صحيفة المثقف

من طنطا إلى باريس حينما اغلقت المدينة عينيها

قاسم المحبشيقراءة عابرة للديوان والشاعرة فتحية الفرارجي

الشعر هو نبض الكينونة وصوت الكائن حينما تتوقد المشاعر في روح الإنسان وعقله الباطن. في الشعر وحده يحتدم الانفعال العاطفي مع الخيال الشاعري بإزاء موقف أو حدث أو قضية وينجب القصيدة بوصفها انزياحا إبداعيًا متساميا للكائن، تجعله يحلق في الآفاق المتسامية على أجنحة الصور والمعاني المرهفة الحس والرمز والدالة. مزاولة الشعر ليست بالأمر اليسر كما قد يعتقد من لا يكابد تجربة الشاعر ويعيش لحظة الإنجذاب الصوفي في موقد الاحتراق الداخلي للحدس والكلمة والإيقاع.

فلا يَعرِفُ الشَوقَ إِلّا مَن يُكابِدُه وَلا الصَبابَةَ إِلّا مَن يُعانيها. وحينما ينقدح القصيدة في قلب أنثى جميلة ومثقفة يكون للشعر قيمة ومعنى. إذ تكتسب الحروف والكلمات ملامح حانية ومعاني حميمة. سيدة أربعينية وقورة استمعت اليها وهي تلقي مداخلته الأكاديمية في مؤتمر مناهضة العنف ضد المرأة بشرم الشيخ بعنوان (حياة القوارير بين الصراعات المجتمعية والمؤسسات التعليمية؛ المرأة المعاصرة بين التحديات المجتمعية ومهام جديدة للمؤسسات التعليمية) تكلمت بلغة علمية ومنهجية رصينة؛ أنها الأستاذة الدكتورة فتحية الفرارجي من طنطا الخضراء. تناولت ورقتها مسألة بالغة الحيوية والأهمية عن تحديات الحضارة المعاصرة واثار الثورة المعلوماتية والتحول الرقمي في المؤسسات التعليمية ومنتسبيها من الطلاب والطالبات إذ اشارت إلى أن التعليم الالكتروني يعد أحد نتائج الثورة المعلوماتية التي تميزت بها موجة الحضارة الإنسانية الراهنة؛ حضارة انتصار المعرفة بما تشتمل عليه من بيانات، ومعلومات، وإعلام، وصور، ورموز، وثقافة، وأيديولوجية، وقيم وفاعلين وأفعال وتفاعلات وصراعات بحسب اولفين توفلر. الذي يرى أن المعرفة بهذا المعنى الواسع هي " البديل الجوهري " عن القوة الطبيعية الممثلة في الأرض التي سادت في الحضارة الزراعية، وعن القوة الصناعية الممثلة في المصنع التي سادت حضارتي الموجتين الأولى والثانية. إذ أن كل الأنظمة الاقتصادية اليوم تقوم على أساس " قاعدة معرفية (معلومات، بيانات، حسابات أرقام ... الخ ) وتعتمد المشروعات المعاصرة جميعها على الوجود المسبق لهذا المورد المعرفية المبنى مجتمعياً. ذلك التحدي الذي يتمثل بالتغيرات المتسارعة في مختلف مناحي حياة المجتمع اليوم تجعل مفاهيم التربية والتعليم التقليدية موضع للتساؤل: إذ كيف نعلّم التلاميذ بينما هناك نظريات ومناهج وموضوعات يكون قد عفا عليها الزمن قبل أن يترك التلاميذ مقاعدهم في المدرسة، إضافة إلي أننا نعيش لحظة تاريخية فارقة تجعل التغييرات في الأشخاص عاجزة عن ملاحقة سرعة التغيرات الاجتماعية والثقافية والعلمية المتسارعة في العالم المعولماتي الذي يشهد انفجار الثورة العلمية والتقنية الرقمية على نحو لم يسبق له مثيل منذ بدء الخليقة حتى الآن، واعني إن المعارف العلمية والقيم التربوية في عصر العولمة وانكماش الزمان والمكان تعيش حالة من التغيير والتبدل بوتيرة متسارعة في بضع ساعات فقط بل في جزء من الساعة . وهذا يعني إن تحديات الحياة المعاصرة لا يمكن مواجهتها إلا بالاستجابة الإيجابية الفعالة، وتلك الاستجابة لا يمكنها أن تكون إلا بتغيير جذري في أدوات ومحتويات ووسائل وطرق التربية والتعليم العتيقة. فمجتمع الغد أما أن يكون في الروضة والمدرسة والجامعة أو لا يكون. وهكذا يظل سؤال التربية الملح كما كان في كل العصور. ماذا نريد أن نكون؟ فكيف يمكن مواجهة تلك التحديات  فى بناء شخصية المرأة من عنف لفظى، واغتصاب خصوصيتها وغياب الأمن السيبرانى؟ هل تسهم دراسة الثقافات واللغات فى مواجهة هذا التحدى؟ الارهاب النفسى للمتدينات سواء مسيحية أو مسلمة فى المجتمعات الغربية من المسؤل عن مكافحته؟ أمام خطاب الكراهية وتحويل عالم الرجل والمرأة إلى حلبة صراع تحت مسمى المساواة، هل ستتحمل المرأة فقدان قوامة الرجل ؟ تلك الأسئلة وغيرها هي التي تناولتها استاذة اللغة الفرنسية في كلية التربية جامعة طنطا.

ولا غرابة أن تكون استاذة اللغة الفرنسية شاعرة طالما وهي متخصصة في لغة انجبت رينه ديكارت وجان بول سارتر وميشيل فوكو والبير كامو وسيمون دي بوفار وآرثر رامبو وشارل بودلير وميلان كونديرا.

وعلى مدى ثلاثة أيام من أعمال المؤتمر تعارفنا وعرفت أنها درست في باريس وصارت استاذة للغة الفرنسية وآدابها في جامعة طنطا المصرية العريقة واخبرني بأنها تقرض الشعر ولها دواوين منه. وعدتني بأن تهديني ديوانها وهذا ما تحقق في سفينة الحلم العربي بالقاهرة. أهدتني ديوان

بعنوان وأغلقت المدينة عينيها! مشفوعا بتوقيعها الكريم. العنوان وحده قصيدة. ذكرني ذلك العنوان الباذخ الجمال بسيدة العاشقين رابعة العدوية حينما عبرت عن تباريح عشقها الالهي بقولها الشهير:" إلهي أنارت النجوم، ونامت العيون، وغلَّقت المدن أبوابها، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك.. إلهي هذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، فليت شعري أقبلت منى ليلتي فأهنأ، أم رددتها على فأعزى، فوعزتك هذا دأبي ما أحييتني وأعنتني، وعزتك لو طردتني عن بابك ما برحت عنه لما وقع في قلبي من محبتك"

وأن تستهل العام الجديد بديون شعري فهذا

أمر يحمل الكثير من المعاني والبشائر السارة.

أخذت المدينة التي أغمضت عينيها فرحا بوجبة ثقافية إبداعية عابرة للأطلسي. وأنا اتصفح الديون تداعت إلى ذاكرتي باريس الوجود والعدم ل جان بول سارتر والغريب ل كامو واللامرئي لميرلوبونتي. إذ كانت رسالة في الماجستير عن الوجود والماهية في فلسفة جان بول سارتر فيلسوف الحرية.

ذهبت الشابة فتحية الفرارجي إلى باريس الحلم والعلم والأنوار فلم تدهشها كما دهشت أوائل القادمين من الشرق وأولهم رفاعة رافع الطنطاوي أول الموفدين المصريين للدراسة في باريس فكتب كتابه المهم تخليص الابريز فى تلخيص باريز " والذي اظهر فيه انبهاره الكبير بالحضاره الفرنساويه. طالبة الدراسة العليا التي تشربت ثقافة أم الدنيا  وتعلمت في جامعتها ذهبت باريس محمولة على أجنحة الثقافة المصرية الحانية فانشدت لباريس تباريح شوق الزائر الغريب إذ كتبت في أغمضت المدينة عينيها:

باريس شوارعك متاحف مفتوحة

بريقها  يَشفى رموشى المجروحة

اطوف فاسمع عزف سمسمية

ويهيم قلبى فى جزيرة منسية

غروبها بأسوان العتــــــــــــــــية

عزمها....عزفها مصانع الغربية الأبية

والسيد البدوي و أصحاب النفوس الذكية

والمرسي أبو العباس و نسمات اسكندرية

تبثها سواقىى الفيوم وندى المنوفية

أولادها قادة و للسادات زعامه دولية

والسيد الدسوقي ذي النفس المرضية

و الدقهلية والقليوبية وقنال الإسماعيلية

والقاهرة واهرامات الجيزة

وفاكهة البحيرة اللذيذة

وعيون موسى وراس محمد بسيناء

وكفر الشيخ و كلياتها الغراء

والبحر الأحمر وشِعابها العلياء

و بنى سويف و السويس الغراّء

ونفرتيتى بالمنيا والأقصر الينعاء

واسيوط وسوهاج الغنّاء

 باريس القاك وقلبى فى السحاب

واحلم بمصر متقدمة تفتح ألف باب

 إنها مصر باهراماتها وقلعتها الأبية

وازهرها الزاهر وكنائسها النقية

ما أجمل لحظة غروب شمسها

و شروق حضارتها الإنسانية.

وهكذا يبدأ الفن لا من اللحم والدم بل من المنزل، من المكان (الإقليم)، فكل الألحان، كل الأزمات الصغيرة المؤطرة السكن، الوطن، الإقليم، الطفولة، المهنة، اللهجة، الثقافة هي مشحونة في اللازمة الكبرى، أغنية الأرض  المنتزعة من أرضها. لقد حملت طالبة اللغات ذكرياتها في مسقط ومدارج الصبا والامكنة في حلها وترحالها. فها هي  مصر وبلدتها ورموزها الحانية تحضر في باريس على أجنحة الحلم والحب والأمل فظمأ قلب الشاعرة الغريبة لم ترويه باريس المثيرة للزائرين  بل يزداد لهيباً وعطشاً، إنها كمن يشرب مياه البحر، كلما شرب زاد عطشه، ولا يرتوي ظماه حتى لو شرب البحر كله. الديون يظم أكثر من اربعين قصيدة منها تلك التي تمثلت فيها الشاعرة صوت الذكر

وهو ينظر إلى جسد الحبيبة المسجاة أمام ناظريه إذ كتبت: 

انظر إليها عندما تكشف عن ساقيها

ويتهادى السحاب على جناحيها

فتغزوه و ينبض بين ذراعيها

وهى تتمايل برشاقة وتعلو بنهديها

فترمى شِباكــــــــــــها

تلتقط نظرتك من بعيد

وفى كونك تذهب أنت وتُعيد

ففى البعد تلتصق الذات

وفى كثرة القرب تندثر الملذات

بجوفها تضغط ...و تضخ أقلامنا

فتكبر و تتضخم أحلامنا

و تحت الأقدام تصغر جبالنا

وتشدُ من الصمت حِبال كلماتنا

فتغزل خيوط الزمان

فيضمنى ويضمنى الأمان

وتمسك بيدى وتحملنى للمكان

انظر إليها عندما تكشف ساقيها

ويتهادى السحاب على جناحيها

ربما كانت الحبيبة هنا هي مصر الحانية

وربما كانت غيمة شارة في سماء باريس وربما كانت حبيبة متخيلة حالة عشقية انعكاسية.

للشاعرة الأكاديمية دواوين أخرى منها؛

صهيل الخيول وألبابها ونبض الورد على الثلج

وجنين في القلب المجروح ولها مؤلفات أخرى

 

ا. د. قاسم المحبشي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم