صحيفة المثقف

المعنى التاريخي للوضع الحاضر (1-2)

علي رسول الربيعيدائما الآن وهنا

المقدمة: نواجه اليوم "نهاية العالم كما نعرفه"[1] فيبدو أن أسباب الحديث عن التحولات في العالم أكثر إقناعًا من أي وقت مضى، واصبح من البديهي أن نقول عن وضعنا الحالي نحن نعيش في زمن التغيير الكبير، لكن كما هو الحال دائمًا عندما نواجه تغيرًا كبيرًا، نحتاج إلى مقاومة " الغطرسة التاريخية" وهي النزعة المغرية لمركزية الذات التي تضعنا في مكانة متمايزة و بشكل غير معقول في مركز التاريخ والعالم.

هناك تقاليد فلسفية عميقة، تعود أساسًا الى إيمانويل كانط، الذي حاول التعامل مع مهمة تحديد المعنى التاريخي للوضع الحاضر كموضوع فلسفي. نعتقد أحيانًا، على الرغم من أننا كمختصين وباحثين في الفلسفة، أننا  "لا في مكان"، إذا ما قيلت لنا الحقيقة- وإذا أصغينا بعناية للتقليد الفلسفي الأنطولوجي النابع من هايدجر وآخرين - فإننا ندرك أننا دائمًا منغمسون بالفعل في العالم نفسه الذي نحاول أدراكه- "الآن" و "هنا".

لقد تم التعامل مع هذا الأمر باعتبار مهمة فلسفية جادة منذ أكثر من قرنين من الزمان: منذ محاولة كانط للإجابة على السؤال الملح" ماهو التنوير؟ "والتأريخ لهذا السؤال في ظاهريات الروح في فلسفة هيغل، وعبر آرنديت، فوكو، بوفوار، والأعمال اللاحقة لفون رايت وهابرماس، إلى مساهمات أكثر حداثة من قبل هارت ونيغري، حتى نوسباوم، وزيزيك.

لقد تم توسيع المهمة ونطاق وجهات النظر مع مرور الوقت، حيث برز نوع جديد من الخبراء والأختصاصيين في مجالات عديدة، تستند أساسًا الى العلوم الاجتماعية مثل: أولريش بيك، وأنتوني جيدنز، وزيجمونت بومان، وساسكيا ساسين، وديفيد هيلد، وغيرهم. واجهنا على مدى العقود القليلة الماضية، أيضًا شبكة من المفاهيم الجديدة التي تم تصورها في إطار طموح للتعامل مع عالمنا المضطرب، وتهدف إلى تسمية الحاضر وتحديده. إن السعي وراء تحديد التوجه في عالم دائم التغير للحصول على مزايا تنافسية قد تحول إلى أعمال ضخمة، مرتبطة بمجموعة متنوعة من الأعمال التجارية، والمسح الضوئي، والاستراتيجية الجغرافية، والتشخيصات المعاصرة بما في ذلك توقعات تلقي تنبؤات محددة حول المستقبل.

نحتاج، في هذه الحالة، إلى أن نسأل أنفسنا عن نوع المساهمة التي يمكن أن تقدمها فلسفة. هل يمكن أن يكون هناك فهمًا أكثر شمولاً لظروفنا الحالية ناشئًا عن القدرة على تطوير وجهة نظر شاملة مع مفاهيم أكثر دقة، أو سياق تاريخي أكثر شمولاً للتحولات الحالية، أو تفكير فلسفي نقدي يؤدي بالتالي الى تعزيز فكرة أن "عالم آخر ممكن"؟ أن هذه المساهمات صالحة، لكن مع ذلك، ووفقًا لرأيي فإن المساهمة الأكثر حسماً للفلسفة ستكون التعامل مع الوضع النظري الغامض للغاية لهذه التشخيصات لوضعنا المعاصر، والعجز الهيرمينوطيقي (علم التأويل) الخطير للعبارات التي تزعم الموضوعية؛ وعلى وجه الدقة، لتحديد الطابع الإبستيمولوجي (المعرفي) التفسيري المحدد لهذه المحاولات لتسمية الحاضر وتحديده، بالإضافة إلى مؤشراتها الأنطولوجية (الوجودية) من حيث التدخلات في واقع ناشئ.

مفاهيم المابعد

ظهرت شبكة مفاهيم المابعد على المشهد الفكري ابتداءً من العقود الأخيرة من القرن العشرين، مما تسبب في صراعات دائمة بشأن الوضع المعياري للحداثة في مجموعة متنوعة من المجالات مع التركيز على مناقشات ما بعد الحداثة. وهكذا، عندما لم يعد من الممكن تصور الحداثة على أنها أوضاع غير معقدة، فقد أثيرت أسئلة حول إلى أي مدى ينبغي الاعتراف بالحداثة كمشروع إشكالي أو غير منجز أو حتى أكثر خطورة ومشروع لم ينجح تماما. إنها أوضاع مثيرة للجدل في حد ذاتها بالفعل، فازداد التعقيد المتأصل لمفاهيم مثل التقليد والحداثة وما بعد الحداثة إذا تم جمعها معًا. والحقيقة التي لابد أن تؤخذ في الاعتبار هي أن الحداثة نفسها واحدة من أهم تقاليدنا اليوم. نظرًا لانخراطنا في العالم والطابع الانتقائي الحتمي لطرقنا في التعامل مع الواقع والماضي، فنحن دائمًا جزء من التقاليد، وسوف يكون هناك دائمًا نوعًا من  القانون أوالشريعة التي تحكم اهتماماتنا وتفضيلاتنا الفكرية.

ومع ذلك، فإن إحدى النتائج المهمة للخلافات حول ما بعد الحداثة هي إحداث حالة من النقد الذاتي داخل الحداثة نفسها، والتي يُنظر إليها أيضًا على أنها نوع من المواجهة الذاتية وفقًا لـ "العصر الثاني للحداثة".[2] يكشف الاعتراف بأن العرب والأقليات التي معهم والعبيد في أمريكا ربما كانوا أول البشر الذين عانوا ما من الجانب مظلم من الحداثة، أجندة خفية من العنصرية، مركزية أوروبا مركزية الولايات المتحدة، وكذلك البربرية المتأصلة وهو ما يبدو أنها تسكن في لا وعي كل حضارة.[3] إن من الحقائق المعروفة أن ملكًا أو إمبراطورًا في أوائل القرن العشرين كان يتمتع بمستوى معيشة مماثل مع أي رجل عادي من بلد متقدم في نهاية القرن نفسه - ومع ذلك ، قُتل خلال هذا القرن عدد أكبر من الناس مقارنة بالتاريخ السابق بأكمله.[4] كانت تناقضات القرن العشرين وعقدي الواحد والعشرين - التي زادت أيضًا من خلال مراعاة التجارب المتناقضة والتقدم الاستثنائي للديمقراطية وحقوق الإنسان - متوقعة من نواح كثيرة من قبل نيتشه، الفيلسوف الذي مات على عتبة القرن العشرين، حيث حدد الكثير من أجندة فلسفة ما بعد الحداثة.

ومع ذلك، ظهرت كلمة "ما بعد الحداثة" في بعض الأحيان باعتبارها كلمة طنانة ورطانة تعني أي شيء وتشير إلى كل شيء، وبالتالي لا تعني شيئًا. لقد جعل هذا الأمر مناسبًا للسؤال عما إذا كانت ما بعد الحداثة مجرد نوع جديد من المثالية المتعالية أو عودة شبح هيجل الذي يطارد توجهنا في التاريخ مرة أخرى. لكن لابد أن تُفهم الأفكار الفلسفية التي غالبًا ما يتم تقديمها تحت عنوان ما بعد الحداثة في ارتباطها ببعض التغييرات الهامة والتي تغيًر أو تحول عالمنا بطرق عميقة بالفعل. وتشمل هذه التحولات الجيوسياسية الدراماتيكية، التي تحول نظامًا عالميًا سابقًا لمركزية أوروبية وهيمنة أمريكية لاحقة إلى نظام عالمي ثلاثي الأقطاب ناشئًا بسبب صعود القوى العظمى في شرق آسيا.

لا يُنظر إلى اللغة أبدًا على أنها أداة بريئة ونقية، وبالتالي فإن القول: تم التعبير الفلسفة الحديثة بشكل أساس بثلاث لغات من أصل أوروبي - الإنجليزية والألمانية والفرنسية- قد يكون له تأثير هائل سيئ على تفكيرنا الفلسفي. بالتأكيد، أن أوضاع الفلسفة السائدة في الفكر العربي هي علامة تحثنا بجدية على "إعادة التفكير في الفلسفة" بطرق أساسية. وفي هذه الحالة، تُجبر الفلسفة، إلى جانب التخصصات الأخرى ايضًا، على مواجهة ومراجعة الخصوصية الفعلية للعديد من أدعاءات العالمية. لا يكمن الحل في محو هذه التقاليد، كما لو كانت محاولة بدء التفكير الفلسفي من الصفر دون أي شروط مسبقة، ولا تطوير هذا النوع من الفلسفة المتناقضة مع الذات، والتي تتجلى في مواقف فلسفية مثل "المركزية الأوروبية ضد المركزية الأوروبية". [5]

جدول الأعمال تحدده العولمة

بعد المناقشات العنيفة واللغط الكثير حول الحداثة وما بعد الحداثة في الفلسفة- وصعود ما بعد البنيوية بالإضافة إلى فلسفة ما بعد التحليلية على أعتاب الألفية - انخفض عدد "مفاهيم المابعد" كما انخفضت الطاقة الفكرية في الجدل والخلافات المتعلقة بالحداثة. تغير جدول الأعمال بشكل كبير بعد ذلك. وظهر مفهوم جديد، يتحدى الفلسفة للتعامل مع الحقائق الجديدة – أنه العولمة.

لا يبدو أن تعريف العولمة بعبارات غامضة تشير إلى الترابط العام في جميع أنحاء العالم كافٍ. فأفهم العولمة بدلاً من ذلك، وفقًا لمانويل كاستيلس، كشيء أكثر تحديدًا يشير إلى التأثيرات التآزرية والطاردة لمركزية اقتصاد عالمي غير منظم مع ميزات متزايدة عابرة للحدود الوطنية وصعود أنظمة معلومات شبكية جديدة متقاربة رقمياً تعمل في في الزمن الفعلي. بدأ يتم تنظيم الأنشطة المهيمنة في عالمنا حول شبكات مدعومة بتقنية المعلومات على نحو متزايد، وعلى مدى العقود الماضية، بدأنا نشهد للمرة الأولى في تاريخ البشرية، تزامنًا عالميًا وسوقًا يعمل في الوقت نفسه فعليًا، مع كل عواقبه غير المتوقعة.[6]

لقد أدت العولمة إلى نمو اقتصادي لا يضاهى وزيادة مستويات الصحة في العالم - ولكنها في الوقت نفسه أنتجت نموًا هائلاً في عدم المساواة بين الدول والأفراد. ونظرًا لكون التطور أحادي الجانب، حيث تكون الأبعاد التكنولوجية والاقتصادية لعملية العولمة متطورة جدًا عند مقارنتها بالبنى التحتية الاجتماعية والثقافية والسياسية الضعيفة، فإن خطر حدوث صدمات ثقافية كبير جدا. بالتأكيد ، نحن بحاجة إلى تذكير أن هناك العديد من الروايات المختلفة والمتباينة حول العولمة ، والتي تولد تدريجياً صدام العولمة.

تحدد عملية التحول هذه اليوم أيضًا قدرًا كبيرًا من الأجندة الفلسفية الحالية. فنحتاج إلى أن نسأل أنفسنا بجدية، ليس فقط ما تعنيه العولمة للفلسفة، ولكن ما هو نوع المساهمة التي تقدمها الفلسفة استجابة للتحديات التي تطرحها عملية العولمة. علاوة على ذلك، يبدو قد تم التوصل إلى إجماع في السياسة العالمية حول أنسب استراتيجية للتعامل بنجاح مع تحديات العولمة ، الأً وهي التركيز القوي على التنافسية العالمية ودعم التحول السريع إلى اقتصاد قائم على المعرفة. وفقًا لذلك، يتم تحديد المعرفة، في مجتمع المعلومات الذي حل محل الصناعة، بشكل متزايد كعامل رئيسيمع توقعات طوباوية؛ ومن ثم فقد تم تصميمها على أنها المحرك الذي يعمل على توفير الطاقة الاقتصادية. عند إعادة قراءة "كلاسيكيات ما بعد الحداثة" في هذا السياق، مثل " وضع مابعد الحداثة"[7] لجان فرانسوا ليوتارد لابد أن نعترف ببصيرته الثاقبة في تاكيده على الأهمية الاستراتيجية للمعرفة في اقتصاد المعرفة الناشئ. يمكن تمييز ثلاثة جوانب مهيمنة في هذه الرأسمالية المعرفية الجديدة، التي تم تشكيلها وفقًا لفضيلة ما يُعرف بنظام المؤسسات المرن، وهي: الكفاءة (التعلم مدى الحياة كسيناريو حياة جديد) والأدلة (التركيز الجديد على القياس والكفاءة والمحاسبة) والابتكار (الصناعات الإبداعية). ومع ذلك، تخاطر الفضيلة السائدة للمرونة، في هذه الخطابات الجديدة المتعلقة بالمعرفة بتدمير المتطلبات الثقافية المسبقة لخطاب فلسفي نابض بالحياة أيضًا. بالإضافة إلى ذلك، لا يبدو هذا النمط الجديد السائد والمرن لتنظيم المعرفة كافياً على الإطلاق لدعم تنمية المعنى والهوية. وبالتالي، من أجل مقاومة تطور إنسان مرن - إنسان بلا ذاكرة وقناعة ومسؤولية - نلجأ إلى المصادر الفكرية التي توفرها الهيرمينوطيقا (علم التأويل). وهذا سيكون الجزء الثاني من الدراسة.

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

...................................

[1] فالرشتاين،إيمانويل، نهاية العالم كما نعرفه، ترجمة فايز الصًياغ، هيئة البحرين للثقافة والاثار، المنامة، 2017.

[2] Ulrich Beck, Power and counter power in the global age (Frankfurt: Suhrkamp, 2002).

[3] Cornel West, The American Evasion of Philosophy. A Genealogy of Pragmatism (Madison, WI: The University of Wisconsin Press, 1989);

Beyond Eurocentrism and Multiculturalism, I-II (Monroe, ME: Common Courage Press,1993).

[4] Eric Hobsbawm, Globalisation, Democracy and Terrorism (London: Abacus, 2007), p. 15

[5] فالرشتاين،إيمانويل، نهاية العالم كما نعرفه

[6] Manuel Castells, The lnfonnationAge I-Ill(Oxford: Basil Blackwell,1998).

[7] Jean-François Lyotard, La condition postmodern. Report on Knowledge (Paris: Midnight, 1979).

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم