والفكرية التي تطبع أعماله وقدرته علي إثراء المعرفة وجعل الرواية موسوعة تتناثر بها الأفكار والآراء والثقافات، فالسرد عند "علي القاسمي" دائما يستبطن رؤية فلسفية؛ حيث يستعيض آراءه في قضايا وجودية وإنسانية وأدبية وفلسفية مستقبلاً مجموعة من الطرفات مع عدد من المفكرين والأدباء، بل إنه قد يجعل من عنصر ما خلفية للتعبير عن هوية وجودية كما فعل مع عنصر ما في رواية " مرافي الحب السبعة" وكنت قد كتبت دراسة حول هذا الموضوع نشرتها في إحدى المجلات بينت فيها كيف جعل السرد عنصرا ما مهيمنا ومحركا للحديث ومعبرا عن الذات السعيدة، وفي هذا السياق نشرت مقالا بعنوان " ما وراء الحكي في رواية " مرافي الحب السبعة"، بينت فيها كيف يتحول السرد في بعض المواقف إلي ناقد يقدم آراءه عن خيال وهو باسم الكتابة وقضايا القراءة وطبعا هذه سمة عامة تتبع كتابات أو روايات ما بعد الحداثة .. الخاصية الثانية والتي تتبع السردية عند "علي القاسمي" هي جعل السرد خلفية للتعبير عن الهويات العرية والثقافية والسياسية إلي آخره، فالشخصيات لا تعبر عن ذاتها بقدر ما تعبر عن انتمائها ولذلك فالشخصيات عند علي القاسمي هي من جنسيات وهويات مختلفة حيث تحضر هوية كردية وهوية أمريكية وهو أوربية والهوية السوداء والهوية اليهودية إلي آخره، ومن هنا يحقق علي القاسمي في كتاباته السردية ما يسميه بحث متعدد الأصوات وهي أصوات يستطلعها علي القاسمي لإلقاء الضوء علي الكثير من الرواية التاريخية والاجتماعية والسياسية إلي  آخره .. الخاصية الثالثة والتي سأقف عندها الطاقة التأويلية والتي تنطوي عليها أعمال علي القاسمي السردية كما هو الشأن مثلا في رواية " مرافي الحب السبعة" حيث الاقتباس عن امتداد الرواية بين الخيال والواقع، بين الرواية والسيرة الذاتية، إذ علي الرغم من أن "علي القاسمي" جعل " مرافي الحب السبعة" رواية، لكن القارئ يلاحظ ذلك التقاطع العجيب بينها وبين سيرته حيث يتنقل البطل بين العراق وبيروت وأوسلو وأمريكا والمغرب ويمس الأماكن التي عاش فيها "علي القاسمي" .. إذن فهناك هذا الارتباك علي مستوي النص وتأويله أهو رواية أم سيرة ذاتية!، كما يستثمر "علي القاسمي" في كل أعماله القصصية والسرد والرواية وضوع الحلو وهناك دائما أحلام يفردها البطل ويترك تأويلها للقارئ مثلا شكل الحلم بؤرة .. وللحديث بقية ..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم