صحيفة المثقف

أي الأسبق في النفس: الإلحاد أم الإيمان؟

ريكان ابراهيمفي علم النفس الديني (2)

إن الخوف هو المفردة الأولى من مفردات السلوك البشري الذي يواجه به الإنسان الكينونة من حولهِ. وأكبر الخوف هو الخوف من المجهول. ولا يستقر الخائف إلا بظهور مفردة أو مفردتين مع بعضهما ونعني بهما: إكتشاف مصدر الخوف، ووجود المطمئن من هذا الخوف.

فمعرفة مصدر الخوف تٌحدده فتَحِده فَتٌحجمٌ شأنه فيصغر فيقوى عليه الخائف. كما أن معرفة المطمئن من الخوف تقود إلى إكتشاف السند الذي يلجأ إليه الخائف فيوكل إليه آلية التخلص من هذا الخوف

يقودنا هذا الإستدراج الذهني إلى إمكان القول أن الإنسان كائن مٌنتم بالفطرة إلى الأقوى منه، ليس بحكم حٌبِ الإنتماء، إنما بحكم ضرورة الولاء لمصلحته الذاتية، التي يراها تتحقق بموالاة الأقوى.

إنَ الظاهرات الطبيعية (مصادر التخويف) التي واجهها الإنسان تشمل ما يأتي من السماء وما ينشأ من الأرض، كالرعد والبرق والإعصار مثالاً على النوع الأول، وكالزلزال والفيضان والوباء المرضي مثالاً على النوع الثاني.

وأمام هذين المصدرين للخوف (السماء والأرض) يبرز مصدر آخر لخوف الإنسان ونعني به: خوف الإنسان من نفسه. فالنفس البشرية هي (مخيف) يتهدَد الإنسان منذ اليوم الأول لولادته وحتى موتِه.

وحينما كان الإنسان جاهلاً بمصدر القوة التي تقف وراء هذه الظاهرات المٌحدثة (ما يأتي من السماء وما ينشأ من الأرض وما يعتمل في النفس)، فإنه كان يلجأ إلى عبادة الظاهرة بدلاً من عبادة مٌحدِثُها. فهو لا يعرف مصدر البرق والرعد فيعبدهما لشرِهما (العبادة الخائفة)، وهو لا يعرف لماذا يغيب المطر فيعبد الغيمة زلفى لجودها به، وسرى هذا النوع من العبادة على الزلزال والإعصار والبركان وكذلك على الطاعون وفيضان النهر.

هذا هو الإنسان المنتمي إلى مزيلات خوفه بالتعامل الحسي الفاقد لأية قدرة على التعامل اللاحسي. فما لا يُدركه لا يؤمن به، وما يُشاهده أو يسمعه يتوقاه بالتقرب إليه مباشرة أو بغير مباشرة.

***

وتدرج الإنسان الأول في البحث عن القوة (وليس عن ناتجها وهو الظاهرة) بعد أن فقدَ الرجاء في معاونة الظاهرة له على تجاوز خوفهِ. ومن هنا نشأَ تعددُ الآلهة. ووزَع وعي الإنسان القديم الآلهة توزيعاً وظيفياً فإلهٌ للنار وإلهٌ للموت وإلهٌ للحُب وإلهٌ للحياة....إلخ

إن قصور الذهن البشري عن إدراك وجود إله واحدٍ قادرٍ على إدارة كل هذه الظاهرات الكونية هو الذي قاد الإنسان إلى تَعدد الآلهة. إن عملية الإلحاد عمليةٌ أسهل من الإيمان والتوحيد ذلك لأن الإلحاد لا يحتاج إلى إعمال التفكير والتدبر والمقارنة بين السبب والنتيجة وبين العلِة والمعلول على عكس ما يكون عليه الإيمان الذي يعتمد على الفكر الإستنباطي (Abstractive Thinking)، وهو أعلى درجات التفكير. لقد أفرز التاريخ البشري أُناساً عظماء في الفكر ومبدعين في الإنتاج الثقافي ولكنهم كانوا ملحدين. والسبب في ذلك أنهم كانوا من عُشاق التعامل الحسي مع الظواهر (الظاهرات).

وبالحس المباشر لا يمكن إدراك ما هو فوق الحس. إن الإيمان بالله الواحد له معايير (Criteria) مثلما لكل ظاهرة أخرى على الرغم من تفرِد هذه الظاهرة بمعايير ها الخاصة والتي تشمل:

1- إنتفاء الزمان والمكان في تحديد مفهوم كلمات (الأزل) و(الأبد).

2- التحقق الكامل لكلمة (المُطلق) في الذات الإلهية يقابلها التحقق الكامل لكلمة (الجزئي) في ذوات أُخرى.

3- إختفاء الكلمات الوصفية وعجز اللغة عن وضع صورة نهائية للخالق.

4- الإعتراف بأنَ المُغيب لا يعني عدم وجودهِ بل يعني أيضاً قصور وسائل إدراكه عن مهمتها.

5- لا يملك سؤال "الله هو الخالق لكن من خَلقَه؟" قدرةَ على إيجاد جواب له، لأنَ هذا السؤال يصلح لمخلوقات مُدركة بالحس ومسألة الله فوق الحس ولا تكفي اللغة أن تحير جواباً لمثل هذا التساؤل.

6- العِلم الحقيقي هو الذي يُخبرك عما عَلِمهُ عن الشيء ولا يتبجَح بإنكاره ما لا يعرف وعدم معرفة الناس بالله لا يعني عدم وجودِه.

***

إن تقدُم الإنسان في إكتشاف الكثير من أسباب حدوث الظاهرات التي كانت تُخيفه ولا يملك تعليلاً أو تفسيراً لم ينتصر على إستمرار خوفه، وذلك بسبب عدم قدرته على إستخدام هذا الإكتشاف في منع تكرر هذه الظاهرة أو تلك. مثالاً على ذلك: في الإتحاد السوفيتي السابق حصل تقدمٌ كبير في الإستنباء بالزلازل في الأرض السوفيتية بإستخدام القدرات الفائقة لبعض الحيوانات (الديكة والأفعى والجرذان) للكشف المبكر عن الزلزال القادم قبل وقوعه وأفاد الباحثون كثيراً لكنَ الخوف لم يكن ليزول لأنَ المهم ليس إكتشاف الزلزال إنما المهم هو الإجابة عن السؤال الأكبر وهو لماذا يحدث الزلزال وفي هذا الوقت وفي هذه المنطقة دون غيرها ليموت هؤلاء الناس ولا يموت غيرهم. وظل الحال في هذا المثال قائِما ليُميز الباحثين الذين اضطروا أخيراً إلى فهم الأمر على أنه تدبير فوقي من قوة أكبر من المُدرك الإنساني. وأمام هذا الإعتراف (سَمه الإستسلام) نشأ الإيمان بالقوة الأكبر وهي الله.

***

بين منزلة الإلحاد ومنزلة الأيمان تقوم عند الإنسان مرحلة أو منزلة اسمها (اللاأدرية). وتنشأ هذه المنزلة من التفكير حين لا تكفي هذا الإنسان أدوات الإلحاد كما لا تكفيهِ أدوات الإيمان. فيظل يجاهد ويجتهد إلى أن يجهد فيؤول أمره إلى إستراحة عقلية من تعبه في هذه المساجلة فيفوض حالته إلى تجاهل السؤال الباحث ويقف عند اللاأدرية.

وحينما تطول لديه هذه المرحلة أو المنزلة ينشأ عنده مبدأ الإيمان بالصُدفة. والصُدفة التي يُعبر عنها في اللغة الإنجليزية ب "By chance" وبكلمات أدَق من هذه الكلمة مثل "Co-incidence" أو "Accidental". هذه الصٌدفة في التعبير الأكثر عَجزاً عن الإتيان بأية حالة إرضاء للسؤال.

فلا يمكن أن تشرح الصُدفة هذا الإتسَاق المزمن في الفسلجة والكيمياء الحيَة في الكائن الحيَ كما لا يمكن أن أن تضع شرحاً لهارمونية الكون. إن الناموس الذي يحكم الكينونة يُحيِد "دور الصدفة". وأمام (اللاأدرية) يعود الإنسان إلى دائرة القلق، فيغادرها إما إلى الإلحاد والإنكار أو إلى الإيمان. إن الإيمان الناشيء من عدم القدرة على الإلحاد خوفاً أو رهبة هو أضعف الإيمان لأنه يُمثل الموالاة ولا يٌمثل الإنتماء.

***

إنَ عظمة الإله المُطلقة التي لا يَحدُها وصف ولا ترسمها كلمات حَدت بكثيرين إلى الإلحاد بهذا الإله وقد يستغرب القارىء ذلك. ولكي نزيل عن القارىء إستغرابه نذكرِه بأنَ قصور مخيلته "his Imagination" عن التعامل مع المُطلق هو السبب في إنحسار قدرته على الإيمان. إنك لا تستطيع أن تتعامل مع كلمة " إله" على أنها تعني رئيساً لمرؤوسين أو قائداً لمقادين، أو مديراً يجلس في مكتبه في ساعات الدوام محدودة مٌقررة ليصدر أوامره إلى هذا أو ذاك. هذا لا يجوز وبمثله لا يمكن أن تدرك عظمة الله.

إن المُلحد في حيرة دائمة، حتى في محاولة فهمه للنص. فالله قد خلق الأرض والسماوات في ستة أيام ثم إستوى على العرش. يسأل هذا الملحد : لماذا لم يستخدم الله قدرته القائلة بمبدأ "كن فيكون" في خلق السماوات والأرض فلا يحتاج إلى ستة أيام؟ ثم يسأل: ما المقصود باليوم الواحد من هذه الستة، هل هي أيامنا المُقسمة على أربع وعشرين ساعة أم هي أيام أخرى لا نعرفها؟ ثم يسأل: لماذا إستوى على العرش، هل العرش مكتب للقيادة أم له مفهوم آخر؟ هذه هي الأسئلة التي تجعل الملحد في حيرة دائمة كما أسلفنا. إن حيرته تنشأ من محاولتهِ معرفة كل شي بإدراك حسي ناسياً أنه لو إستطاع إدراك كل شيء بقدراته الحسية لأتى على نهاية للإله وللكون الذي خلقه جاهلاً بأن لله الخالق حكمةً لا تُدرك بل يمكن إدراك جزء منها يظل صغيراً مهما تعاظم.

***

يُثار في علم النفس الديني سؤال يتكرر: لماذا يلجأ الإنسان إلى الإلحاد عندما يعجز عن تحقيق حالة الإيمان بالله؟ بمعنى آخر: هل الإلحاد هو النقيض الدقيق في المعنى للإيمان؟. نحاول أن نتدبر الآن الإجابة فنقول: هل يستطيع تلميذ الرياضيات أن يقول عن مسألة حسابية يعجز عن حلَها بكل محاولاته إنها غير موجودة إنطلاقاً من عجزه عن حلِها؟

إن قال ذلك فإنه يكون قد "ألحدها" أي ألحدَ بها، وهذا ما يخالف المنطق في مجال الفلسفة الطبيعية " القانون الطبيعي". معنى هذا أن الإلحاد لا يناظر الإيمان معنىَ أو مبنى. فإنك لم تكن مؤمناً فلا يعني أنك ملحد بالضرورة. إن المُلحد مؤمن مؤجل يزول إلحادُه في أية لحظه.

***

لقد عرف علم النفس خمساً من الحواس بخمسةٍ من أعضاء الحس ولكنَ هناك حاسةٌ تفوق هذه الخَمس إسمها "الحاسة السادسة"، وقد سُميت كذلك إختصاراً لأنها تشمل أكثر من حس أو إحساس، فيصحُ هنا أن نسميها "الحواس السوادس" أو " حواس ما بعد الخمس". وفي هذه الحاسة يختلف الناس فينشأ من هذا الإختلاف تفاوت الناس في " الإلهام" و "الإستنباط" و " الإستنتاج" و "الحدَس" و " الإستنباء" و" الإبداع".

إن تفاوت الناس في الحواس الخمس لا يحمل أو يملك تأثيراً فيهم مثلما يملكه تفاوتهم في الحاسة السادسة. فهناك عُميانٌ فاقوا المبصرين قدرةً على الإبداع. إن الحاسة السادسة هي ناتج صراع الإنسان مع متحدياته من الغوامض.

وأولُ الغوامض هو " السِرُ" أو " المخفي". وأعلى سرِ هو الله. فعلى الرغم من اعتمادنا في إدراكه على آثاره في خَلقه، يظل سرَاً أكبر في كيفية إختلاف هذه الآثار تكويناً وتلويناً وظهوراً وزوالاً.

إن الفص غير المُهيمن من الدماغ " وهو الفص الأيمن عند أغلب الناس" هو مركز الإلهام كما دلَت على ذلك دراسات كثيرة. إن الفص مكفوف عن عمله بحكم هيمنة الفص الآخر الذي يختص بالحساب والعقلنة والإدراك المباشر والتعامل اليومي مع الجوع والعطش والجنس والنوم.

وقد قَدر بعضهم أن ما يظهر لدينا من قدرة هذا الفص المكفوف لا يتجاوز 10% . فلو أطلق العنان له لأظهر الإنسانُ الفائقَ من خياله. وهذا ما يقودنا إلى القول بأنه من الممكن كثيراً أن يكون هذا الفص هو المسؤول عن مفردات الإلهام والحدس والإستنباء والتخيل.

إن المُبدعين من الشعراء والرسامين والموسوعيين والنحاتين هم الذين يمكلون نسبةً من إنطلاق فصوص أدمغتهم المكفوفة تفوق غيرهم من العقلانيين. معنى هذا في ضمن معانٍ أخرى أن الفص المهيمن مسؤول عن العيش وأن الفص المُتخيِل مسؤول عن الحياة. وخير طريق إلى الإيمان بالله هو طريق الفص المسؤول عن الحياة لا عن العيش. فلأنَ الحيوانات البهائم تعيش، لا تحتاج إلى الإيمان، ولأنَ الإنسان يحيا فهو يحتاج إلى الايمان بالله.

***

بعد أن تحدثنا هنا عن عوامل الخوف وعلاقته بالإيمان، نَود الحديث عن عامل آخر في تحديد أسبقية الظهور للإيمان أو الإلحاد في حياة الإنسان. ونعني به عامل العُمر.

إن نسبة من بدأوا حياتهم ملحدين وآلو في خاتمتها إلى الإيمان تفوق نسبة من بدأوا حياتهم موحدين مؤمنين ثم آلو في خاتمتها إلى الإلحاد. هل لتقدم الإنسان في العُمر أثرٌ في هذه الظاهرة؟

إن التقدم في العُمر " Aging process" يخضع لمفهومين: مفهوم النضج "Growth" ومفهوم النمو "Development". فقد ينضج دماغ الإنسان حجمَاً وتكويناً تشريحياً وأداءً يومياً ولكنه لا ينمو حيث يُمثل النضج إرتقاءاً كمياً. ويُمثل النمو إرتقاءاً وظيفياً. إن ممارسة الدماغ الإنساني لعملية النضج يعتمد على عوامل واضحة كالتغذية الصحيحة والسلامة من الأمراض العضوية والأمراض النفسية، بينما تعتمد عملية النمو على طريقة التعلُم والتحدي الإجتماعي وقراءة المعارف والحوار والنقاش.

وكُلما إزداد النمو أو إنتظم تنبه الإنسان على مسألة الإيمان والإلحاد، حتى يؤول في آخر مطافه إلى الإيمان بعد أن تهدأ فيه اللجاجة والصخب والإستعراض والتقريرية والخطابية وبعد أن يرتطم بصخرة التحدي التي رسمتها أو أوجدتها أمامه كفُ القادر الذي لا يٌقَدر عليه. إذن لماذا لم يُؤمن بالله عُلماء باهرون في علمهم ونظرياتهم وظلوا ملحدين إلى أن ماتوا؟ السبب في ذلك في ضمن أسباب كثيرة هو أنهم إنشغلوا ب " المُظهر" حيث تعاملوا مع السرِ في الشيء ذاته.

يضاف إلى ذلك أن إستمرارهم في الإلحاد كان نتيجة عدم قرائتهم للنص الديني الذي أثبتت التجارب أنه قادرٌ على لفت إنتباه أرقى العلماء مقاماً عقلياً إلى الحقائق كانت خافيةٌ عليهم. ومثالٌ على ذلك ما حدث للكثير منهم حين قارنَ ما وصل إليه من إكتشاف بما كان القرآن أشار إليه سابقاً، فآمن بالنص مروراً بالنبي إنتهاءً بالمرسل الأعلى: الله.

يعني هذا أن العقل مهما تعاظم فإنه ليس نائباً عن النص الديني في ظاهرةٍ من الظاهرات بل هو مطابقٌ له في أحسن حالاتِه.

***

لقد عالج علم النفس الديني في بعض الدراسات المتأخرة زمناً في الظهور مسألة الإشراك بالله، فوضع مرحلة " الشرك" في الوعي الإنساني في منطقة وسط بين الإلحاد والإيمان و إعتبرها خطوة تتدرج بهذا الوعي صعوداً إلى مرتبة الإيمان أو التوحيد. إنَ الدين يَعدُها في منزلة الإلحاد لأن الله لا يغفر أن يُشرك به ولكننا هنا ندرس هذه الظاهرة في منظور نفسي.

إن المُشرك بالإله يختلف عن الملحد أو الكافر. والمُشرك يؤمن بوجود الله كما حدث هذا لعرب ما قبل الإسلام في جزيرة العرب، لكن إيمانه ناقص منقوص لأنه لم يستخدم صيغة المُطلق المتنزه عن الوصف في خِطابه مع خالقه. إنَ هذا التجزيء لمفهوم الإيمان بوضعه على مراحل يُوضح لنا حاجة وعي المشرك إلى فهم الصورة الكلية لله.

ولو فحصنا إدراك المشرك وأثر هذا الإدراك في تكوين شخصيته لوجدنا الآتي:

1- شخصية المُشرك تفتقر إلى الإلهام ومن ثَمَ فهي تعتمد على الآخر في تحقيق أمانيها ورجائها (شخصية اعتمادية تستعين بالملموس من الأشياء في الوصول إلى القوة الأعلى المُهيمنة).

2- شخصية عانت من سطوة الأب في طفولتها فكانت تستعين في قضاء مطلوبها منه بالأم كمرحلة وصول إلى عطف الأب.

3- شخصية تتمتع بإدراك ساذج تتعامل مع المعلومة تعاملاً مباشراً (الكرة مقعرة لأن في داخلها ومُحدبة لأنها في خارجها لكنها ليست مقعرة ومحدبة في آن نظراً لإفتقار تلك الشخصية إلى الإدراك الكُلي (Global Perception).

4- شخصية تعتمد آلية الدفاع اسمُها (Displacement) أي الإزاحة، ومعناها أنها تُسقط إعتقادها وتُزيحه إلى أقرب محطة ممكنة كالإعتقاد بوساطة الحجر أو الأفعى أو البقرة أو العنقاء أو النجوم في الوصول إلى الغاية القصوى.

5- شخصية مضطربة المزاج سرعان ما تثورُ على القوة الأعلى (الإله) بتحطيم وسائل الرجاء (قبائل تصنع وسيلة الوصول إلى الله من التمر وتأكله عندما تجوع).

6- لا تتزامن هذه السذاجة في التفكير العاطفي، الوجداني ذي البعد الواحد مع التفكير العقلي لدى هذه الشخصية. فقد تجد رجلاً أو رجالاً في مجتمع مُعيَن أو تجد مجتمعاً كاملاً يُحققُ أداءً عقلياً باهراً في العلوم والآداب والفنون لكنه يمارس طريقة بدائية في تعامله مع المُعتقد بالههِ.

(في الأديان غير السماوية نجد رواداً في النظرية الأخلاقية والإبتكار العلمي لكنهم يمارسون طقوساً تافهةً لا توحي بأي إرتقاء في التعامل مع التوحيد).

ومن مُجمل ما أوردناه عن شخصية المُشرك من سمات نخلُصُ إلى ذكر الأعراض المرضية الآتية في تلك الشخصية:

1- العُزلة: كثيراً ما ينحسر هؤلاء الوسطيون الإرجائيون في مناخ مكاني وزماني خاصينِ بهم لأنهم لا يملكون ما يدافعون به علمياً عن سذاجة تَصورهم. فلكي لا يُحرَج أمام البرهان العلمي يميل هذا المُشرك إلى العزلة الإجتماعية (Social Isolation).

2- الضلالة الحسية (Illusions): إن المُشرك يرى في الحجر وما يُصنع منه من أصنام أو في الأفعى وما تنفئه من سم قاتل أو في وميض النجمة في الليل مالا يراه غيره حيث يعاني من فقدان الواقع في تعامله مع الأشياء.

3- الهلاوس (Hallucinations): فصوت الرعد هو صوت الحوار الدائر بين الوسيط والرب، والمطر هو إستجابة باكية من الغيم لسوط الإله الضارب له بقوة؛ والأفعى هي المسيطرة الأولى على النزوع البشري في شجرة الإغراء وتملكها إستمرار سيطرة الإنسان في لاحق أجيالهِ وسلالته على الأرض، وبذلك فلكل هذه الوسائط مذاقات خاصة في الصوت والمظهر والمذاق والشم واللمس.

4- الأفكار الواهمة (Delusions): وأجلى ما تتمثل به الوسيطية (الشرك) عنا هو إعتقادات بكرامات كثير من الأشياء والأشخاص، فيصبح الكاهن أو المشعوذ أو الساحر وسطاء وهميين بين الفرد والإله. وكثيراً ما يستشري الوهم بصاحبه فيتوهم نفسه وسيطاً خصوصاً عندما يبلغ درجة التفوق الذاتي الواهم (Manic Thinking).

***

من جملة ما أوردناه من سماتٍ يتَسم بها المشرك نصل إلى حقيقة واحدة تقول ببدائية فكر المُشرك بالأله الواحد (التفكير الإبتدائي، Primitive thinking). ولأجل أن نجعل القارىء واضحاً معنا ومع نفسه، نودُ أن نضع أمامه مقارنة بين ما يُسمى بالتفكير الإبتدائي (Primitive thinking) وما يسمى بالتفكير الناضج (Mature thinking) على النحو الآتي:

التفكير البدائي

1- قديم وأغل في القدم يمتد إلى أغوار التاريخ الإنساني

2- يعتمد في محتواه على الميثولوجيا (الخرافة والأسطورة) والتابو والطوطم

3- يعتمد البعد الواحد (البعد الزماني أو المكاني أو الشخصي)

4- يعتمد فكرة المُقدس المُحرم التي تمنع المساس بالمجهول حذراً منه.

5- يحاول أن يجعل الظاهرة الطبيعية قاهرة للإنسان.

6- يميل إلى جعل المجتمع مُثقلاً بالمزيد من الأعراف والنواميس التي تُقيد تفكيره.

التفكير الناضج

1- حديث مبتكر يعتمد على أحدث ما وصل إليه العقل البشري من إنجاز

2- لا يعتمد على الميثولوجيا وإنما ينظر إليها على أنها أوليات فكرية ظهرت كآليات دفاع ضد مجهول مخيف

3- يعتمد الأبعاد الثلاثة لأية قضية (الطول والعرض والعمق) ويضيف إليها البعد الرابع (الزمن)

4- يعتمد التفكير المفتوح الذي لا يضع نهاية لأي سؤال بأي جواب مُغلق.

5- يُحرض الإنسان بأن يجعله قاهراً للظاهرة الطبيعية.

6- يميل إلى تحرير المجتمع والإنسان من ربقة المزيد من الأعراف والنواميس ويحاول إطلاق الفكر من قيوده.

***

من الجدول الذي قرأناه الآن معاً، نجد أن سمات التفكير الإبتدائي تنطبق بكاملها على خارطة تفكير المشرك فيما ينطبق التفكير الناضج بكامل سماته على خارطة تفكير الموحد أو المؤمن. نحاول الآن أن نذكر شيئاً عن أثر الإختلاف الجنسي في الإنحياز إلى الإلحاد أو الإيمان.

نقصد بالإختلاف الجنسي حالة الإنسان بين الذكورة والأنوثة (الرجل والمرأة). إن الدراسات الكثيرة التي قرأناها تُشير إلى أن المرأة أكثر ميلاً إلى الإيمان من الرجل، ولكنها تتعامل مع إيمانها بطريقة تختلف عن الرجل في تعامله مع إلحاده.

هناك أسباب كثيرة تقف وراء هذه القضية. إنه من النادر أن تجد المرأة ميالةً إلى مناقشة الإلحاد والإيمان لأنها تميل دائماً (إلا في القليل) إلى الأخذ بالمسلَمات. إن قضية الإلحاد قضية عقلية والمرأة تضجر من الحوار العقلي وتُفضل عليه برودة الحوار العاطفي أو الوجداني.

وفي الوقت الذي غادر فيه الرجل مرحلة الإعتقاد بالميثولوجيا ما زال الكثير من النساء يؤمن بقوتها حتى في صناعة التفكير أو توجيهه. فالمرأة قدرية لا تجادل في المُغلق الشائك من النص وتقنع بأبسط الأجوبة لأصعب الأسئلة.

هذا لا يعني أن المرأة تفكر تفكيراً إبتدائياً لكنها كائن يُرجىء الكثير من المشكلات إلى عامل الزمن الكفيل بحلِها. والمرأة لا تميل إلى التحدي الفكري. كما أن المرأة يُغريها الإقناع، فإذا توفر لها رجل مُلحد يملك قوة الخطاب فإنه كفيل بإقناعها أو قل بإلباسها قناع الموافقة.

إن أقوى إيمان بالله هو الإيمان قبل المعرفة لأننا جميعاً آمنا بالله قبل أن نعرفه وهذا ما يُحسب للمرأة ولصالحها على حساب صفحة الرجل فهي تُؤمن قبل المعرفة حتى إذا برزت الأخيرة زادتها إيماناً.

ولدينا دراسة قام بها صاحب هذا الكتاب وجدت أن الكتب الدينية التي تقتنيها المرأة هي الكتب المطمئنة المليئة بالدعاء والتسبيح ورجاء الطالع الحسن، فيما يميل الرجل إلى إقتناء الكتب الدينية التي تُثير الكثير من الأسئلة القلقة الباحثة عن أجوبة تبدو أحياناً مستحيلة. والبنت المولودة لأب مُلحدٍ وأم مُوحدة تنحاز كثيراً إلى أُمها ولا تنسى أباها من الدعاء له بالعودة إلى الإيمان، على عكس الإبن الذي كثيراً يُجاري أباه.

 

د. ريكان إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم